فالدستور والقوانين، والنظم، والتقاليد، تفرض على المواطن - أحب هو ذلك أو كره - كثيرا جدا من الواجبات التي لا اختيار له في القيام بها، كما أنها كذلك تقرر له كثيرا جدا من الحقوق، التي لا اختيار للآخرين في إقرارها له، وهي تفرض عليه تلك الواجبات، وتقرر له هذه الحقوق، دون أن يكون لنوع عقيدته الدينية دخل في الأمر، وإذن فمصرية المصري هي الأساس، إذا كانت زاوية النظر مرتكزة على العوامل الاجتماعية التي ذكرناها.
ولكن هل يمنع ذلك أن نجد مصريا يعبر لنا عن شعوره الحقيقي الداخلي، فإذا به قد ضاق بمصريته تلك، وأخذ يفكر فعلا في هجرة عسى أن تنتهي به إلى التخلص من جنسيته واكتساب جنسية أخرى؟ فمثل هذا الإنسان، لو طلبنا منه أن يرتب صفات هويته كما يشعر هو لا كما هو مفروض عليه من خارج ذاته، لما وضع مصريته في أول الدرجات.
إنهما زاويتان للنظر ، لا زاوية واحدة، قد يتسع البعد بين الحكم بإحداهما عن الحكم بالأخرى، فتختلف صورة «الانتماء» عند المنتمي في وقوعه بين الحالتين، على أن المثل الأعلى للمجتمع السوي، هو أن نجد ما يشعر به المواطنون من داخل ذواتهم، في ترتيبهم لدرجات انتمائهم متطابقا مع ما تتطلبه منهم الدساتير والقوانين والنظم والتقاليد، فإذا ما تحققت لنا تلك الحالة المثلى، جاءت مصرية المصري صفة أولى عن حب ورضا وطواعية، وبمقدار ما تضيق الزاوية أو تتسع بين أولويات الانتماء في نفوس المواطنين، من جهة، وبين تلك الأولويات في حساب المجتمع متمثلا في الدولة، من جهة أخرى، يمكننا قياس الاستقامة أو العوج في ظروف الحياة القائمة، وما ينبغي عمله من إصلاح في النظم الاقتصادية والتعليمية، والقضائية وغيرها ... فليست المسألة متوقفة على وعظ نلقيه على الناس عبر قنوات الإعلام، قائلين لهم بالكتب والنشرات والخطب والمقالات والأغاني والمسلسلات: إن انتماء المصري لمصر واجب، نعم: هو أوجب الواجبات، كما يعلم ذلك كل مصري علم بالفطرة ذاتها، إن لم يكن بحكم ما اكتسبه المصري من تعلق طبيعي شديد بأرض الوطن، لكن ذلك كله تتغير موازينه في قلوب الناس، وتأخذ المقومات الأخرى في مزاحمة الروح الوطنية على الأولوية والصدارة، كما حدث بالفعل بالنسبة إلى مئات الألوف من مواطنينا، من هاجر ومن لم يهاجر.
الوضع الطبيعي في البناء الاجتماعي السليم، هو أن تجيء مشاركة المواطنين في وطنهم، بالواجبات وبالحقوق، أسبق من مشاركتهم أو عدم مشاركتهم في الدين، وإني لأرجو من القارئ ألا يتسرع بانفعاله، ويعترض صارخا: كيف يكون هنالك ما هو أسبق من الدين؟! فالمسألة هنا ليست تفاوتا في درجات «الأهمية» - كما أسلفت القول - فالعقيدة الدينية أيا كانت، هي عند صاحبها في قرة عينه وصميم قلبه، تلازمه أينما كان، أما إذا وجهنا أنظارنا، لا من داخل المؤمن بدينه وما يشعر به - بل من جهة البناء الخارجي الذي يسكن فيه ذلك المؤمن مع ملايين من مواطنيه، فالحكم في ترتيب الأولويات يختلف، وربما اتضح الأمر إذا شبهنا حياة المواطنين معا في وطن واحد ، بركاب سفينة تسافر بهم في وسط المحيط، فبأي منظار ينظر قائد السفينة إلى سلوك الركاب من حيث المفاضلة بين شيء وشيء، أو من حيث خطأ السلوك وصوابه؟ إنه ينظر بمنظار سلامة السفينة بركابها، وأما العقيدة التي يؤمن بها كل راكب على حدة، فمتروكة لصاحبها، وهذا هو المعنى الذي عبرنا عنه في ثورة 1919 بعبارة شاعت حتى استقرت في الصدور، وهي عبارة تقول: الدين لله، والوطن للجميع.
وأسبقية الولاء الوطني على الشعور الديني، أمر لا جديد فيه، فوقائع التاريخ تقدم إلينا ما شئنا من أمثلة، وأبدأ بمثلين من التاريخ الإسلامي، حين لم يكن مضى أكثر من قرن واحد بعد ظهور الإسلام، وأحد المثلين مأخوذ من الحياة السياسية، والآخر مأخوذ من الحياة العلمية، أما أول المثلين فهو عن المشكلة التي ثارت في القرن الثاني الهجري، وأطلق عليها اسم «الشعوبية»، وهي تعني أن كلا من الشعبين العربي والفارسي، برغم أنهما كانا يعيشان معا تحت مظلة الإسلام، قد أخذ يفاخر الآخر بمزايا قومه على القوم الآخرين، ولم تقف تلك المفاخرة عند التشدق بكلمات الزهو، بل جاوزت ذلك لتصبح تدبيرا وتخطيطا للوقيعة بالخصوم، وإننا لنعرف كيف استثمر العباسيون هذا العداء القومي بين الفرس والعرب في الأمة الإسلامية الواحدة، بأن ناصروا الفرس سرا ليستعينوا بهم في هدم دولة الأمويين، لتقوم بعدها دولة العباسيين، حتى إذا ما انتصر العباسيون في خطتهم، ومكنوا للفرس جزاء ما عاونوهم به، جاءتهم الفرصة المناسبة ليعيدوا تعادل الميزان.
وأما المثل الثاني الذي نأخذه من الحياة العلمية، فهو أن علماء اللغة، حين انكبوا على دراسة اللغة العربية دراسة مستفيضة وعميقة، باعتبارها الخطوة الضرورية الأولى لفهم القرآن الكريم فهما مؤسسا وموثقا، رأينا هؤلاء العلماء وقد انقسموا مدرستين مختلفتين في وجهة النظر: إحداهما كانت في البصرة، ومن أبرز أعضائها سيبويه الفارسي الأصل، وأما الثانية فكانت في الكوفة، وكان رجالها عربا خلصا، فعلى الرغم من أن موضوع الدراسة علمي بحت، إلا أن الروح القومية تسللت إلى عملهم، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وكان مدار الخلاف بين الجماعتين، هو ماذا يكون مرجعنا في تمييز ما يجوز وما لا يجوز في اللغة واستعمالها استعمالا صحيحا؟ أما علماء الكوفة فلم يترددوا في أن يكون المرجع في الحكم هو ما قاله العرب الأقدمون وما لم يقولوه، فاللغة لغتهم، وعنهم يأخذ الخلف، فما استعملوه يعد صحيحا، وما لم يستعملوه لا يجوز لمن جاء بعدهم أن يجيزوا استعماله لأنفسهم، لكن علماء البصرة كانت لهم نظرة أخرى، وهي أن نترك للعقل المحض أن يشتق من الأصل اللغوي ما «يمكن» اشتقاقه من مفردات، وما دامت هي مشتقة وفق القاعدة فهي صحيحة حتى ولو لم نجدها مستعملة عند الأقدمين فيما تركوه من شعر ونثر، لا، بل إنه ليجوز لعلماء الخلف أن يصفوا بالخطأ ما قد استعمله أحد الأقدمين، إذا كان قد جاوز فيه القاعدة العقلية في استدلال الفروع من الأصول، فإلى هذا الحد يبلغ أثر الروح الوطنية حتى ليظهر ذلك الأثر في مجال العلم، وليس بخاف على أحد، أن علماء اللغة في البصرة وفي الكوفة جميعا، كانوا يدينون بالإسلام، بل وكان دافعهم الأول إلى البحث في اللغة هو خدمة الكتاب الكريم، لكن تلك المشاركة في الدين لم تمنع أن يتأثر كل فريق بما يعلي من شأن قومه، فعرب الكوفة يعلون من شأن الأصول العربية، والمتأثرون بالفرس بالبصرة، يلجئون إلى منطق العقل، ليكون المعنى الضمني في ذلك ألا فضل للعربي على سواه حتى في موضوع اللغة العربية ذاتها.
وانظر إلى العالم الإسلامي في يومنا هذا تجد روح الأخوة والمساندة قائمة بين شعب مسلم وشعب مسلم آخر، لكن الشعبين لا يترددان في أن يخوضا أهوال الحرب، أحدهما ضد الآخر، إذا اقتضت سلامة أوطانه أن تنشب الحرب، فإيران والعراق شعبان مسلمان، والمغرب وأهل الصحراء الغربية شعبان مسلمان، وباكستان وبنجلاديش شعبان مسلمان، لكن حدث في تلك الحالات كلها ما ظنه أبناء الشعبين المتخاصمين خطرا على سلامة الوطن، فأصبحت الأولوية أمرا مقطوعا به بين الانتماء للوطن والانتماء للدين المشترك.
على أن أولوية المشاركة في الوطن على المشاركة في الدين، وهي أولوية تكون خافية في وقت المصالحة، ثم تظهر إذا ظهرت دواعي المخاصمة، غالبا ما تكون الدعامة التي تستند إليها، هي قوة الدولة التي من شأنها أن تصون للوطن الواحد وحدته، أما إذا انهارت أركان الدولة في وطن ما، أو ضعفت ضعفا يدنو من الانهيار، فالأغلب هنا أن تطفو الانقسامات الدينية، ما دام السقف القومي الذي كان يظللها ويحميها قد زال فتعرت رءوسها، وإن لبنان في حربه الأهلية الراهنة لخير مثل يساق على ذلك، فقد ضعفت سلطة الحكم، فانكشفت انقسامات الدين لا بين المسيحيين والمسلمين فحسب، بل بين الطوائف المسيحية بعضها مع بعض، والطوائف الإسلامية بعضها مع بعض كذلك.
أظنني الآن قد وفيت المشكلة حقها من التوضيح، فيما يختص بطرفي المشاركة في الوطن، والمشاركة في الدين، ولكني مع ذلك وقد ألفت أن يقرأني كثيرون بأنصاف عقولهم، فيخرجون من قراءتهم بفكرة مغلوطة، فإني أوجز تسلسل التفكير فيما أسلفته، فأقول: إنه في الحالة السوية للبناء الاجتماعي، يكون هنالك - مبثوثا في صلب الحياة نفسها - عدة انتماءات للفرد الواحد، منها انتماؤه لمصريته، ومنها - في الوقت نفسه - انتماؤه لعقيدته الدينية، وعندئذ لا تظهر فكرة الأولويات بين تلك الانتماءات لأنه لا يكون ثمة داع لظهورها، لكن ذلك البناء الاجتماعي نفسه قد يصيبه خلل ما، مما يستدعي أن تنشأ المشكلة بأي الولاءين يبدأ المواطن، إذا ما جاء الموقف الذي يضطره إلى اختيار، وهنا أقول: إن الأولوية يجب أن تكون للانتماء القومي، ولقد بينت فيما أسلفته، أن تلك الأولوية في الحياة الاجتماعية التي هي شركة بين المواطنين جميعا، لا تنفي وجود ترتيب آخر يكنه الفرد الواحد في نفسه، فزاويتا النظر، من الخارج ومن الداخل قد تتباعدان في الفترات الشاذة، والمثل الأعلى هو أن تجيء الحياة الاجتماعية على صورة لا تثير الفارق في حساب الأولويات بين باطن وظاهر! إن الجسم الصحي السليم، لا يشعر صاحبه بوجود أجهزته؛ لأن تلك الأجهزة تؤدي وظائفها كلها معا كما يجب أن تؤدي، فالإنسان لا يحس بوجود عينه أو أذنه أو معدته، إلا إذا أصابتها العلة، وأما وهي سليمة فهو لا يدري أن له عينا ترى وأذنا تسمع ومعدة تهضم الطعام.
ولم أقل شيئا حتى الآن عن ترتيب الأولوية في الانتماء، بين مصرية المصري وعروبته؛ لأنها في الحقيقة واضحة ولا تحتاج إلى شرح طويل، وإني لأعجب ممن يجعلون منها مسألة تنتظر الجواب، وكنت أنا من هؤلاء حتى سنة 1956، ثم تبينت الحقيقة في وضوحها، ومنشأ الوضوح هو أن المصرية والعروبة تسيران في خط واحد، وكل الفرق هو ما بين الخاص والعام، فهنالك شبه في البنية المنطقية بين قولنا، الشعب المصري جزء من الأمة العربية، وقلنا مؤلفات الحكيم جزء من الأدب العربي، فللجزء الأصغر صفات تميزه ولا شك، لكن هذا التمييز لا ينفي عنه وقوعه جزءا من كل يحتويه، ولولا تعدد السيادات والقيادات في أجزاء الوطن العربي الكبير، لظهرت الحقيقة صارخة، بأن في هذا الوطن، من أقصاه ذات الشرق إلى أقصاه ذات الغرب، كيانا يتنفس ويتغذى من جذور ثقافية واحدة، حتى وإن تعددت الديانات بين بعض فئاتها، ولا غرابة، فكلها فروع انبثقت من أب واحد، هو إبراهيم - عليه السلام.
Bilinmeyen sayfa