Devrimlerin Ruhu ve Fransız Devrimi
روح الثورات والثورة الفرنسية
Türler
مقدمة المترجم (1)
مقدمة المترجم (2)
مقدمة المؤلف (1)
مقدمة المؤلف (2)
الجزء الأول: روح الثورات
الباب الأول: صفات الثورات
1 - الثورات العلمية والثورات السياسية
2 - الثورات الدينية
3 - شأن الحكومات في الثورات
4 - شأن الأمة في الثورات
Bilinmeyen sayfa
الباب الثاني: النفسية التي تسود الثورات
1 - تقلبات الخلق أيام الثورات
2 - النفسية الدينية والنفسية اليعقوبية
3 - النفسية الثورية والنفسية المجرمة
4 - روح الجماعات الثورية
5 - روح المجالس الثورية
الجزء الثاني: الثورة الفرنسية
الباب الأول: مآخذ الثورة الفرنسية
1 - آراء المؤرخين في الثورة الفرنسية
2 - مبادئ النظام السابق النفسية
Bilinmeyen sayfa
3 - الفوضى النفسية أيام الثورة الفرنسية وما نسب إلى الفلاسفة من الشان
4 - الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية
الباب الثاني: تأثير العقل والعاطفة والتدين والاجتماع أيام الثورة الفرنسية
1 - روح المجلس التأسيسي
2 - روح المجلس الاشتراعي
3 - روح مجلس العهد
4 - حكومة مجلس العهد
5 - مظالم الثورة الفرنسية
6 - جيوش الثورة الفرنسية
7 - روح زعماء الثورة الفرنسية
Bilinmeyen sayfa
الباب الثالث: النزاع بين المؤثرات الوراثية والمبادئ الثورية
1 - تقلص الفوضى - حكومة الديركتوار
2 - إعادة النظام - الجمهورية القنصلية
3 - النتائج السياسية التي نشأت في قرن واحد عن تصادم التقاليد والمبادئ الثورية
الجزء الثالث: نشوء المبادئ الثورية في الوقت الحاضر
1 - تقدم العقائد الثورية بعد الثورة الفرنسية
2 - نتائج النشوء الديموقراطي
3 - الأشكال الحديثة للمعتقدات الديموقراطية
الخلاصة
مقدمة المترجم (1)
Bilinmeyen sayfa
مقدمة المترجم (2)
مقدمة المؤلف (1)
مقدمة المؤلف (2)
الجزء الأول: روح الثورات
الباب الأول: صفات الثورات
1 - الثورات العلمية والثورات السياسية
2 - الثورات الدينية
3 - شأن الحكومات في الثورات
4 - شأن الأمة في الثورات
الباب الثاني: النفسية التي تسود الثورات
Bilinmeyen sayfa
1 - تقلبات الخلق أيام الثورات
2 - النفسية الدينية والنفسية اليعقوبية
3 - النفسية الثورية والنفسية المجرمة
4 - روح الجماعات الثورية
5 - روح المجالس الثورية
الجزء الثاني: الثورة الفرنسية
الباب الأول: مآخذ الثورة الفرنسية
1 - آراء المؤرخين في الثورة الفرنسية
2 - مبادئ النظام السابق النفسية
3 - الفوضى النفسية أيام الثورة الفرنسية وما نسب إلى الفلاسفة من الشان
Bilinmeyen sayfa
4 - الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية
الباب الثاني: تأثير العقل والعاطفة والتدين والاجتماع أيام الثورة الفرنسية
1 - روح المجلس التأسيسي
2 - روح المجلس الاشتراعي
3 - روح مجلس العهد
4 - حكومة مجلس العهد
5 - مظالم الثورة الفرنسية
6 - جيوش الثورة الفرنسية
7 - روح زعماء الثورة الفرنسية
الباب الثالث: النزاع بين المؤثرات الوراثية والمبادئ الثورية
Bilinmeyen sayfa
1 - تقلص الفوضى - حكومة الديركتوار
2 - إعادة النظام - الجمهورية القنصلية
3 - النتائج السياسية التي نشأت في قرن واحد عن تصادم التقاليد والمبادئ الثورية
الجزء الثالث: نشوء المبادئ الثورية في الوقت الحاضر
1 - تقدم العقائد الثورية بعد الثورة الفرنسية
2 - نتائج النشوء الديموقراطي
3 - الأشكال الحديثة للمعتقدات الديموقراطية
الخلاصة
روح الثورات والثورة الفرنسية
روح الثورات والثورة الفرنسية
Bilinmeyen sayfa
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم (1)
أقدم الطبعة الثالثة لترجمة كتاب «الثورة الفرنسية وروح الثورات»، وذلك على وجه يكاد يكون جديدا في العبارة والمظهر ...
لقد نفدت نسخ الطبعة الثانية منذ زمن غير قصير، وما وجدناه من إلحاف ذوي الفضل لإعادة الطبع جعلنا نقدم على تقديمه في هذه المرة؛ لما رأينا من تقدير القارئ العربي لفلسفة الثورات، ولا سيما الثورة الفرنسية، ولما نعلم من أنه لم يظهر في الموضوع مؤلف يقوم مقام هذا الكتاب، وقد اعتقد واضعه الفيلسوف العلامة الدكتور غوستاڤ لوبون أنه يصعب بعد إخراجه أن يكتب تاريخ للثورة الفرنسية وروح الثورات من غير أن ينظر إلى ما اشتمل عليه من آراء ومبادئ وتحليلات لم يسبقه إليها أحد كما يظهر.
ومن رأي لوبون أن الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من التخريب في أثناء الثورة الفرنسية لا بد من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا كبير عناء، أي إن لوبون يقول بمبدأ التطور التدريجي للفوز بما قد لا يؤدي إليه العنف، وإن ما تنتهي إليه الثورات من النتائج يكون قد نضج نضجا غير شعوري في الماضي فتكون الثورات طورا أخيرا لهذا النضج يمكن حدوثه بلا عنف وجور.
ولهذا فإن لوبون يطلق اسم الثورات على الانقلابات السياسية والدينية والعلمية، كما يحدد شأن الحكومات والأمة في الثورات، وهو لا يغفل عن تقديم بيان كاشف عما يسود الثورات من خلق وحقد وخوف وحرص وحسد وزهو وحماسة، كما يبحث في روح الجماعات والمجالس الثورية.
فأرى، والحالة هذه، أن المؤرخ إذا ما سلك مثل هذا السبيل أظهر مؤلفه صورة ناطقة عن الماضي مع الإمتاع العلمي والفوائد الفلسفية والنفسية التي لا تحصى.
Bilinmeyen sayfa
نابلس
مقدمة المترجم (2)
إن علم الاجتماع من العلوم التي عني العلماء في الوقت الحاضر باستجلاء قواعدها، ومن أكابر هؤلاء العلماء مؤلف «حضارة العرب»: الدكتور غوستاڤ لوبون.
ألف هذا العلامة، بعد سياحات كثيرة قام بها في أقطار الأرض، كتبا ذات قيمة في مدنيات بعض الأمم، ثم وضع ثلاثة كتب بسط فيها ما استنبطه في تلك الأثناء من العبر وما ظهر له من سنن الاجتماع وهي: «السنن النفسية لتطور الأمم» و«روح الجماعات» و«الآراء والمعتقدات»، ثم عرض ما جاء في هذه الكتب من الآراء الكلية على مسائل أخرى فأخرج للناس «روح الاشتراكية» و«روح الثورات والثورة الفرنسية»، وقد نقلت هذين المؤلفين إلى العربية، فقدمت طبع الثاني لصغر حجمه، وسأطبع الأول بعده إن شاء الله تعالى.
نقل المرحوم فتحي باشا زغلول كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» بعنوان «سر تطور الأمم» وكتاب «روح الجماعات» إلى العربية، فأرجو أن أعرض على القراء، عما قليل، ترجمة كتاب «الآراء والمعتقدات» فتكون قد اجتمعت عندهم كتب غوستاڤ لوبون الثلاثة الأساسية وكتابان من كتبه التحليلية.
ولا أرى أن أشير إلى ما في مؤلفات الكاتب المشار إليه، ولا سيما «روح الثورات والثورة الفرنسية»، من الفوائد العلمية والحقائق التاريخية، فالأمر أصبح مشهورا لا يحتاج إلى بيان، وإنما أنقل العبارات الآتية على سبيل الذكر:
قال العضو في المجمع العلمي الفرنسي، إميل فاغه، وهو من أشهر كتاب فرنسة:
قد أثرت أفكار غوستاڤ لوبون السياسية الصائبة في نفسي تأثيرا جعلني في الوقت الحاضر أعتمد عليها، فالفصل الذي بحث فيه عن أوهام رجال الثورة الفرنسية حسن من كل الوجوه، وهذه الأوهام هي اعتقاد صلاح الإنسان، وأن من الممكن فصل الأمم عن ماضيها، وتحويل المجتمع بوضع القوانين، ولا يخفى ما أدت إليه هذه الأغاليط الكبيرة من النتائج.
أشارك غوستاڤ لوبون في ما ذكره عن علل نجاح ناپليون بوناپارت، فالنصر وحده، وهو الذي دل على ناپليون، لم يجعله سنة 1795 معبود فرنسة، وإنما الذي سهل نجاحه هو نفور الناس من الظلم والاضطهاد والأزمة المالية والطمع في الأملاك العامة.
أعجب بغوستاڤ لوبون كخصم للقدر التاريخي الذي شب على اعتقاده أبناء جيلي، فهذا القدر من الأمور المختلة.
Bilinmeyen sayfa
وجاء في مجلة العالمين:
إن ما أتى به غوستاڤ لوبون من البحث الدقيق في مؤلفاته في الفلسفة وعلم الحياة والتاريخ مكنه من إيضاح بعض الأمور العظيمة التي ظلت غامضة حتى الآن، وقد استطاع أن يوضح قواعد الحركات الثورية في كتاب مبتكر جديد بحث فيه عن روح الثورات والثورة الفرنسية.
أوضح في هذا الكتاب وجه الشبه بين السنن النفسية للحوادث الكبيرة التي حولت مصير الأمم كثورة الإصلاح الديني والثورة الفرنسية، كما أنه أوضح فيه شأن الشعوب الضعيف في الحركات الثورية ومناقضة عزائم أعضاء المجالس وهم منفردون لعزائمهم وهم مجتمعون والتأثير الكبير للعاطفة والدين في سير أبطال الثورة الفرنسية.
باريس في 6 من يناير سنة 1934
مقدمة المؤلف (1)
مختلف الآراء في الثورة الفرنسية
لم أضع هذا الكتاب لأمدح الثورة الفرنسية أو لأذمها، بل لأفسرها بما ذكرته من السنن النفسية في كتاب «الآراء والمعتقدات».
ومع أن الغاية التي توخيتها تجعلني لا أبالي بالآراء التي قيلت في الماضي فإنني رأيت الاطلاع عليها مفيدا، فخصصت فصلا لبيان ما أتى به المؤرخون من مختلف الأفكار في الثورة الفرنسية.
لا تعبر الكتب إلا عن آراء أصبحت قديمة، وهي - وإن أمكن أن تهيئ الأفكار المستقبلة - قلما تعرب عن الأفكار الحاضرة، والمجلات والجرائد وحدها هي التي تعبر عن الوقت الحاضر تعبيرا صادقا، ولهذا فإن ما يجيء فيها من النقد مفيد جدا.
يمكن أن نستخرج من المقالات التي نشرت حول هذا الكتاب ثلاثة آراء دالة على ما يدور الآن حول الثورة الفرنسية من الأفكار:
Bilinmeyen sayfa
فالرأي الأول: يعد الثورة الفرنسية معتقدا يجب قبوله أو رفضه بأسره، والرأي الثاني: يعتبرها سرا غامضا، والرأي الثالث: يعدها حادثة لا يجوز الحكم فيها قبل نشر كثير من الوثائق الرسمية التي لم تطبع بعد، ولا يخلو البحث بإيجاز عن قيمة هذه الآراء الثلاثة من فائدة.
تعتبر الأكثرية في فرنسة تلك الثورة من المعتقدات، ولذلك تظهر لهذه الأكثرية حادثا ميمونا قد أخرجها من طور الهمجية وحررها من ظلم الأشراف، ولا يزال يعتقد كثير من رجال السياسة أنه لولا نشوب الثورة الفرنسية لكانوا الآن أجراء عند الأمراء الإقطاعيين.
وقد ظهرت هذه الحالة النفسية في بحث مهم خصصه السياسي الشهير، مسيو إميل أوليڤيه لمناهضة كتابي، فبعد أن ذكر هذا العضو الفاضل في المجمع العلمي النظرية التي تعد الثورة الفرنسية حادثة غير نافعة قال:
تناول غوستاڤ لوبون هذا الموضوع فجاء في كتاب حديث بحث فيه عن روح الثورة الفرنسية، وتجلت فيه قوة تأليفه وبيانه «أن الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من أعمال التخريب لا بد من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا عناء.
لم يرض أوليڤيه بهذا الرأي، فالثورة الفرنسية عنده ضربة لازب، وقد ختم كلامه بما يأتي:
هل يأسف على وقوع الثورة الفرنسية من لا يريد أن يكون مسخرا لصيد الضفادع في الغدران لكيلا تقلق الأمير الإقطاعي في نومه؟ وهل ينوح على حدوثها من لا يريد أن يري كلاب شاب عات تخرب حقله؟ وهل يحزن على نشوبها من لا يريد أن يسجن في البستيل لولع رجل من بطانة الملك بزوجته أو لانتقاده أحد الوجوه؟ وهل يأسى على اشتعالها من لا يريد أن يبغي عليه وزير أو موظف وأن يكون تحت رحمة أحد من الناس، وأن يؤخذ منه أكثر مما يفرض عليه، وأن يهينه ويشتمه من يدعي أنه فاتح؟ - لذلك أشكر، وأنا من الطبقة الوسطى، أولئك الذين أنقذوني، بعد عناء شديد، من هذه القيود التي لولاهم لظلت تقيدني، وأهنئهم على الرغم من زلاتهم.
فالمعتقد الذي تجلى في مثل هذه الكلمات قد ساعد - مع قصة ناپليون - على جعل الثورة مرضيا عنها في فرنسة، ومصدر هذا الوهم الشائع، حتى بين كثير من أقطاب السياسة، هو المبدأ القائل: إن طرق الحياة عند الأمة تكون وفق نظمها، والواقع أن تلك الطرق تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية، فتأثير القاطرة في مساواة الناس غير تأثير المقصلة، ولا ريب في نيلنا، منذ زمن طول، ما بلغناه وبلغته أمم كثيرة من المساواة والحرية سواء علينا أشتعلت هذه الثورة أم لم تشتعل.
ويؤدي الرأي الثاني، القائل إن الثورة الفرنسية سر غامض، إلى محافظة هذه الثورة على نفوذها أيضا، فإليك ما جاء في مقالة خصصها مدير إحدى الجرائد الكبيرة في باريس، مسيو دورمون، للبحث في كتابي:
لم تزل الحوادث المدهشة التي زعزعت أركان العالم لغزا من الألغاز، ولم تكتشف مباحث علم النفس سر تلك الأزمة العجيبة التي ستبقى معدودة من حوادث التاريخ الخارقة.
وينشأ عن تلقي الثورة الفرنسية على هذا الوجه ظن الناس أنها سلسلة وقائع نشأت عن عوامل خفية، وتدل الكلمات التي أوردناها على درجة الشكوك والريب التي تزيد البحث في الثورة المذكورة إبهاما وتسوغ حكمة العلماء الذين يقتصرون على نشر الوثائق.
Bilinmeyen sayfa
إذن، يرى المنصف، الذي يود أن يكون ذا رأي صائب في الثورة، نفسه الآن أمام عقائد عمياء، أو أمام مزاعم قائلة إن هذا الحادث العظيم يتعذر إيضاحه بالمعارف الحاضرة.
وقد لاح لي، عندما شرعت في درس الثورة الفرنسية مستعينا بطريقتي في علم النفس، أن شكوك المؤرخين في هذه الأزمة الكبيرة ناشئ عن شرحهم بالمعقول ما صدر عن روح التدين والعاطفة والجماعات من الحوادث.
وفي كل صفحة من صفحات تلك الثورة برهان على ذلك، فمنطق الجماعات، لا المنطق العقلي، هو الذي يكشف لنا سبب استحسان المجالس الثورية التدابير المخالفة لرأي كل عضو من أعضائها، ولا يوضح لنا العقل لماذا تنزل نواب الأشراف في ليلة شهيرة عن امتيازات كانوا شديدي التمسك بها مع أنهم لو كانوا قد أقلعوا عنها في وقت آخر لاجتنب نشوب الثورة الفرنسية على ما يحتمل، وكيف يمكننا أن ندرك علة كون الأذكياء المسالمين من أبناء الطبقة الوسطى، الذين كانوا، وهم في بعض اللجان يضعون المقياس المتري ويأمرون بإنشاء المدارس الكبيرة، قد استصوبوا أفعالا وحشية كقتل لاڤوازيه والشاعر شينيه وهدم قبور سان دني الفخمة إذا لم نطلع على تقلبات الذات باختلاف الأحوال؟ ثم كيف يمكننا إدراك السبب في انتشار الحركات الثورية إذا لم نكن عارفين سنن الإقناع الحقيقية التي تخالف ما تدل عليه الكتب من الطرق مخالفة تامة.
وقد تأصلت قواعد المنطق العقلي في فرنسة تأصلا جعل الناس لا يتصورون معه إمكان وقوع حوادث التاريخ بعيدة من العقل مع أنه يجب علينا لتفهم ما يعجز المنطق العقلي عن إيضاحه من الحوادث أن نغير الطرق التي نوضح بها وقائع التاريخ.
أرى الأفكار التي بينتها في هذا المؤلف ستشيع سريعا، وما نشر من المقالات الكثيرة يثبت لنا أنها أثرت في كثير من العلماء المدققين، جاء في جريدة التايمس، التي هي أهم صحف إنكلترة، ما يأتي:
يجب على رجال السياسة كلهم أن يطالعوا كتاب غوستاڤ لوبون الذي لم يبال فيه بما قيل في تفسير الثورة الفرنسية من النظريات المدرسية؛ فأوضح ما للشعب من الشأن الضئيل في الحركات الثورية، وما في عزائم أعضاء المجالس وهم مجتمعون من المناقضة المطلقة لعزائمهم وهم منفردون، وما سير أبطال هذه الثورة من الروح الدينية، وما للعقل من التأثير القليل فيهم، فلولا هذه الثورة لصعب إثبات أن العقل لا يحول الرجال وأن المجتمعات لا تتجدد كما يريد المشترعون ذوو السلطان العظيم.
حقا إن تاريخ الثورة الفرنسية سلسلة من الحوادث التي وقعت في الغالب مستقلا بعضها عن بعض كقصة النظام الملكي الذي نقض لعدم وجود من يدافع عنه، وقصة المجالس الثورية، وقصة الفتن الشعبية وزعمائها، وقصة الجيوش، وقصة النظم الجديدة ... وغير ذلك من القصص الدالة في الغالب على قوى نفسية متصادمة يجب درسها وفق طرق علم النفس.
نعم، قد يجادل في قيمة ما أتينا به من الشروح، ولكنني أعتقد أنه يصعب بعد الآن أن يكتب تاريخ الثورة الفرنسية من غير أن ينظر إلى ذلك.
مقدمة المؤلف (2)
إعادة النظر في التاريخ
Bilinmeyen sayfa
ليس الدور الحاضر دور اكتشاف فقط، بل يبحث فيه ثانية عن مختلف المعارف، فبعد أن قال العلم بعدم وجود حادث يسهل الاطلاع على علته الأولى أخذ يفحص قواعده حديثا فبدت له مختلة، وهو يشاهد الآن دخول مبادئه القديمة، واحدا بعد الآخر، في خبر كان، فعلم الآلات يخسر قواعده، وصار الناس يرون أن المادة، التي كانت معدودة في الماضي جوهر الكائنات الأزلي، قوى فانية تكاثفت لأجل قصير.
ولم يشذ التاريخ عن ذلك على رغم ما فيه من الحدس الذي ينقذه من النقد الشديد، فلا يستطيع أحد أن يقول الآن إنه يعرف صفحة منه معرفة تامة، وما كان يلوح أنه علم يقينا من الوقائع أعيد البحث فيه مرة ثانية.
والثورة الفرنسية من الوقائع التي كان يظهر أن درسها تم، فهي بعد أن بحث فيها كثير من المؤلفين، وعم القول بأنها أوضحت إيضاحا كاملا، وأنه لم يبق سوى تعديل بعض تفاصلها، أخذ يتردد أشد المدافعين عنها في أحكامهم فيها، وهكذا أصبح كثير من الحقائق القديمة موضعا للأخذ والرد، وصار الإيمان بعدد كبير من المذاهب المقدسة مزعزعا، وما كتب أخيرا عن الثورة الفرنسية قد كشف القناع عن تلك الشكوك، والريب.
ولم يكتف العلماء بالمماراة في قيمة أبطال تلك الفاجعة العظمى، بل أخذوا يسألون هل كانت دعائم النظام الحديث، الذي حل محل النظام القديم، تتوطد من غير عنف بتأثير مبتكرات الحضارة بعد أن رأوا أن عواقب تلك الثورة لا تساوي أعباءها.
هنالك أسباب كثيرة أوجبت إعادة النظر في ذلك التاريخ المحزن، ومنها أن الزمان سكن ثوران النفوس، وأن كثيرا من الوثائق أخذ يخرج من الخزائن، وأن الناس صاروا يعلمون كيف يشرحونها بحرية تامة.
ولعل علم النفس الحديث هو الذي سيؤثر أكثر من كل شيء في أفكارنا، معينا إيانا على العلم بروح الرجال وعوامل سيرهم، ونخص بالذكر من اكتشافاته، التي يمكن أن يستعين بها التاريخ، المؤثرات الإرثية، والسنن المسيرة للجماعات، والعدوى النفسية، وكيفية نشوء المعتقدات نشوءا غير شعوري وتمييز أنواع المنطق المختلفة.
والحق أن هذه التطبيقات العلمية التي اتخذناها في هذا المؤلف لم ينتفع بها حتى الآن، فلا يزال المؤرخون مكتفين بدرس الوثائق، على أن ما ذكرناه يكفي لإلقاء ما أشرت إليه من الشكوك والشبهات في نفوسهم. •••
قد يكون تفسير الحوادث العظيمة التي تحول مصير الأمم من الصعوبة بحيث يضطر الإنسان إلى الاقتصار على ملاحظة هذه الحوادث.
وقد أثر في نفسي، منذ مباحثي التاريخية الأولى، تعذر اكتناه بعض الحوادث الجوهرية، ولا سيما نشوء المعتقدات، فشعرت بأن أمورا أساسية ضرورية لإيضاحها تفوتنا، وبأنه لا يجوز أن ننتظر شيئا من العقل الذي قال ما أمكنه، ويتحتم علينا أن نبحث عن وسائل أخرى للوقوف على ما عجز العقل عن تفسيره.
بقي أمر هذه المسائل الكبيرة غامضا في نظري، وما أتيت به من السياحات للبحث عن أنقاض المدنيات المنقرضة لم يقلل من هذا الغموض شيئا يذكر.
Bilinmeyen sayfa
إلا أن كثرة التأمل والتفكير ساقتني إلى الإقرار بأن هذه المعضلة مركبة من معضلات أخرى يجب البحث عن كل واحدة منها على حدة، وهذا ما فعلته في عشرين سنة، فأوردت نتائج مباحثي في سلسلة من المؤلفات.
بحثت في أحد مؤلفاتي الأولى عن السنن النفسية لتطور الأمم، فبعد أن بينت فيه أن الأمم التاريخية، أي الأمم التي نشأت على حسب مصادفات التاريخ، نالت في آخر الأمر صفات نفسية ثابتة ثبات أوصافها التشريحية أوضحت الكيفية التي تحول بها هذه الأمم نظمها ولغاتها وفنونها، ثم شرحت فيه لماذا يحتمل أن تنفك عرى النفس عند تبدل البيئة فجأة.
ولكن يوجد، عدا هذه المجتمعات البشرية المؤلفة من الأمم، مجتمعات بشرية متقلبة تسمى الجماعات، ولهذه الجماعات التي تمت على يدها أكبر الفتن التاريخية صفات تختلف عن صفات الأفراد الذين تتألف منهم اختلافا تاما، وقد بحثت عن هذه الصفات وعن كيفية نشوئها في كتاب سميته «روح الجماعات».
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أبصرت بين عوامل التاريخ المهمة عاملا قويا، أي المعتقدات، وقد بحثت عن هذه المسألة الصعبة في كتابي الأخير الذي سميته «الآراء والمعتقدات» فبينت فيه كيف تنشأ المعتقدات وهل تكون عقلية إرادية، كما عرفت، أو تكون غير شعورية مستقلة عن كل عقل.
يبقى إيضاح المعتقدات أمرا متعذرا إن عدت إرادية عقلية، وقد تمكنت، بعد أن أثبت أنها غير عقلية في الغالب وغير إرادية على الدوام، من حل المعضلة العظيمة الآتية وهي: كيف يستصوب أرباب العقول النيرة في كل جيل معتقدات لا يسوغها العقل؟
سيظهر حل المعضلات التاريخية التي بحثت فيها منذ سنين كثيرة ظهورا واضحا بعد الآن، فقد توصلت إلى نتيجة دالة على أنه يوجد بجانب المنطق العقلي الذي يربط الأفكار بعضها ببعض منطق الجماعات والمنطق الديني اللذان يستحوذان في الغالب على عقولنا ويسيراننا.
وبعد أن حققت ذلك علمت أن إدراك كثير من الحوادث التاريخية يظل ممتنعا عن إيضاح هذه الحوادث بنور المنطق العقلي القليل التأثير في تكوينها.
وقد اقتضى الوصول إلى القواعد التي لخصناها هنا في بضع صفحات سعي سنين كثيرة، وذلك بعد أن يئست من إتمامها ورجعت غير مرة إلى الجد في المختبرات التي يثق الإنسان بأنه يقرب فيها من الحقيقة وينال شيئا من العلم اليقين.
إن سبر غور الرجال مفيد كالتنقيب في الحوادث المادية، وهذا يجعلني أرجع إلى علم النفس على الدوام.
ولما ظهر لي أن بعض النتائج التي استنبطتها من مباحثي واسعة المدى نويت أن أعرضها على بعض الحوادث، وهكذا تناولت درس روح الثورات، ولا سيما الثورة الفرنسية.
Bilinmeyen sayfa
وكلما كنت أتوغل في تحليل هذه الثورة الكبرى كانت أكثر الآراء التي اقتبستها من الكتب، وكنت أظنها متينة، تنهار انهيارا متتابعا.
يجب، لإيضاح هذا الدور، ألا يعد حادثا واحدا كما فعل كثير من المؤرخين، فهو مؤلف من حوادث مستقلة وقعت في آن واحد، وقد نشأ عن كل واحدة منها أمور وقعت حسبما تقتضيه سنن النفس، ويظهر أن ممثلي تلك الفاجعة الكبرى ساروا كمثلي الروايات التي وضعت سابقا، فقال كل واحد منهم ما يجب أن يقول، وعمل ما يجب أن يعمل.
لا شك في اختلاف أولئك الممثلين الثوريين عن ممثلي الرواية المكتوبة لكونهم لم يدرسوا أدوارهم، ولكن قوى خفية كانت تمليها عليهم، فكانوا يقومون بها كأنهم من الحافظين لها، وقد أوجب اتباعهم منطقا لم يدركوا من أمره شيئا اتباعا مقدرا، تعجبهم مثلنا من الحوادث التي كانوا أبطالها، فالقوى الخفية التي كانت تسيرهم لم تخطر ببالهم قط، ولم يكن أمر شدتهم وضعفهم في يدهم، فهم، وإن كانوا يتكلمون باسم العقل ويدعون أنهم مسيرون به، لم يكن العقل رائدهم بالحقيقة، قال بيوفارين :
كنا لا نريد أن نأتي ما نلام عليه من الأفعال، ولكن الأزمة كان تدفعنا إليه.
ولا يستدلن القارئ بهذا الكلام على أن الحوادث الثورية خاضعة لمقادير مهيمنة مطلقة، فالمطلع على ما وضعناه من الكتب يعلم أننا نعترف بما لأرباب التأثير والنفوذ من القدرة على إبطال عمل المقادير، غير أنهم لا يقدرون إلا على إبطال شيء قليل منها، وكثيرا ما يعجزون عن وقف الحوادث التي لم يتسلطوا على سيرها منذ البداءة، فالعالم الذي يقدر على استئصال المكروبات قبل فعلها يعترف بعجزه عن ذلك عند استفحال المرض. •••
افترق المعتقدون الذين أتوا أحكاما في الثورة الفرنسية، التي هي من عمل المعتقدين أيضا، إلى فرقتين: إحداهما تلعن هذه الثورة والأخرى تعجب بها، ولذلك ظلت هذه الثورة من جنس المعتقدات التي تقبل أو ترفض جملة من غير أن يتدخل منطق عقلي في هذا الاختيار، فالثورة الدينية أو السياسية، وإن جاز أن تستند إلى العقل في بداءتها، لا تنتشر إلا معتمدة على عوامل الدين والعاطفة التي لا صلة بينها وبين العقل مطلقا.
لم يستطع المؤرخون الذين بحثوا في حوادث الثورة الفرنسية على نور المنطق العقلي أن يدركوا سرها، فبما أن هذا المنطق لم يكن محدثا لها، وبما أن القائمين بها أنفسهم كانوا غير مطلعين على كنهها، لا نخطئ إذا قلنا إن تلك الثورة أمر لم يفقهه من أتاه ومن قصه، ولم يكن في أدوار التاريخ دور أدرك فيه الحال إدراكا قليلا وجهل فيه الماضي جهلا تاما وكشف فيه المستقبل كشفا ناقصا كذلك الدور.
لم يقم سلطان الثورة الفرنسية على ما كانت تنشره من المبادئ، ولا على ما كانت تضعه من الأنظمة؛ إذ الأمم لا تبالي بالمبادئ والأنظمة إلا قليلا، وإنما السبب في قوة هذه الثورة وفي رضى فرنسة بما أتته من المذابح والهدم والهول وسائر المظالم وفي مدافعتها ظافرة حيال أوربة المدججة بالسلاح هو إقامتها ديانة جديدة، لا نظاما جديدا، ولقد أثبت التاريخ ما للمعتقد القوي من القوة التي لا تقاوم، فقد خضعت قوة الرومان المنيعة الجانب لجيوش من رعاة البدو الذين أضاء قلوبهم ما جاء به محمد من الإيمان، ولمثل هذه العلة لم يقدر ملوك أوربة على مقاومة جنود العهد الرثة الثياب، فكان هؤلاء الجنود مستعدين، كجميع الدعاة، للتضحية بأنفسهم في سبيل نشر عقائدهم التي كانوا يظنون أنها ستجدد العالم. •••
لا نعد الثورة الفرنسية - خلافا لما ظن دعاتها - قد قطعت كل علاقة بالتاريخ، وإن أحدث هؤلاء لإظهار مقصدهم تقويما جديدا وزعموا أنهما قضوا على الروابط التي تربطهم بالماضي الذي لن يموت والذي هو متأصل في النفوس أكثر من كل شيء، فقد كان المصلحون أيام الثورة الفرنسية مشبعين بالماضي من غير أن يشعروا، وهم لم يفعلوا سوى مواصلة التقاليد الملكية مسماة بأسماء أخرى، والسير على نحو مركزية العهد السابق مع الإفراط في الاستبداد.
والثورة الفرنسية - وإن لم تنقض بالحقيقة سوى شيء يسير من مقومات الماضي - أعانت على انكشاف بعض المبادئ التي استمرت على النمو، ومن هذه المبادئ: مبدأ المساواة الذي أصبح إنجيل الأمم، أي صار قطب الاشتراكية والديموقراطية في الوقت الحاضر، وبهذا نقصد أن نقول إن تلك الثورة، التي لم تنته بظهور الإمبراطورية ولا بالأنظمة التي ظهرت بعد الإمبراطورية، انتشرت بالتدريج مع الزمن، ولا تزال ذات سلطان على النفوس. •••
Bilinmeyen sayfa
ربما ينزع بحثنا في الثورة الفرنسية كثيرا من أوهام القارئ، فسيرى القارئ أن الكتب التي بحثت فيها تحتوي كثيرا من الأقاصيص البعيدة من الحقيقة، وستبقى هذه الأقاصيص مسطورة في كتب التاريخ من غير أن نأسف على ذلك، فمع أن الاطلاع على الحقيقة يفيد بعض الفلاسفة نرى أن تغلب الأوهام على الشعوب أنفع، فمن مجموع تلك الأوهام تنشأ مثل الشعوب العليا المسيرة لها، قال فونتنيل: «لولا الأفكار الباطلة لضاعت الشجاعة».
حقا إن قصص جان دارك وغيلان العهد والإمبراطورية تورث النفوس آمالا بعد الهزيمة، وأن لهذا التراث الوهمي الذي ورثناه من الآباء سلطانا أشد من سلطان الحقائق في بعض الأحيان، فالأوهام والخيالات والأساطير هي التي تقود التاريخ .
الجزء الأول: روح الثورات
الباب الأول
صفات الثورات
الفصل الأول
الثورات العلمية والثورات السياسية
(1) تقسيم الثورات
يعبرون عادة عن الانقلابات السياسية بالثورة. مع أنه يقتضي أن تعرب هذه الكلمة عن جميع التحولات الفجائية للمعتقدات والأفكار والمذاهب.
وقد بحثنا في كتاب آخر عما لعناصر العقل والمشاعر والتدين من الشأن في تكوين الأفكار والمعتقدات التي يتوقف عليها سير الإنسان، ولا فائدة من الرجوع إليها مرة أخرى.
Bilinmeyen sayfa
قد ينتج عن الثورة في نهاية الأمر معتقد، ولكنها تنشأ في الغالب عن عوامل عقلية كالقضاء على ظلم فادح أو استبداد ممقوت أو ملك يبغضه الشعب، ومع أن العقل هو أصل الثورة فإن الأسباب التي تهيئها لا تؤثر في الجماعات إلا بعد أن تتحول إلى عواطف، فإذا أمكن بالفعل إظهار ما يجب هدمه من المظالم وجب لتحريك الجماعات إفعام قلوبها بالآمال، وهذا أمر لا ينال إلا إذا استعين بعناصر العاطفة والتدين التي تجعل الإنسان قادرا على السير، خذ الثورة الفرنسية مثلا تر أن المنطق العقلي الذي تذرع به فلاسفة ذلك العصر أظهر للملأ مساوئ النظام القديم وجعل في القلوب ميلا إلى تبديله، وأن المنطق الديني ألقى في النفوس إيمانا بفضائل مجتمع قائم على بعض المبادئ، وأن المنطق العاطفي أطلق النفوس من عقالها القديم وشد قواها، وأن منطق الجماعات استحوذ على الأندية والمجالس ودفع أعضاءها إلى اقتراف أعمال لم يدفعهم المنطق العقلي والمنطق العاطفي والمنطق الديني إلى اقترف مثلها.
والثورة - مهما كان مصدرها - لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلى روح الجماعات، فالجماعة تتم الثورة ولا تكون مصدرها، وهي لا تقدر على شيء ولا تريد شيئا إن لم يكن عليها رئيس يقودها، ولا تلبث الجماعات أن تجاوز الحد الذي حرضت عليه، وإن كان التحريض لا ينشأ عنها أبدا.
وإن الثورات السياسية الفجائية التي تعجب المؤرخين هي أقل أهمية من غيرها في بعض الأحيان، فالثورات الكبيرة هي ثورات الطبائع والأفكار.
وفي الغالب تتم الثورات الحقيقية التي يتوقف عليها مصير الأمم بالتدريج، وهذا ما يجعل المؤرخين يلقون مصاعب في تعيين بداءتها، ولذلك نرى كلمة التطور أصح في التعبير عن المقصود من كلمة الثورة.
لا تصح العناصر المختلفة، التي ذكرنا عملها في تكوين أكثر الثورات، أن تكون أصلا لتقسيمها، ولكننا إذا نظرنا إلى الثورة من حيث غايتها فقط أمكننا تقسيمها إلى ثورات علمية وثورات سياسية وثورات دينية. (2) الثورات العلمية
الثورات العلمية من أكبر الثورات أهمية، ومع أنها لا تستوقف النظر كثيرا هي، في الغالب، ذات نتائج بعيدة لا تأتي بمثلها الثورات السياسية.
فسر تحول الصورة التي ننظر بها إلى الكون منذ عصر النهضة هو أن الاكتشافات الفلكية والطرق القائمة على التجربة والاختبار أورثت نفوسنا ثورة بإثباتها أن الحوادث تصدر عن سنن ثابتة لا تتبدل، لا عن أهواء الآلهة.
والأجدر أن تدعى هذه الثورات بالتطور لبطء وقوعها، بيد أنه يوجد من نوعها ثورات أخرى تقع بسرعة وتستحق أن تدعى بالثورات، مثال ذلك آراء داروين التي قلبت علم الحياة في بضع سنين رأسا على عقب، واكتشافات پاستور التي حولت علم الطب في أيام صاحبها، والرأي في انحلال المادة الذي أثبت أن الذرة لا تشذ عن السنن القاضية على جميع عناصر الكون بالزوال والفناء خلافا لما كان يظن.
وبما أن مجال هذه الثورات هو عالم الأفكار فإنه ليس للمشاعر والمعتقدات سلطان عليها، وعلى المرء أن يعانيها من غير أن يجادل فيها. (3) الثورات السياسية
نذكر - بعد الثورات العلمية التي هي سر تقدم الحضارة - الثورات الدينية والثورات السياسية وإن كانت بعيدة منها ولا تربطها بها رابطة، فالثورة العلمية لا تشتق إلا من العقل مع أن المشاعر والعواطف هي دعائم المعتقدات السياسية والدينية، ولا يكون للعقل سوى شأن ضئيل في تكوينها.
Bilinmeyen sayfa
لقد أثبت في كتاب «الآراء والمعتقدات» أن المعتقد السياسي والديني هو إيمان أينع في عالم اللاشعور من غير أن يكون للعقل سلطان عليه، وبينت فيه أن المعتقد قد يكون أحيانا من القوة بحيث لا يقوم في وجهه شيء، وأن المرء الذي استحوذ عليه إيمانه يصبح رسولا مستعدا للتضحية بمنافعه وسعادته وحياته في سبيل نصره ، وأنه لا أهمية لمخالفة هذا الإيمان للعقل والصواب بعد أن يكون حقيقة في نظر صاحبه، فالحق أن للعقائد الدينية قوة عجيبة في تغلبها على الأفكار، وفي أنها لا تتبدل إلا بتبدل الأزمان.
واعتبار المؤمنين المعتقد حقيقة مطلقة يجعلهم غير متسامحين بحكم الضرورة، وهذا يوضح لنا سر قسوتهم وأحقادهم ومظالمهم أيام الثورات السياسية والدينية الكبيرة، ولا سيما أيام ثورة الإصلاح الديني والثورة الفرنسية.
وتظل بعض أدوارنا التاريخية سرا إن جهلنا منشأ المعتقدات العاطفي والديني وعدم تسامحها الضروري واستحالة التوفيق بينها، ثم ما تنعم به المعتقدات الدينية على المشاعر المسخرة لخدمتها من القوة.
وتلك المبادئ حديثة العهد بعيدة من تغيير عقلية المؤرخين الذين سوف يستمرون على اعتبار كثير من الحوادث صادرا عن المنطق العقلي، فمع أن الإصلاح الديني الذي قلب فرنسة مدة خمسين سنة وما ماثله من الحوادث لم ينشأ عن عوامل عقلية لا يزال أكثر المتأخرين من العلماء يعزون هذه الوقائع إلى العقل، مثال ذلك الإيضاح الذي أوضح به مسيو لاڤيس ومسيو رانبو ثورة الإصلاح الديني في كتابهما «التاريخ العام»، إذ قالا:
إن ثورة الإصلاح الديني حركة غريزية تولدت في نفوس القوم من مطالعة الإنجيل ومن تأملات فردية أورثها قلوب البسطاء عقل مقدام.
فالحقيقة هي غير ما زعم هذان المؤرخان، فهذه الثورة لم تنشأ عن الغريزة ولم يكن للعقل تأثير في نضجها، وإنما خرجت - كغيرها من المعتقدات السياسية والدينية التي قلبت العالم - من المشاعر وخلق التدين.
حقا إن مصدر المعتقدات - سياسية كانت أو دينية - لمشترك، وهي خاضعة لسنن واحدة، أي أنها لا تتكون بالعقل، وكثيرا ما تتكون خلافا لما يقتضيه العقل، فالبدهية (البوذية) والإسلام والإصلاح الديني واليعقوبية والاشتراكية، وإن لاحت على شكل فكري ظاهر، هي بالحقيقة قائمة على عواطف وتدينات متماثلة، وتخضع لمنطق لا علاقة بينه وبين المنطق العقلي أبدا.
تنشأ الثورات السياسية عن معتقدات تأصلت في النفوس، ولكنها قد تنشأ عن أسباب أخرى تجمعها كلمة الاستياء، فمتى عم هذا الاستياء تألف حزب قادر على مكافحة الحكومة.
ويقتضي أن يتراكم الاستياء ليكون ذا نتائج، ولهذا لا تكون الثورة في الغالب حادثة لم تلبث أن تنتهي حتى تعقبها ثورة أخرى، بل هي حادثة مستمرة أسرعت في نشوئها قليلا.
وعندنا أن الأمم الكثيرة المحافظة هي التي تأتي بأشد الثورات خلافا لما يظن بعض الناس؛ لأنها إذ كانت محافظة غير متحولة ببطء لتلائم تقلب البيئات تكره على ملاءمتها بغتة بالثورة حينما تصبح الشقة بين الطرفين عظيمة جدا.
Bilinmeyen sayfa
ولا مفر للأمم التي تلائم تقلب البيئة بالتدريج من الوقوع في الثورات، فلم ينجح الإنكليز، سنة 1688، في ختم النزاع الذي استمر قرنا بين العرش الذي كان يرغب أن يكون مطلقا وبين الشعب الذي كان يسعى أن يكون محكوما من نوابه إلا بالثورة، وخاصة الأمة، لا عامتها، هم الذين يبدأون بالثورات في الغالب، ولكن الثورات تستمد قوتها من الشعب عندما يهيج، وقد لا تتم الثورات إلا إذا دعمها فريق كبير من الجيش، فلم تأفل الملكية في فرنسة يوم قطع رأس لويس السادس عشر، بل يوم امتنع جنده عن الدفاع عنه.
وقد تزول المحبة بالعدوى النفسية من الجيوش التي لا تكترث لسير الأمور إلا قليلا، فعندما استطاع بضعة ضباط أن يقلبوا الحكومة التركية فكر ضباط اليونان في تقليدهم بتغيير الحكومة، مع أنه لم يكن شبه بين النظامين.
وقد يمكن تغيير الحكومة بحركة عسكرية، وذلك كما يقع في الجمهوريات الإسبانية، ولكن مثل هذه الثورات لا تكون ذات نتائج مهمة إلا إذا صدرت عن استياء عام وآمال كبيرة، والاستياء، إذا لم يكن عاما شديدا، لم يكف لإحداث الثورات المجدية، فمن الأمور السهلة أن تحرض شرذمة من الناس على النهب والهدم والقتل، ولكنه يجب لتحريك الأمة كلها أو معظمها أن يبالغ الزعماء في تجسيم الاستياء وأن يحملوا الساخطين على اتهام الحكومة بأنها سبب الحوادث السيئة، ولا سيما الفاقة والغلاء، وأن يجعلوا الجمهور يعتقد أن عصر السعادة سينبثق على الناس من النظام الجديد الذي يقترحونه، فمتى تأصلت هذه الأمور في النفوس وانتشرت بالتلقين والعدوى قرب الوقت الذي تنضج فيه الثورة.
فعلى هذا الوجه نشأت الثورة المسيحية والثورة الفرنسية، وإذا كانت الأخيرة قد وقعت في سنين قليلة ، وتطلب وقوع الأولى كثيرا من السنين، فلأن الثورة الفرنسية لم تلبث أن دعمها الجيش مع أن الثورة المسيحية لم تنل قوة مادية إلا بعد انقضاء زمن طويل، فالأصاغر والسفلة والعبدان هم الذين كانوا أنصار المسيحية في البداءة، ومنهم سرت عدواها إلى الخاصة، ولما كمل انتشارها بين هؤلاء أيضا رأى أحد الأباطرة اتخاذها دينا رسميا للدولة، وهذا كله لم يتم إلا في وقت طويل. (4) نتائج الثورات السياسية
بعدما يتم النصر لحزب ينظم هذا الحزب المجتمع كما تقتضيه مصالحه، فيسن القوانين، ويضع الأنظمة على حسب منافعه ومنافع الطبقات التي ساعدته على الغلبة، كطبقة الإكليروس مثلا، وإذا تم النصر للغالبين بعد مصارعات عنيفة، كما وقع أيام الثورة الفرنسية، فإنهم يقوضون دعائم الحقوق القديمة مع اضطهادهم أنصار النظام الساقط وإخراجهم من ديارهم وإبادتهم.
ويبلغ التعذيب غايته حينما يدافع الحزب الغالب عن معتقد، عدا دفاعه عن منافعه المادية، فلا يعامل الحزب المغلوب بالرحمة، بل يطرده من البلاد كما طرد العرب من الأندلس، ويقضي عليه كما قضت محكمة التفتيش على الخوارج بالإحراق، ويمعن في قتله كما حدث في دور العهد، ويسن القوانين ضده كالقوانين الحديثة التي وضعت ضد اليسوعيين.
وقد يتمادى الغالب في الظلم فيأمر أن يقوم الورق مقام الذهب، وأن تباع السلع بأثمان بعينها كما يهوى، إلا أنه لا يلبث أن تصدمه الضرورات التي تحول الرأي العام ضد استبداده، وذلك كما حدث في أواخر الثورة الفرنسية، وكما وقع لوزارة اشتراكية أسترالية مؤلفة من العمال، فقد وضعت هذه الوزارة قوانين عقيمة ومنحت المنتسبين إلى النقابات امتيازات كثيرة فسخط الرأي العام عليها فسقطت في ثلاثة أشهر.
والأحوال المذكورة استثنائية، فأكثر الثورات قد وقع ليجلس على العرش ملك جديد، فليعلم هذا الملك أن استمرار حكمه لا يكون بتفضيله طبقة على أخرى، بل باستمالته الطبقات كلها إليه، وهو لا ينال ذلك إلا إذا وازنها موازنة مانعة من تغلب إحداها عليه، فإذا ساعد على تفوق طبقة دون أخرى لم تلبث هذه الطبقة أن تصبح سيدته، وهذه سنة من أصح سنن السياسة، وقد علمها ملوك فرنسة عندما كانوا يكافحون تطاول الأشراف في البداءة ثم الإكليروس من بعدهم، ولولا ذلك لكان نصيبهم مثل نصيب أباطرة الألمان في القرون الوسطى حين كانوا يضطرون - كما فعل الإمبراطور هنري الرابع - إلى زيارة البابوات ليطلبوا العفو عنهم بتذلل.
وقد ثبتت صحة هذه السنة في جميع أدوار التاريخ، فلما تفوقت طبقة الجند في أواخر الدولة الرومانية أصبح الأباطرة تحت إمرة جنودهم فصار هؤلاء يرفعونهم على العرش أو يخلعونهم كما يشتهون.
إذن، إن من حسن حظ فرنسة أن ظل على رأسها زمنا طويلا ملوك مطلقون مدعون أن سلطانهم مستمد من الله، فلولا ذلك ما استطاعوا أن يقبضوا على زمام الأشراف والإكليروس والبرلمان معا، ولو كان على رأس پولونية في أواخر القرن السادس عشر ملوك مطلقون محترمون مثل ملوك فرنسة ما هبطت إلى منحدر الانقراض الذي أوجب محوها من خريطة أوربة.
Bilinmeyen sayfa