الحرية قوة وقدرة وإنجاز، وليست هي مقصورة على مجرد فك القيود، فالإنسان حر بمقدار ما قد أصبح في قدرته أن يصنعه، وبالطبع لم تشهد الدنيا يوما واحدا خلا من الإنسان الحر القادر بتجربته أن ينجز ما استطاع إنجازه إذا أراد ذلك، إلا أن الحرية القادرة هذه لم تكن دائما من حق الإنسان، كل إنسان، بل بدأت أول أمرها مجمعة في قبضة رجل واحد، هو الذي يحكم سائر الأفراد من أبناء جماعته، ثم يأذن لمن أراده من هؤلاء الأفراد بقدر من الحرية يحدده له كما شاء، ثم اتسعت الدائرة مع مر الزمن، فأصبح الأحرار فئة بعينها من الشعب دون سواها، فانقسم المجتمع بذلك - كل المجتمعات القديمة - إلى أحرار وعبيد، ثم اتسعت الدائرة مرة أخرى مع الزمن، حتى أصبحت الحرية من الوجهة النظرية حقا للأفراد جميعا كائنة ما كانت مكانتهم من المجتمع أو أنسابهم أو أجناسهم أو ألوانهم أو أنواع العمل الذي يؤدونه ... ونقول: إن هذا قد أصبح حقا شاملا لا يستثنى منه فرد من الناس، لكن ذلك من الوجهة النظرية وحدها، وأما من الوجهة العملية فليس في وسع قوى الأرض جميعا أن تجعل فردا من الناس حرا بالنسبة إلى عالم يجهل ما فيه، ونعود فنذكر القارئ بما أسلفناه، وهو أن حرية الإنسان إنما تكون في شيء يعرفه وبمقدار ما يعرف عنه، وإلا فماذا ينفع إذا ما تركوني وحدي في مكان القيادة من طائرة وهي تسبح في الفضاء الأعلى، أقول: ماذا ينفع عندئذ أن أصيح بملء فمي قائلا إنني إنسان حر؟! إذ أين تكون حريتي وأنا أمام أجهزة أجهل عنها كل شيء، وأظل أجهلها إلى أن تصطدم بي الطائرة فيما لا بد أن يكون قضاءنا المحتوم؟! ... الإنسان الحر يعرف ما هو حر فيه، ولا حرية لجاهل.
ولست في الحق أدري هل كان هذا المعنى الذي يربط الحرية بالعلم جزءا مما قصد إليه الشيخ محمد عبده، حين أعلن خطته في النهضة الوطنية بأن يكون تعلم الشعب هو الخطوة الأولى في جهاده لينال حريته، ومن ثم فقد عمل على إنشاء مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية لينقل فكرته من مجال الفكر النظري إلى مجال التطبيق، وإنني لأسأل هذا السؤال؛ لأنني حين ربطت بين الحرية والعلم، لم أقصد أن يكون ذلك العلم أي معرفة نلقنها للمتعلم كما اتفق، إذ لا تتم الرابطة بين الحرية والعلم إلا إذا جاء ذلك العلم متصلا بالميدان الذي يريد المتعلم أن يكون حرا فيه، ومن مجموعة الأحرار بهذا المعنى تتكون حرية الشعب، وإذن يكون الشعب حرا بمقدار ما لأبنائه قدرات عملية على التعامل مع مجالاتهم، كل منهم في المجال الذي تعلم أن يكون حرا فيه وبمقدار ما تعلم، وهل يصبح لكلمة الحرية أي معنى إذا قيل لشعب إنك أيها الشعب حر، في حين يكون أفراد ذلك الشعب على درجة من العجز إزاء أرضهم وبحرهم وسمائهم، بحيث لا يملكون صنع شيء لأنفسهم، حتى يجيء دخيل خارجي فينتج لهم ما عجزوا عن إنتاجه؟ أليست الحرية الحقيقية عندئذ هي حرية ذلك الدخيل؟ وأما الشعب الذي قيل له إنك حر، إذا أعمته الجهالة فعجز، فلن تكون حريته تلك إلا كلمة يضيع الصوت الذي يهتف بها مع عصف الريح.
وما أكثر الصفات التي نصف بها هذا العصر الذي نعيش فيه، ولنتفق مؤقتا على أن المقصود بكلمة عصرنا الفترة التي بدأت بنهاية الحرب العالمية الأولى (1918) وامتدت إلى يومنا الراهن - أقول: إنه ما أكثر الصفات التي نراها مميزة لعصرنا هذا، لكن الذي يهمنا منها الآن فيما له علاقة مباشرة بحديثنا هذا صفتان، إحداهما تحرر الشعوب التي كانت محكومة بغيرها، والأخرى هي الكم الهائل من المعرفة التي استطاع الإنسان بأجهزته الحديثة أن يجمعها عن هذا العالم وكائناته، إنه ربما استطاع بأجهزته تلك أن يجتمع في العام الواحد، ما لم تكن تستطيع جمعه آلاف السنين التي هي تاريخ الإنسان على هذه الأرض، إننا أبناء هذا العصر قد ألفنا بعض الحقائق عن دنيانا وما فيها حتى لنظن أنها لأهميتها الشديدة في حياتنا معلومة للإنسان منذ أقدم عصوره؛ ولذلك ندهش حين نعلم أن الإنسان حديث عهد بها، إلى حد قد لا نتصوره، وإن كاتب هذه السطور ليقرر عن نفسه أنه كاد لا يصدق حين عرف لأول مرة أن حقيقة كون الجسم الحي مكونا من خلايا لم تعرف للعلم إلا في آخر القرن الماضي! ولقد كان من الأمثلة الشائعة في كتب الفلاسفة المعاصرين (وتنبه إلى كلمة معاصرين هنا) كلما أراد هؤلاء الفلاسفة أن يضربوا أمثلة توضح ما يسمونه بالاستحالة التجريبية؛ أي الحقيقة التي هي ممكنة من الوجهة النظرية الصرف ولكنها مستحيلة الوقوع من الناحية العملية، أقول: إن من أشيع الأمثلة التي كانوا يسوقونها في كتبهم لتوضيح الاستحالة التجريبية أن يرى الإنسان الوجه الآخر من القمر، فمن المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون النصف الآخر، ولبث ذلك المثل يساق إلى منتصف هذا القرن العشرين، إذ من ذا الذي كان يتصور أنه سيحدث في تقدم العلم أن يدور الإنسان حول القمر؛ فيرى وجهه الخلفي الذي لا يواجه الأرض قط؟ لكن ما كان مستحيلا بالأمس بات في حدود الإمكان.
مرة أخرى أذكر الصفتين اللتين اخترتهما من صفات عصرنا، وهما تحرير الشعوب التي كانت من قبل محكومة بغيرها، والكم الهائل من المعرفة بحقائق الحرية، وكما أسلفنا القول، فإن التحرر من القيود وحده لا يعني الحرية، كالذي تفك عنه أغلاله، فيتحرر منها لكنه لا يصبح حرا بعد ذلك إلا بما يجيد العلم به، فيمهر في إنجاز ما يصنعه في المجال الذي أجاد معرفته، وهنا نجد السؤال يطرح نفسه: كم من الشعوب التي تحررت قد اكتسبت من خضم المعلومات العلمية وغير العلمية التي قدمها عصرنا ما يكسبها قوة وقدرة على الصنع والبناء لتصبح حرة بعد أن تحررت؟ كان الغرب بصفة أساسية هو الذي استعمر الشعوب التي قلنا عنها إنها تحررت من قبضته خلال القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة أي بعد سنة 1945، وكان ذلك الغرب هو نفسه الذي استطاع بعلمه وبأجهزته الجبارة أن يجمع ذلك الخضم من المعرفة بهذا الكون وكائناته، وهي معرفة تعرض نفسها علانية لمن يأخذ، فكم من الشعوب المتحررة قد أخذ، وكم أخذ؟ جواب ذلك يأتي في صورة أوضح إذا قلبنا السؤال فجعلناه إلى أي حد تجد تلك الشعوب المتحررة نفسها مضطرة إلى الاستعانة بالغرب في صنع ما تصنعه؟ فإذا جاءنا الجواب بأن الجزء الأعظم من حاجات الشعوب المتحررة لا يستغني عن صناعات الغرب أو عن مساعدات الغرب بأي وجه من الوجوه، مع أن ما يصنعه الغرب وما يساعد به مأخوذ كله من علمه ومن معرفته التي جمعها عن طبائع الأشياء من حوله، وهو علم وهي معرفة معروضان علانية لمن يأخذ، أقول: إنه إذا كان هذا هو الجواب عن سؤالنا، كانت النتيجة التي تفرض نفسها، هي أن الشعوب التي تحررت لم تستطع بعد أن تصبح حرة، ولقد كان التحرر نتيجة صراع مع المستعمر الأجنبي، وأما الحرية فلن تكتسب إلا نتيجة صراع تلك الشعوب مع نفسها.
إلا أن عصرنا هو العصر الذي عرف الحرية بمعناها الإيجابي المنشئ المبدع الخلاق، وهو العصر الذي جمع لتلك الحرية وسائلها من علم ومعرفة يسيطر بها على عالم الأشياء، وهو العصر الذي عرض تلك الوسائل أمام الناس جميعا، فمن أراد الحرية فليأخذ وسائلها لينعم في رحابها، وأما من وجد في مجرد التحرر من القيد شبعا وريا، تاركا للأحرار أن يعمروا له دنياه، فليرض بنصيبه العادل - وما نصيبه إلا أن يقف مواقف الأتباع الأذلاء حتى بعد أن يتحرر من قبضة سيده.
اختلاف الرأي والرؤية
إنني الآن في سبيلي إلى أن أعرض بين يديك تفرقة بين شيئين، لهما من الدقة الدقيقة ما تفلت به من أعين الناس، أو الكثرة الغالبة منهم، وسوف ترى في سياق هذا الحديث، كيف أن هؤلاء الناس لو أنهم تبينوها - حق بيانها - لألقوا عن ظهورهم أحمالا ثقيلة من التزمت والتعصب والتطرف، إلى آخر هذه الأسرة غير الكريمة، فأراحوا واستراحوا وهدأت لبحر الحياة مياهه.
وأما الشيئان اللذان أريد أن أفرق بينهما تلك التفرقة الدقيقة التي أشرت إليها، فهما: الموضوع الذي يثور حوله اختلاف الرأي - من جهة - والآراء أو المذاهب المختلفة نفسها، التي تتعلق بذلك الموضوع - من جهة أخرى - وإني لأسرع هنا فأذكر الحقيقة التي أسعى الآن إلى طرحها بين يديك، قبل أن أقدم على تحليلها وتفصيلها، لعل ذلك يعين على متابعة الحديث باهتمام أكبر، وبدقة أكثر، وتلك الحقيقة هي أننا واجدون في معظم الحالات، أن الآراء أو المذاهب، التي حسبناها متعارضة متضاربة، إنما هي آراء متكاملة؛ بمعنى أن كل رأي أو مذهب منها يتناول - في حقيقة أمره - جانبا من الموضوع المطروح، غير الجوانب التي تتناولها الآراء أو المذاهب الأخرى، وأنه من مجموع الآراء أو المذاهب، يتألف موضوعنا ذاك من شتى نواحيه، وأن الخير كل الخير للمتلقي أن يجمع في نفسه جميع تلك الآراء أو المذاهب، ليصبح أكمل إلماما بالموضوع الذي هو مدار البحث والنظر والاعتقاد.
وأبدأ الآن في تفصيل ما أجملته، مستعينا بأمثلة منوعة، أسوقها من ميادين مختلفة، وأبدأ بميدان الفكر الفلسفي في مذاهبه المتنازعة، فأقول - في إيجاز شديد - إن لذلك الفكر الفلسفي عند أصحابه، اتجاهين أساسيين، ثم يكون بعد ذلك لكل اتجاه منهما فروعه، أحدهما هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «المثالي»، والآخر هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «التجريبي»، والأصل في هذا الانقسام، مقابلة تقام بين «الأفكار» في ناحية، و«الأشياء» في ناحية أخرى، فأيهما يا ترى يكون هو الأصل الذي يشتق منه الآخر؟ أو يكون هو المرجع الذي يقاس إليه الآخر في مدى حظه من الصواب والخطأ؟ إنك لو طرحت هذا السؤال على متدين واع بعقيدته الدينية، لجاءك منه الجواب مسرعا، وهو: إن الفكرة تسبق تجسيدها في مخلوق متعين بخصائصه وصفاته، وكذلك إذا سألت من فيه طبيعة الفنان أو طبيعة الشاعر، أجابك بأن المعول عنده إنما هو ما يدور في نفسه، مهما يكن ذلك موصولا أو غير موصول أول الأمر بدنيا الأشياء، وإذا سألت فيلسوفا «مثاليا»، لكان جوابه أيضا هو أن صلته بالوجود في مجموعه، أو في أي كائن من كائناته، إنما هي ما «يعرفه» عنه، والذي يعرفه هو «أفكار» أو تصورات، أو غير ذلك مما هو في داخله ... كل هؤلاء - إذن - يرون للفكرة أسبقية على الشيء المجسد لها، لكن تحول بسؤالك إلى العلماء في أي ميدان من ميادين العلم: ميدان الفيزياء، أو الكيمياء، أو الأحياء، أو ما شئت، تجد جوابا آخر، فمن «الظواهر» المبحوثة، أي من «الأشياء» تستقي قوانين العلوم ومن ثم يجيء الانقسام في وجهة النظر، وهو انقسام قد يتسع ليجاوز الأفراد إلى الشعوب، بحيث نقول عن شعب ما، إنه في مجموعه يجعل الأولوية لما يدور في نفسه، أو في رأسه، أو في قلبه، على الأشياء المجسدة التي تدركها الحواس، ونقول عن شعب آخر، إنه يجعل الأولوية «للشيء» في الواقع المحسوس، وعلى أساسه تقام الفكرة أو السلوك، وقد يكون هذا الاختلاف العميق بين شعب وشعب، هو الذي يقام عليه الحكم بعد ذلك، بأن هنالك شعوبا «روحانية» وأخرى «مادية».
ونحن نسأل بعد هذا العرض قائلين: أيكون ما بين الفريقين، من قبيل «التضاد»؟ أم يكون من قبيل «التكامل»؟ والرأي الذي نراه في ذلك هو أن «الفكرة» و«الشيء» الذي يجسدها كطرفي العصا، أئذا قلنا عن رجل إنه يعني برأس عصاه أكثر مما يعني بأسفلها، كان معنى ذلك أنه استطاع أن يجتزئ الرأس من العصا، مستغنيا عن قاعدتها المرتكزة على الأرض؟ إنه حتى إذا صح أن شعوبا تعنى بالباطن بدرجة أكبر من عنايتها بالظاهر، وأن شعوبا أخرى تعكس هذا الترتيب - وهو صحيح بلا شك - فالذي يحدث بالفعل في تلك الحالة، هو أنهما يتبادلان النواتج، فالأولى تمد الثانية بشيء من روحانياتها، والثانية تمد الأولى بشيء من مادياتها، وإذا شئت فراجع حياة الناس في واقعها، فالغرب - عموما - الذي نشيع عنه أنه «مادي»، قد أخذ دياناته من منابعها في الشرق، والشرق الذي نقول عنه إنه «روحاني» يعيش كل فرد فيه، وفي كل لحظة من حياته، مستعينا بماديات ذلك الغرب.
Bilinmeyen sayfa