هل يعقل بعد هذا كله أن نجعل منها عبثا ولهوا نجريه على الورق؟ لقد نظرت إلى صف المصانع الصغيرة التي يقع بينها مصنع الحروف، وذلك فيما سرحت به في أحلام يقظتي (هكذا استأنف صاحبي حديثه معي) وسألت نفسي أمام مصنع النحاس: هل يعقل أن يشكل الصانع نحاسه ليكون «لا شيء»؟ وأمام صانع الخشب: هل يعقل أن يشكل النجار الخشب ليصبح «لا شيء»؟ وأمام صانع الذهب والفضة: هل يعقل أن يشكل الصائغ معدنه ليخرج به «لا شيء»؟ أليس صانع النحاس يصنع الأكواب والأواني والطشوت والأباريق؟ أليس النجار يصنع المقاعد والمناضد والصناديق والخزائن؟ أليس الصائغ يصوغ الأقراط والأساور والمدليات فلماذا لا يحذو حذوهم صانع الكلمات من الحروف؟ إن تكوين الكلمات والعبارات هو ضرب من صناعات التشكيل، ولا بد للتشكيل أن يخرج ما هو نافع في حياة الإنسان العملية والفكرية والوجدانية جميعا، ولقد حدث في ألمانيا الغربية منذ سنوات قلائل، أن أراد اتحاد الكتاب هناك الانتفاع بمزايا النقابات الصناعية، فقام بحملة قلمية ينادي فيها بأن الكاتب إنما هو «صانع» كلمات وعبارات يشكلها على نحو ما يشكل النحاس والحداد والنجار والصائغ مادته، وما دام الأمر هو صناعة وتشكيل إذن لا بد أن تتجه صناعة الكاتب نحو أن يقدم للناس ما يحيون به.
قلت لصاحبي: وهل ترى أقلام كتابنا سيالة بما لا ينفع الناس؟ فأجابني صاحبي - وقد اشتد انفعاله - نعم، إني أرى ذلك في كثير من الأحيان، لكن قولي هذا يريد ضبطا وتحديدا؛ لأن سؤالا هنا يجب أن يقام وهو: ما هو مقياسنا الذي نميز به ما ينفع؟ إذ قد ينطق الناطق بما هو أقرب إلى التخليط الذي يضر ولا ينفع، ثم يزعم لكلماته هداية ونفعا، وتحديد النفع مرهون حتما بالهدف، والنافع هو ما يكون خطوة تقرب السائر من هدفه، فإذا قلنا إن الهدف في سير الحضارات لا بد أن يكون - آخر الأمر - مستقبليا وجديدا ومتساميا بالإنسان في عمله وفي فنه، وفي معيشته، وفي إبداعه، وفي حقوقه وواجباته ... إلخ، كان حتما علينا أن نقيس صناعة الكاتب بما هي فاعلته نحو دفع الإنسان إلى ذلك المستقبل المأمول، وأزعم أن كثيرا جدا مما يكتبه الكاتبون يشد الناس إلى الوراء، أكثر مما يدفعهم إلى الأمام ... إن معظم ما كتبه حملة الأقلام منا في قرن كامل، لم يستطع أن يزحزح الجمهور في وقفته ليلفت وجهه في اتجاه عينيه، بدل أن يظل مشدودا إلى قفاه، فلئن كنا قد نجحنا في تغيير الأفراد من حيث هم أفراد ذوو مهن وحرف ومعرفة، فنحن يقينا لم نوفق إلى نجاح مثله بالنسبة إلى الجمهور مجتمعا، إذ ما يزال نكفيه إشارة بأصبع واحدة من رجل واحد أن انظر وراءك يا جمهور الناس، ليسرعوا إلى تلبية النداء ...
قال صاحبي: فلما أفاقت خواطري السارحة من أحلامي يقظتي، عدت فواجهت اليوم الموعود من كل عام، الذي أحاول دائما أن أنساه لأنني أخشاه، وأخشاه لأنه يوم تحاسب فيه النفس ذاتها ماذا صنعت؟ إنني رجل صناعته الحروف معلما وكاتبا؟ يجمعها ويفرقها، ثم يجمعها من جديد، لعلها تحمل إلى الناس نصيبها من رسالة التغيير والتجديد، فإلا تكن فعلت اليوم، فربما تحقق لها ذلك غدا أو بعد غد.
هؤلاء الآخرون!
لم أصدق «توم لاندو»، عندما قرأت كتابه منذ لا أدري كم من عشرات السنين، وكان كتابه ذاك عن فن التعامل بين الناس، وقد كنت استعرته من صديق أوصاني بقراءته، لم أصدقه حين وجدته لا يكف - صفحة من كتابه بعد صفحة - لم يكف عن التحذير من صعوبة التعامل مع الآخرين، وأن الأمر في ذلك ليس من البساطة واليسر الذي يظنه الناس، فهؤلاء الناس كثيرا ما يعيشون مع غيرهم، وهم على وهم بأن معاملة الآخرين تجيء مع الفطرة في سهولة وكأنها شربة ماء، إنها لو جاءت مع الفطرة لهان خطبها، فهي مع الحيوان تجيء مع فطرته؛ ولذلك قلما يعترك حيوان مع حيوان من نوعه، وحتى إن فعل، جاء اعتراكه أقرب إلى ممازحة اللعب فيها إلى جد القتال، كما نرى أحيانا بين القطط والكلاب، وأما أفراد الناس فشأنهم في التعامل بعضهم مع بعض عجب من عجب، إن النمر لا يضمر الشر بالنمر ثم يبدي له الصداقة ليلهيه، ولا الضبع يتودد إلى الضبع وفي نفسه ما في نفسه من كيد، وأما الإنسان فقد أفسد غرائزه الطبيعية - التي هي غرائز حيوانية في أساسها - أفسدها بما أضافه من «ثقافات».
ولأن ذلك هو الإنسان على حقيقته، أخذ «لاندو» يعرض على قارئه تحليلاته العلمية، وما استخرجه من قوانين وقواعد، هي التي يجب على من يريد لنفسه حياة هادئة آمنة، أن يهتدي بهديها، ولم أصدقه في كثير مما ذهب إليه من طبيعة الإنسان، وكيف أصدق تلك النظرة السوداء؟ وكان الله قد أنعم علي بمجموعة من الأصدقاء وجدتهم نعم الأصدقاء، نتنافس، نعم، ونتعاتب، نعم، ونتخاصم حينا بعد حين - نعم، لكن ذلك كله كان معنا كما لو كان الواحد منا ينافس نفسه، ويختصم مع نفسه، وحقا جاءت صداقتنا مصداقا لقول شكسبير: «الصديق مرآة لصديقه»، وبأي معنى هو مرآته؟ بمعنى أنه يرى حقيقة نفسه في انعكاس سلوكه على سلوك صديقه، وانظر إلى بلاغة اللغة العربية حين بثت صفة «الصدق» في كلمة «صديق»، فالصدق هو جوهر الصداقة وصميمها، فلا صداقة بغير أن يصدقك الصديق بما يكنه في نفسه، ومن هنا تحقق الصداقة للصديقين أن تتواصل النفسان حتى لتصبحا وكأنهما نفس واحدة، فتتسع الآفاق لكل منهما، وتغزر خبرة أحدهما بإضافة خبرة صديقه إليها، أما إذا أحسست فيمن ظننته أول الأمر صديقا، أنه يسمع منك ما تنفضه إليه من نفسك، ثم يكتم عنك ما في نفسه، فاعلم أنه لا صداقة بينكما، وأنه قد يأتي يوم يستخدم فيه ذلك الآخر ما كان سمعه منك عن حقيقة نفسك، بارودا يقاتلك به فيرديك صريعا، إذا استطاع، ولم يكن شيء من ذلك بيني وبين مجموعة الأصدقاء التي أنعم الله علي بها ونحن في مرحلة الشباب؛ ولهذا لم أصدق «توم لاندو» في نظرته السوداء.
لكن أعوام العمر أخذت تكر، وأخذت معها الخبرة بالناس تزداد، فكنت كلما ازددت خبرة بالناس مع تعاقب السنين، تنقشع السحب التي تحجب عني ضوء الشمس شيئا فشيئا، وشيئا فشيئا أحس كأنني «بالذاكرة أقرأ توم لاندو» مرة أخرى، وأقلب صفحة من كتابه بعد صفحة، فلقد صدقت رؤيته، وتبين لي كم هو ضروري أن يتدبر الإنسان كيف يتعامل مع الآخرين، ليظفر منهم بنعيم الصحبة، وينجو بنفسه من جحيم العداوة والعدوان، لقد ختم جان بول سارتر إحدى مسرحياته - ولعلها - مسرحية «الذباب» - بعبارة تقول: «لجحيم هي الآخرون»، لكنني أصحح عبارته تلك لأجعلها تقول: «جنة الإنسان وجحيمه على هذه الأرض هما هؤلاء الآخرون»؛ لأنهم - حقا - مزيج من جنة وجحيم.
وما لي أسافر بعيدا لأسقط ما قاله هذا وذاك، في وجوب العناية والحذر عند التعامل مع الناس، وعندي حديثان شريفان فيهما الإرشاد والتوجيه، أما أولهما فهو قوله: «الدين المعاملة»، وأما ثانيهما فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، وإننا لنكرر هذه الأحاديث الشريفة، ولكننا قل أن نقف منها موقف المتدبر لمعانيها، ففي القول بأن الدين هو المعاملة، إشارة هادية إلى أنه لو لم تكن المعاملة بين الناس عسيرة المأخذ، كثيرة العثرات، لما اقتضت أن تنزل من السماء ديانات لتنظيمها وهداية الناس في مسالكها، ولو كان أمرها مكفولا بالفطرة الغريزية وحدها، لما احتاج الأمر إلى وحي وتنزيل، والذي يدعونا إلى التفكير هنا هو الإنسان فيه ما في الحيوان من غرائز، فلماذا كان ما أنتجته تلك الغرائز عند الحيوان، ألا يأكل حيوان لحم أخيه الذي من نوعه، فلا يأكل النمر نمرا، ولا الضبع ضبعا، في حين أن الغرائز نفسها وهي عند الإنسان لم تهده هداية الحيوان؟ إنه لا بد - على ضوء هذه المقارنة - أن تكون العلة المانعة هي ما أضيف للإنسان فوق غرائزه من قدرة على التفكير والتدبير، فكانت تلك الإضافة نعيما وجحيما في آن واحد، وصدق الله العظيم في قوله عن النفس البشرية:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها
فالأداة واحدة، لكن استخدامها يختلف بين الخير مرة والشر مرة، ومن هنا لزمت الضوابط الخلقية لتقيد سلوك الإنسان، تقييدا يصرف ذلك السلوك في طريق الخير وحده دون طريق الشر، وذلك هو الدين، وأما الحديث الشريف الثاني الذي يقول في وصف المسلم الصحيح، بأنه هو من سلم الناس من لسانه ويده، فهو - إلى حد ما - يفصل ما أجمله الحديث الأول، بذكره الوسيلتين الرئيستين اللتين يستخدمهما الإنسان في التعامل مع الآخرين، فيهتدي إلى الصواب والخير مرة، ويزل في الخطأ والشر مرة أخرى، والوسيلتان: الفعل والقول، والقول إنما هو ضرب من ضروب الفعل لكن تختلف الصورة عندما يكون الفعل باليدين، وعندما يكون الفعل بنطق اللسان، وتستطيع أن تضيف إلى فعل اليد عملية الكتابة، وفي هذه الحالة يكون المسلم كاتبا بقلمه، أو متحدثا بلسانه، هو من كتب أو تكلم ليهدي لا ليضل الآخرين ... ولولا أن الإنسان في جبلته من القدرة على التفكير والتدبير، ما قد يتوجه بهما نحو الوقيعة والغدر، لما احتاج الأمر إلى آيات قرآنية كريمة ترشد، وإلى أحاديث نبوية شريفة تنبه الغافلين.
Bilinmeyen sayfa