تقديم
المقدمة
الشخصيات
البرولوج1
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تقديم
المقدمة
الشخصيات
البرولوج1
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
روميو وجوليت
روميو وجوليت
تأليف
ويليام شيكسبير
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي؛ فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة؛ ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي؛ فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف ، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (
It tolls for thee )، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
المقدمة
1
هذه هي المسرحية الرابعة في سلسلة شيكسبير العربية التي تصدرها هيئة الكتاب، بعد تاجر البندقية (1988م) ويوليوس قيصر (1991م ) وحلم ليلة صيف (1992م) وقد كنت بدأت هذا النص الشعري في العام الماضي ودعوت الله أن يمد في عمري حتى يكتمل وحتى أحقق حلم ترجمة الروائع التي عاشت في وجداني منذ الصغر كيما أتدارك النقص الذي تعانيه مكتبتنا العربية في هذا الباب بصفة خاصة، على كثرة (الترجمات) و(التلخيصات) التي تتوافر في أسواق البلدان العربية، والتي لم يتوفر عليها المتخصصون ولم يقيض لها من يلتزم الأمانة (قدر ما تسمح به المضاهاة بين اللغتين) ولا أقول من يتسلح بالعلم الكافي بلغة شيكسبير وفنونه الشعرية ويتيسر له ما يلزم من الإحاطة بفنون اللغة العربية، أعرق لغات الأرض قاطبة.
قلت بدأت هذا العمل في العام الماضي ثم قعد بي مرض عياء، رأيت معه أضواء الأبدية، ويعلم الله أنني ما عرفت الإشفاق ولا الوجل بل كثيرا ما شعرت باطمئنان دفين، وأنا أرجع البصر إلى ما قدمت يداي من عمل رمت فيه إعلاء شأن العربية، ونقل عيون آداب الإنسان إليها، وأرجعت البصر كرتين فما ازددت إلا إيمانا بالرسالة التي نذرت نفسي لها، وعاهدت الله إن هو من علي بالشفاء أن أعود إلى النص فأستكمله، والحمد لله الذي أسبغ علي هذه النعمة وترفق بي وأمهلني - بل أرجعني إلى الحياة - حتى أشكر ولا أكفر. وها هي الترجمة الكاملة مذيلة بالحواشي اللازمة ومسبوقة بهذه المقدمة الموجزة.
ولسوف أقتصر في هذه المقدمة على شيئين؛ الأول: من مشكلات الترجمة التي لم أتعرض لها في مقدماتي السابقة، ولا في كتابي الصغير فن الترجمة (لونجمان، 1992م) ألا وهو ما يسمى بترجمة «النغمة»
TONE . والثاني: هو تصنيف المسرحية من حيث كونها مأساة بالمعنى القديم أو بالمعنى الشيكسبيري الخاص. وكنت تعرضت لبعض مشكلات الترجمة في النص الغنائي، الذي أعددته للتقديم على المسرح عام 1985م وطبع في القاهرة (دار غريب، 1986م) وهو نص مختصر شأنه شأن كل ما يقدم على المسرح من روائع شيكسبير، وقلت في بداية تلك المقدمة إن النص المذكور يمثل صورة وحسب، وهي بعد صورة ناقصة ولا تمنع ظهور صور أخرى للمسرحية التي شغلت قلوب القراء وجمهور المسرح زهاء أربعة قرون! كما كنت كتبت مقدمة في صدر شبابي عام 1965م عندما أقدمت على ترجمة النص نثرا لأول مرة بحماس الشباب ونزقه، والصورة النثرية بعد صورة أخرى - إن كانت تقترب في عدد سطورها من النص الأصلي فهي تبتعد عنه في روحها وفي معناها «الشعري» الذي لا يكتمل إلا بالنظم. وربما كان ذلك يمثل المدخل الصحيح لما أسميته ب «النغمة» - تفريقا لها عما اعتدنا الإشارة إليه باسم «النبرة» فالنبرة قد توحي بالنبر إما بمعنى الضغط على مقاطع الكلمات أو استخدام الهمزة محل حرف العلة (نبيء بدلا من نبي) في بعض لهجات العرب (إبراهيم أنيس، اللهجات العربية).
أما «النغمة» فتعني باختصار «موقف» الشاعر من المادة الشعرية: هل هو جاد أو هازل؟ وإذا امتدح شخصا - فهل هو يسخر منه أم يعني ما يقول؟ وهل يقصد المبالغة
Overstatement
حين يبالغ أم يتعمد «التضخيم» و«التفخيم» لكي يفرغ الكلمات من معناها؟ وهل يقصد «المخافضة» (
Understatement ) حين يقتصد في القول أم يفعل ذلك دون وعي بهدف بعيد؟ وكيف نستطيع أن نصدر أحكاما على «النغمة» حين يمزج «القائل» بين الأشكال البلاغية الجامدة والأشكال الحديثة؟ أي إن تحديد النغمة - بداية - أمر عسير، فما بالك بترجمتها من لغة إلى لغة أخرى تختلف عنها في تقاليدها الأدبية وفي الجمهور الذي يتلقى العمل الأدبي الذي كتبت به؟
2 «النغمة» من الصفات التي يتصف بها النص الأدبي أيا كانت اللغة التي يكتب بها؛ ومعنى ذلك أنها صفة لا تخلو منها العربية بل ربما كانت أقوى في العربية منها في كثير من اللغات القديمة، ولكننا نكاد نفقد الإحساس بها لبعد الشقة ولغياب صوت العربية الحي عن آذاننا، بينما نعرفها كل يوم في العامية - وهي مستوى معروف من مستويات العربية (السعيد بدوي، مستويات اللغة العربية في مصر) بل ونعتمد عليها في إيصال معانينا للسامعين. ومن ذا الذي لا يقول لمن أساء إليه «شكرا» بدلا من أن يشتمه أو يقول لمن قدم إليه «معلومات» معروفة ولا قيمة لها «أفدتنا ... أفادك الله!»، وقد يصف بعضنا شيئا ممتازا (بالعامية المصرية بل والسودانية) بأنه «ابن كلب!» وقد نلجأ إلى المبالغة عندما نقول إن فلانا عاد إلى منزله وهو «أسعد أهل زمانه» (عبارة أبي الفرج الأصبهاني المفضلة) أو عندما نقول إن فلانا ضم أطراف المجد أو السؤدد وما إلى ذلك، وقد نلجأ - على العكس من ذلك - إلى المخافضة عندما نقول إن فلانة سعيدة بزواجها من المليونير فلان «فهو لا يشكو الفاقة» أو إن طه حسين لا يخطئ كثيرا في اللغة العربية وما إلى ذلك؛ فالمعنى في كل حالة من الحالات السابقة (عامية كانت أم فصحى) يتوقف على تفسيرنا للنغمة، وهو التفسير الذي يحدده الموقف أي تحدده معرفتنا بالمشتركين في الحديث وعلاقاتهم بعضهم بالبعض والمناسبة التي يقولون فيها ما يقولون.
وحسبما أعلم كان صلاح عبد الصبور أول من تطرق إلى دراسة «النغمة» في الشعر العربي عندما حاول استشفاف روح السخرية في قصيدة المنخل اليشكري الذائعة، بل وأورد بعض الدلائل على أنه كان يقوم بحركات تمثيلية أثناء إلقائها تساعد على إدراك النغمة التي يرمي إليها، وربما كان على حق في أن علينا أن نعيد قراءة الكثير من الشعر الذي وصلنا بحيث نضعه في سياقه الأصلي وربما اكتشفنا به نغمات مختلفة عن النغمات التي درجنا عليها (انظر قراءة جديدة لشعرنا القديم) - وأظن ظنا أن هذا جانب مما حاوله أستاذنا الدكتور شكري عياد حين قدم لنا (في اللغة والإبداع) تحليلا لقصيدة المتنبي «ملومكما يجل عن اللام» فوضع البيت التالي في سياق جديد:
عيون رواحلي إن حرت عيني
وكل بغام رازحة بغامي
إذ يفسره على أن المتنبي يسخر من نفسه حين يقول إنه حين يضل طريقه يصبح مثل البعير فلا يرى إلا ما يرى، بل ويصبح صوته مثل صوت ناقته! وقد كنت قد درجت على تفسير البيت طبقا لما جاء في شرح الديوان (للبرقوقي أو اليازجي) من أن الرواحل تهديه إذا حار، وغني عن البيان أنني كنت أحار أنا نفسي في إدراك هذا المرمى! فما وجه الفخر في أن الناقة تبصر حين لا يبصر، أو أن أصوات النوق تحاكي صوته؟ وقد نهج هذا النهج - مع اختلاف في زاوية المدخل - أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه قصيدة لا.
وربما كان السبب في قلة الأمثلة على تفاوت النغمات في أدبنا العربي هو احتفالنا التقليدي بالجد ونفورنا من الهزل، والواقع أننا نفترض للتراجيديا قيمة إنسانية أعلى بكثير من الكوميديا، وأحيانا ما نفصح عن ذلك حين نشطب عمل كاتب شطبا يكاد يكون كاملا حين نصفه بأنه هازل، ونحن ننصح أبناءنا بألا يعمدوا إلى الهزل «إلا بمقدار ما تعطي الطعام من الملح» - كما يقول الشاعر - وكأن يتجهموا كأنما لا بد أن يصاحب الجد في العمل تقطيب وجهاته!
أقول إننا درجنا على ذلك دون مبرر في الحقيقة سوى تقاليد «الرواية» أي اعتماد الأدب العربي منذ عصوره الأولى على الرواة، واعتماد الجهود الدينية التي صاحبت انتشار دين الله الحنيف أيضا على الرواية ومن ثم على السند، وهذا يقتضي أن يكون الرواة ممن يعرف عنهم الجد والابتعاد عن الهزل أيا كانت المناسبة، ولقد ذكر مثلا في أحد الكتب القديمة (المستطرف للأبشيهي) أن أحد الرواة «لم يبسم طول حياته ومات دون أن يرى أحد سنه» (يقصد أسنانه) (ص72) كما تكثر الإشارات إلى أن فلانا كان «كثير الضحك» بمعنى أنه «يحب الهزل» ومن ثم فرواياته يمكن أن تكون غير صادقة! ومن الطبيعي في هذا الجو الذي يتطلب الجد (بمعنى التجهم) حتى يتمكن الإنسان من اكتساب مكانته الوقورة في المجتمع فتقبل شهادته أمام القاضي، ويروى عنه ما يروى من أحداث العصر وشعر الماضي وأدبه، أقول إن الطبيعي في هذا الجو الغائم الملبد أن تفرض على الأدب «نغمة» واحدة، وأن يعمد الأديب إلى بث الطمأنينة في قلوب سامعيه (أو قرائه في مرحلة لاحقة) بأن يؤكد لهم أنه صادق في كل ما يقول، وأنه لا يهزل مطلقا، ولا يحب اللهو أو الطرب أو السرور!
ويشهد الله أنني لم أكن أتصور أن ذلك يمكن أن يكون صحيحا، حتى كتب لي أن أعاشر أقواما من بقاع شتى في الوطن العربي الشاسع، وأرى بنفسي كيف يعجز إنسان عن الابتسام طول عمره (أو لعدة أعوام هي الزمن الذي عشناه معا في الغربة) ثم أفهم ما قصده ابن بطوطة حين زار مصر في القرن الرابع عشر الميلادي وقال:
وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين أهل كل سوق سوقهم، وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي. وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أياما. (ص32، دار التراث، بيروت، 1968م)
وهو يعجب للعمل الدائب («الذي ما يتوقف أبدا») ومع ذلك يلاحظ طيب المعشر («مؤانسة الغريب») ورقة الطبع («اللطف») والميل إلى الضحك والسخرية من كل شيء! لقد دهش الرجل دهشة كبيرة، وكل من يقارن ما قاله ابن بطوطة عن مصر بما قاله عن البلدان الأخرى التي زارها سيدهش لاختلاف الطبع اختلافا بينا، وسيزداد دهشه حين يدرك أن التراث العربي المشترك (تراث اللغة والأدب) لم يؤثر في تفاوت الطباع، وأعتقد أن العكس هو الصحيح فإن الطبع المصري الميال إلى «الطرب والسرور واللهو»، حتى في أحلك فترات تاريخنا، قد أثر على نغمة الأدب الذي نكتبه وجعلنا نحتفل بالكوميديا احتفالنا بالحياة نفسها (فالكوميديا في أحد تعريفاتها (احتفال بالحياة) - ويلي سايفر الكوميديا، انظر كتابنا فن الكوميديا) ولم يولد لدينا التقسيم الكلاسيكي الذي صاحب الآداب اليونانية والرومانية من استخدام الشعر مثلا في التراجيديا والنثر في الكوميديا، أو اقتصار الفصحى على الأولى والعامية على الثانية، فامتزج هذا وذاك في آدابنا الحديثة إذ كتبت التراجيديا بالعامية وبالنثر، وكتبت الكوميديا بالفصحى وبالشعر!
ولسوف يسهل على قارئ الترجمات الحديثة أن يكتشف النغمات المتفاوتة حين يلتزم المترجم الأمانة في ترجمته؛ فلا يجفل من استخدام كلمة عامية أو تعبير عامي يساعده على نقل النغمة، وحين يدرك أن للغة مستويات متعددة هي التي تساعد الكاتب على «الصعود» أو «الهبوط» في نغماته - دون أن يكون لذلك علاقة مباشرة بالسلم الاجتماعي للغة! فإذا أدركنا ذلك وضعنا أيدينا على العيب الأساسي الذي شاب ترجمات شيكسبير حتى منتصف هذا القرن ، وخصوصا مشروع الجامعة العربية. فالمترجمون بلا استثناء يستخدمون الفصحى المعربة المنثورة، ويلتزمون بقوالب العربية القديمة «الجزلة» مهما كانت طبيعة النص الذي يتعرضون له، ومهما كان مستوى لغة المتحدث أو «نغمته». ولا يقولن أحد إن ذلك لون من ألوان الترجمة، الهدف منه تقديم معنى الألفاظ فحسب، فترجمة الأدب (ولا أقول الشعر) لا تتطلب معاني ألفاظ مفردة فقط، بل إن معاني الألفاظ المفردة نفسها تتأثر بالنغمة وتتفاوت من موقف إلى موقف في المسرحية.
ومن الطبيعي أن أقول ذلك كي أبسط منهجي في الترجمة وأدافع عنه؛ فترجمة مقطوعة شعرية صلبها الوزن وعمادها الإيقاع تتطلب الاقتراب من هذا الوزن وذلك الإيقاع، وما أكثر ما نردد أقوالا عربية كان يمكن أن تختزل إلى النصف أو الربع لولا الوزن! ومن هذا الباب جاء ظلم مترجمي العربية من المستشرقين الذين تنحصر معرفتهم بالعربية في الألفاظ المفردة، فنحن حين نستشهد بقول شاعر «كناطح صخرة» إشارة إلى جهد من يحاول المحال، فنحن نشير في الحقيقة إلى بيت كامل يقف على قدميه وهو:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
والفارق كبير بين من يقول «كناطح صخرة» فقط، ومن يردد البيت كله! وهذا من أثر «النغمة» التي تكون في الحالة الأولى حادة قاطعة، وفي الثانية مرتخية فاترة، بسبب الإطناب فالكلمات ابتداء من «يوما» وحتى آخر البيت لا عمل لها إلا الإبقاء على التماسك العروضي له. وقس على ذلك الكثير من الشعر. فنحن نقول «من جد وجد» ونفخر بإيجازه ولكن شعرنا حافل بما يجري مجرى الأمثال دون أن يكون بهذا الاقتضاب:
ما في المقام لذي عقل (وذي) أدب
من راحة (فدع الأوطان) واغترب (إني رأيت) وقوف الماء يفسده (إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب)
والشمس لو وقفت (في الأفق ساكنة)
لملها الناس (من عجم ومن عرب)
فكل ما بين أقواس زائد وهو من لوازم الإيقاع العروضي أي العضادات التي تسند البيت كي يستقيم وزنه، وإذا قال قائل إن هذا شعر حكم وأمثال وحسب، وقائله «الإمام الشافعي» ليس من الشعراء «المحترفين» سقت إليه نماذج من أعظم شعرائنا دون جهد كبير بل ومما يعرفه طلبة المدارس - من المعلقات مثلا:
ولو كنت وغلا في الرجال لضرني
عداوة ذي الأصحاب والمتوحد (طرفة)
فلما عرفت الدار قلت لربعها
ألا انعم صباحا أيها الربع واسلم (زهير)
بغاة ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا (عمرو)
إلى المتنبي نفسه:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهمو
فليت دونك بيدا دونها بيد
وحتى شوقي - شاعر العصر الحديث - في رثاء مصطفى كامل:
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني
أو مما يحفظه عشاق أم كلثوم (عن أم كلثوم!):
سلوا كئوس الطلا هل لامست فاها
واستخبروا الراح هل مست ثناياها
باتت على الروض تسقينا بصافية
لا للسلاف ولا للورد رياها
ما ضر لو جعلت كاسي مراشفها
ولو سقتني بصاف من حمياها
وما ينطبق على الشعر ينطبق على النثر، وخصوصا ما كان يسمى بالنثر الفني، تجاوزا لاتصافه بخصائص النظم، مثل السجع (الذي يحاكي القافية) وتساوي المقاطع (مما أوصى به أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين) وما إلى ذلك من المحاسن الشكلية المستقاة من شعر العرب. وأرجو ألا يتصور أحد أنني أنتقد مدرسة فنية بعينها أو أعيب شكلا من أشكال التعبير تختص به العربية دون غيرها، فهذه سمات لا تتميز بها لغة عن لغة، ولكنني أسوق هذه الأمثلة للتدليل على الوظيفة التي يقوم بها الإيقاع في تحديد «النغمة»، فإذا كان صحيحا أن الذهن يستوعب معاني الألفاظ بسرعة تفوق سرعة إلقائها أربع مرات (دافيد كولب وآخرون: نحو نظرية تطبيقية للتعليم عن طريق الخبرة، لندن، 1976م) فإن إبطاء الإيقاع عن طريق تكرار بعض الألفاظ أو العبارات في قوالب نغمية محددة يضاعف من الزمن الذي يستغرقه الذهن في استيعاب المعاني ويجعل للأذن المهمة الكبرى في عملية التلقي حتى ولو كان القارئ يقرأ شعرا مهموسا (وهو الاصطلاح الذي أتى به الدكتور محمد مندور ليفرق به بين شعر الخطابة القديم والشعر «الوجداني» الحديث)؛ ولذلك فإن «نغمة » الشاعر لا بد أن تختلف مما يلقي على المترجم للشعر عبئا جديدا وإن كان قاصرا
1
على التصدي «للنغمة» - ماذا عساه فاعلا بمن يبدو أنه يهزل وهو جاد - أو من يبدو أنه جاد وهو يهزل؟ إن روميو مثلا في هذه المسرحية يهزل هزلا صريحا في بداية المسرحية وفي باطنه الجد - ونغمته اختلف في تحديدها النقاد - وذلك حتى يقابل جوليت فيتحول إلى نغمة جادة كل الجد لا أثر فيها لهزل على الإطلاق - وإن كان شيكسبير لا يتوقف عن التلاعب بالألفاظ (كالتوريات مثلا) إلى آخر سطر في المسرحية!
ولأقرب ما أعني الآن بقصيدة كتبها بالعربية المصرية صلاح جاهين، وصعد بفنونها الشعرية إلى مصاف التوحد والتفرد بل وتخطى - دون مبالغة - كل من سبقوه:
باحب المقابر وأموت في الترب
هناك زي حي الغناي في الهدوء الجميل
هناك زي شط البحور في النسيم العليل
هناك العجب
هناك تمشي تسمع لرجلك دبيب عالي يرضي الغرور
هناك كله راقد مافيش غيرك انت اللي واقف فخور
وأما الزهور
هناك بالمقاطف على الأرض يا مسورقة يا بتحتضر
تجيب أدوات العطور
وتصنعها عطر اسمه مثلا عبير العبر
تبيعه وتكسب دهب
وتدهس على العضم وتقول كلام فلسفة
وتملأ كتب
ده غير الثواب اللي تقدر كمان تكسبه
من الفاتحة ع الميتين
فمنها عبادة ومنها استفادة ومنها أدب
لهذا السبب
باحب المقابر ... لكين
بعقلي الرزين
باحب البيوت واللي فيهم زيادة!
من البداية نجد النغمة الهازلة - في «الصدمة» التي تقدمها لنا الكلمات الأولى، وتؤكدها المفارقة الواضحة في «أموت في الترب» - فهي من النكات الذائعة لدى المصريين في باب القافية ((أ) الحانوتي حياخد له بالميت عشرين جنيه! (ب) طب ومن غير ميت؟) وهكذا نجد أن هذه اللمسة تحدد لنا «السلم الموسيقي» الذي يساعدنا في إدراك النغمة! فكيف سنقرأ «زي حي الغناي»؟ بمفارقتها المؤلمة! (حد واخد منها حاجة؟) وكيف ستقرأ «زي شط البحور»؟ (على شط البحور والنسمة حوالينا الحياة مبتسمة!) (على شط بحر الهوى!) ولا شك أن ذلك كله لا بد أن يؤدي إلى العجب الذي يعنى به صلاح جاهين الدهشة الشعرية
التي يتسم بها كل شعر عظيم - فهي دهشة اكتشاف ، مثلما نجد أن كل قصيدة عمل استكشافي! (
HEURISTIC ) فنحن فجأة نواجه حركة وسكونا: السير بخطوات عالية.
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
أبو العلاء المعري
ومفارقة الدبيب «العالي» المتناقض فيما يشبه «الطباق» الكلاسيكي مع «راقد» والذي ينتهي ب «واقف»! أي إن تتابع الحركة والسكون هنا مشهد كامل لا مجرد تسجيل لحدث في الماضي ... إننا مع زائر القبور، بل نحن الذين نزور القبور الآن فتضيع نظراتنا في الدهشة!
وعلى الفور ينتقل صلاح جاهين إلى الأرض ليشير إلى رموز الجمال والفتنة والرقة وقد أصبحت مغشيا عليها أو هي بسبيلها إلى الفناء، كأنما نحن نطالع تراثا كاملا من الشعراء الإنجليز في القرن السابع عشر الذين احتفلوا بالحياة عن طريق تأمل الموت، وذلك من خلال ما يسمى بثيمة عش يومك
CARPE DIEM
أي اقتطف لحظة الزمان السانحة فهي مثل الزهور تورق وتخضئل ثم تذوي ويبتلعها خضم الفناء! «المقاطف» هي أدوات إهالة التراب و«التراب» الذي يربطنا بالتربة سيصبح زهورا لكي يؤدي بنا إلى صورة أساسية في الشعر الإنجليزي الحديث أيضا وهي «الخوف الكامن في حفنة من التراب» (
FEAR IN A HANDFUL OF DUST ) - وهي الصورة التي يشير بها ت. س. إليوت إلى أسطورة سيبيل اليونانية التي تمنت أن تعيش طويلا فوعدتها الآلهة بعدد من السنوات يساوي عدد حبات الرمل أو التراب التي تستطيع أن تقبض عليها بيدها! فعاشت دهورا وأخذت تنكمش حتى أصبحت في حجم الطائر الصغير فوضعها الناس في قفص وكان التلاميذ يمرون عليها في طريقهم إلى المدرسة وإذا سألوها ماذا تريدين يا سيبيل؟ قالت لهم أريد أن أموت!
وأرجو ألا يتصور القارئ أنني من أتباع المدرسة التفكيكية
DECON-STRUCTION
الذين يرون في النص أكثر مما به من معان أو ينادون بتغير معناه من قارئ إلى قارئ، بل أنا من دعاة الالتزام بالنص وحسب، وهو هنا - ودون مجاراة - نص ذو نغمة خاصة تتطلب قراءة خاصة! ف «المقطف»، في العامية المصرية لا يملأ إلا ترابا، وحين يملأ خبزا (مثلا) يصبح فردا (فرد عيش/فرد سرس ... إلخ) بترقيق الراء لا تفخيمها ، فإذا تصورنا هذا المقطف الذي يرتبط بالأرض مثل هذا الارتباط، وقد امتلأ بزهور مغمى عليها أو في سكرات الموت - بمعنى الغياب عن الوعي أو الوقوف على مشارف العالم الآخر (شأنها شأن جميع الأحياء الذين لا تقاس أعمارهم إلا باللحظات العابرة) وتصورنا ما سيفعله صاحبنا (المخاطب أو المتحدث) من تحويل هذه المثل العليا للجمال والرقة إلى عطر «طيار» هو حلقة الوصل بين الوجود والعدم (فهو رائحة أي روح والعلاقة بين الروح والريح والروح والرواح أكثر من اشتقاقية!) وإذا تصورنا بعد هذا كله أن «عبير العبر»، لن يفلح في إيصال «العبرة» بل سيتجمد في صورة هي أقسى صور الانشغال بالأرض وكنوزها؛ صورة «الذهب». (وليس من قبيل الصدفة أن يختار الشاعر هذه الصورة ليربط الثراء «حي الغناي» بالمرض «العليل» والموت «الترب» من خلال الذهب الذي يتحول - كما يعرف كل دارس لتاريخنا المصري - إلى تابوت: «بل إن دود القبر يحيا في توابيت الذهب!» (تاجر البندقية، لشيكسبير).) أقول إذا تصورنا ذلك كله فسوف نعرف أن رنة الجد خادعة وأنها تخفي مفارقة تجعل الشاعر أشد سخرية مما قد يتبادر إلى ذهن القارئ المتعجل، فهو يسخر في آن واحد من الأحياء والأموات، وهو يضفي معاني جديدة على البيت التالي (وتدهس على العضم وتقول كلام فلسفة/ وتملأ كتب!) إذ يفرغ الفلسفة من معناها أمام الموت، ويجعل الكتب مجرد أوراق خاوية، خصوصا عند تحويل هذا الدرس القاسي إلى فوائد مادية زائفة خادعة تعكس تماما (أي تأتي بعكس أو نقيض) ما يقوله في ختام قصيدته «فمنها عبادة ومنها استفادة ومنها أدب!» فالعبادة ليست مجرد الحصول على «الثواب» (الأجر)، والفائدة المادية - كما سبق القول - خادعة، والأدب مجرد كلام يطير في الهواء مثل الرائحة (الروح) وإن كان في الحقيقة أي في معناه الحقيقي ذا وجود أبدي مثل الروح نفسها!
ولو لم تكن هذه النغمات المتفاوتة ما استطاع الشاعر أن يصل بنا إلى ذروة المرارة في محاولته التمسك بالحياة عند إعلانه الحب للأحياء في بيوتهم أكثر من حبه للمقابر! ولم ينس صلاح جاهين أن يذكرنا هنا أنه يحاول ذلك بعقله لا بقلبه، فهو نوع من الحب الذي يمليه منطق الأحياء، إذ نشتم هذا المعنى من تركيبة «بعقلي الرزين» التي قد تعني «متوسلا بعقلي لا بقلبي» وقد تعني «لأن لي عقلا منطقيا غير عاطفي»، وهو يؤكد هذه المفارقة حين يقدم «البيوت» (التي هي أحجار ميتة بل ومآلها الهدم) على الأحياء الذين لا نسمع عنهم بل ولا نجد لهم ذكرا في أي مكان في تلك القصيدة العجيبة!
إن التنويع الشديد في «النغمة» يمكن الشاعر من أن ينتقل بنا من حالة نفسية إلى نقيضها، ولا يخفى على دارس الشعر والترجمة مغزى الانتقال من ضمير المتكلم (باحب) إلى ضمير المخاطب (تمشي تسمع - مافيش غيرك أنت) ثم العودة إلى ضمير المتكلم في الأبيات الأربعة الأخيرة، فإلى جانب توالي التقابل بين المتكلم والمخاطب نجد أن التقابل يتوهج أيضا بين الحياة والموت، حين تختلف «نغمات» أفكار الحياة لتكتسي مذاق «الفناء»، وتختلف نغمات أفكار «الفناء» لتصبح الحياة الحقيقية؛ أي الحياة فيما بعد الموت!
3
ولا يخفى على اللبيب أن «النغمة» تمثل التحدي الأكبر للمترجم؛ لأنها قد تعتمد على مصطلح اللغة الأصلية الذي تتعذر ترجمته إلى أي لغة أخرى، وما دمنا ضربنا المثل من صلاح جاهين فلا بد من التنويه بالترجمة العبقرية التي أخرجتها نهاد سالم للرباعيات (دار إلياس العصرية للنشر، 1988م) والتي حققت فيه أكبر قدر ممكن من النجاح في نقل «النغمة» التي تمثل سر نجاح هذا اللون من الشعر الذي يستخدم لغة الناس، مثلما كان شيكسبير يفعل، ومثلما فعل كل شاعر أراد الوصول إلى الناس، وسوف أدلل على هذا النجاح أولا قبل التدليل على الصعوبات. اقرأ معي هذه الرباعية الجميلة:
أحب أعيش ولو أعيش في الغابات
أصحى كما ولدتني أمي وابات
طائر ... حوان ... حشرة ... بشر بس اعيش
محلا الحياة حتى في هيئة نبات.
وأول سؤال هو: هل الشاعر جاد في إعرابه عن حبه للحياة؟ فإذا كانت الإجابة بنعم فسوف تكون «النغمة» موجهة لتأكيد هذا المفهوم الذي يتردد في جنبات المصطلح الدارج - ويتعدل داخليا من خلال الهبوط بمستوى الإنسان إلى مستوى الكائنات الدنيا، أي الكائنات غير العاقلة حتى يصل إلى ما يلغي إنسانية الإنسان! وإذا اتكأنا على هذه اللمحة الأخيرة وجدنا معنى آخر كامنا في باطن هذا المفهوم وهو ليس ببساطة حب الحياة بل تأكيد إنسانية الإنسان أي إن الشاعر لا يقول فقط إنه يحب الحياة ولكنه لا يحب أن يعيش إلا إذا كان إنسانا!
أما الترجمة فهي:
I love to live, be it in a jungle deep
Naked to wake, and naked go to sleep
To live as beast, bird, man or even ant
Life is so lovely even as a plant
p. 27
وقبل أن أناقش الصعوبات سأشير إشارة عابرة إلى أنني كنت أفضل
even
على
be it
في السطر الأول إذ إن مصطلح الإنجليزية يتطلب جملة مقارنة (
be it ... or ) ولا تستخدم هذه الصيغة وحدها إلا في
so be it!
بمعنى «فليكن!» («يلله بقى!» - «وماله!» - «ماشي!» - «حنعمل إيه؟» ... إلخ) وكنت أفضل عدم الإغراب في صياغة السطر الثاني الذي يعطف
to wake
على
to live
فيجعل بقية العبارة قلقا من الناحية النحوية دونما داع ولو كان ذلك من متطلبات القافية، إلى جانب العطف في الفعل التالي (السطر الثالث)، وكذلك الاهتزاز المنطقي في السطر الأخير الذي نتج من الخضوع للصياغة العربية. أقول إنني لن أتوقف عند هذه الملامح الشكلية التي ترجع إلى مزاج كل مترجم وتكوينه اللغوي، ولكنني سوف أتوقف طويلا عند الكلمة «المفتاح» بالعربية وهي تعبير «بس أعيش» إذ إنها هي التي تحدد لنا ما إذا كنا سنقبل «حب الحياة» باعتباره معنى مطلقا أو أنها ستغير «النغمة» فتجعله معنى مقيدا
qualified ؟ ماذا تعني «بس أعيش» في لغتنا العربية المصرية؟ إنها تعني «آه يا ليتني أستطيع الحياة!» (أو بالإنجليزية المعتادة
if only I could live ) وهي من الناحية المواقفية (
) لا تقال إلا في موقف إنسان عزت عليه الحياة إما للمرض الشديد أو لأنه لم يستطع الحياة الحقة بعد! (خمسين جنيه خمسين جنيه بس أسافر!) = (يخفضوا المرتب بس أفضل في الوظيفة) = (يعملوا اللي عايزينه في بس أعيش!) أي إن هذه الصيغة تعني أن قائلها يريد الحياة بأي ثمن! وهذه هي المبالغة التي تجعل «في هيئة نبات» في السطر الأخير توحي بأنها ذروة مقصودة للمفارقة الكامنة في إحساس الشاعر! فهل هو هو حقا يريد الحياة بأي ثمن - حتى ولو كان نباتا؟ (والفعل الإنجليزي المشهور
to vegetate
معناه أن يصبح الإنسان فاقدا لإرادته وغاياته مثل النبات!) فإذا اتفقنا أن هذه هي «النغمة» الصحيحة فسوف نكتشف أن تصورنا لجدية الشاعر في البداية كان وهما، وأن الرباعية في الحقيقة إعلاء لإنسانية الإنسان وتميزه على الكائنات جميعا مهما كانت صفات الحياة التي تشاركه إياها!
وسر نجاح نهاد سالم هو إدراكها لهذه «النغمة» التي تكاد لخفائها أن تصبح «نغمة تحتية» (
undertone ) وإصرارها على إبقائها خبيئة! أي إن المترجم هنا لم يلجأ إلى التأويل بل ولا إلى التفسير. بل حاول الالتزام بالنغمة الظاهرة حتى يظل الخبيء خبيئا! وهي تلجأ إلى مصطلح الإنجليزية الأصيل لكي توحي بهذه النغمة الباطنة حين تبدأ البيت الثالث بالعبارة الصارخة !To live as beast
فهذه هي المقابل إن لم تكن البديل للعبارة «المفتاح» (بس أعيش) لأنها توحي من طرف خفي برفض هذه الحياة الحيوانية - وكلمة
beast
كلمة ذات دلالة واضحة تشير إلى النغمة التحتية، فنحن نستخدمها في ذم كل سلوك بشري يجرد الإنسان من إنسانيته، والصفة منها
beastly
تستخدم في اللغة الدارجة بمعنى الانحطاط والدناءة وقد كان يمكن أن تستخدم كلمة
animal - وهي كلمة محايدة في ظاهرها حسنة الدلالة في باطنها لأنها مشتقة من
anima
بمعنى النفس أو الروح، وكثيرا ما يوصف الإنسان بأنه
thinking animal
وما إلى ذلك، بل ونطلقها على حاجاته «البشرية»، والصفة منها
animal spirits
معناها الخفة الفطرية ولا أظن أن المترجمة اختارتها من أجل القافية المبدئية
alliteration (مع
bird ) فدلالتها هي الدافع الأول والعامل الحاسم في اختيارها إياها.
ومعنى ذلك هو أن المترجم يواجه نصا حيا لا مناص من إيجاد إطاره الحي الذي يحفظ له أنغامه الظاهرة (والباطنة إن أمكن)، وما يصدق على الشعر الغنائي (أي الذي يتوسل بالصوت المفرد) يصدق بدرجة أكبر على الشعر المسرحي الذي تتعدد فيه الأصوات. وقبل أن أنتقل إليه سأورد رباعية أخرى لصلاح جاهين وترجمتها الإنجليزية لنهاد سالم:
اقلع غماك يا تور وارفض تلف
اكسر تروس الساقية واشتم وتف
قال بس خطوة كمان ... وخطوة كمان ...
يا اوصل نهاية السكة يا البير يجف!
Throw off your blindfold, Bull! Refuse to go!
Break the cogs of the waterwheel, spit in our eye!
The bull said with a sigh: “One more step, or so,
Either I reach the end, or the well will dry”...
p. 43
إن سر عبقرية هذه الترجمة لا يكمن فحسب في الالتزام بالمعنى الشعري (الذي لا بد له من وزن وقافية) ولكن أيضا في إدراك «النغمة» وإخراجها ولو بإضافة عبارة ذات دلالة - وهي هنا
With a sigh
فهي العبارة التي تعوضنا عن فقد الدلالة العامية لكلمة تور «طور» بالعربية المصرية، لأن كلمة
bull
الإنجليزية ذات دلالات لا تغطي ما تقوله «طور» وإن كانت تشترك معها في بعض العناصر. ولهذا فإن هذه الإضافة تجسد لنا «النغمة» الأساسية في الصورة - فهي آهة استسلام للمصير
resignation
قبل أن تكون آهة شكوى من الزمان! وقد نختلف مع المترجمة في تصويرنا هذه «النغمة» أو في تصورنا «للنغمة» الحقيقية أو المقصودة - ولكن - من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن لكل قصيدة أو لكل بيت «نغمة» واحدة فقط - أو نغمة «حقيقية» أو «مقصودة»؟
4
وليكن هذا مدخلنا إلى شيكسبير! فمن ذا الذي يستطيع أن يقطع بأن هذه «النغمة» جادة أو هازلة؟ حقيقية أو زائفة؟ عرضية أي عارضة أو مقصودة؟ وهل رنة السخرية في كلام الشخصية - إذا تأكدنا منها - موجهة إلى الشخصيات الأخرى أم إلى القارئ مباشرة؟
جوليت والمربية.
ومعنى السؤال الأخير هو: هل يمكن لنا (أي هل من المقبول فنيا) اقتطاع أبيات أو فقرات من المسرحية باعتبارها شعرا غنائيا يتحدث فيه الشاعر مباشرة إلى القارئ؟ ولا يظنن أحد أن هذه «زندقة نقدية» أي خروج عن قواعد النقد الفني «المقدسة»، فكل شاعر مسرحي له لحظاته التي يتحدث فيها من خلال شخصياته إلى الجمهور. أو إلى القارئ، وقد يسمع المشاهد صوته واضحا ويدركه القارئ دون عناء، خصوصا عندما ينتقل من سياق الحدث إلى التعليق على حال الإنسان بصفة عامة أو على أشياء بعينها في مجتمعه يعرفها هو وجمهوره خير المعرفة. وهذه جميعا من العوامل التي تؤثر في تحديد «النغمة» ومن ثم في «الترجمة» والأسلوب المختار لها.
وقد صادفت هذه الصعوبة لأول مرة عندما عدت إلى نص روميو وجوليت عام 1992م (أي بعد ما يزيد على سبعة وعشرين عاما) لأترجمه ترجمة شعرية كاملة (بعد الإعداد الغنائي للمسرح عام 1985م) فإذا بي أفاجأ بأن النص الذي كان يكتسي صور الجد من أوله إلى آخره حافل بالهزل وبالسخرية والنغمات المتفاوتة! ولقد رأيت أن التزام النظم وحده لن يحل المشكلة، بل ولا محاكاة القوافي والحيل البلاغية! وتمثل الحل في اللجوء إلى تنويع الأسلوب مثلما يفعل شيكسبير من استخدام النثر حينا والنظم حينا آخر، والعامية في بعض الأحيان، وصولا إلى «النغمات» التي يرمي إليها؛ فالبطل هنا - روميو - ليس في الحقيقة مثلا أعلى للحب (أو للحبيب) الرومانسي ولكنه غلام متهور يحب الحب أي فكرة أو نزعة الاتصال بشخص آخر والتوله به (كما يقول كولريدج) أكثر من حبه - الشخص الذي يمكن - بسبب صفاته وشمائله الموضوعية أن يثير في نفسه هذا الحب! وجوليت فتاة في الرابعة عشرة - سن الزواج في الأيام الخوالي - تركب رأسها وتندفع بطيش المراهقة إلى مغامرة غير محسوبة العواقب فتنتهي نهاية مفجعة! والجو الذي تقع فيه الأحداث هو جو البحر المتوسط بحرارته ونزقه والتهاب عواطفه! وشيكسبير يصر منذ البداية على أن يعزف لنا «أنغاما» مرحة في حوار فكه بالنثر يعتمد على التوريات والنكات اللفظية، وخصوصا ما يمس منها العلاقة بين الرجل والمرأة، بحيث نتهيأ باسمين بل وضاحكين لظهور ذلك المحب الواله وعندها نعرف أن حبيبته اسمها روزالين وأنها قد أقسمت ألا تتزوج وأن تظل عذراء إلى الأبد! وهذا «الموقف المستحيل» يجعل كل ما يقال بشأن الحب ورب الغرام كيوبيد - خصوصا بالقياس إلى غلام أمرد روميو وأصدقائه المراهقين - كلاما ذا نغمات نصف جادة على أحسن تقدير، والفصل الأول يمثل لنا هذه النغمات التي تتراوح بين المعقول واللامعقول، - إذا استعرنا عبارة زكي نجيب محمود - فالفكاهات البذيئة تتطور بلا أي معنى إلى صراع لا معنى له هو الآخر بين الأسرتين اللتين توارثتا كراهية عبثية لا معقولة مما يجعلنا نقبل في هذا الإطار التناقض الأول بين النغمات، كما يصوره غرام فتى يبدو عليه الضياع ولكنه مهذار، فهو يهزل من البداية وحين يلمح سمات الجد على وجه بنفوليو يسأله وليسمح لي القارئ بنقل جوهر هذا التراشق إلى العامية المصرية لتجسيد النغمة الصحيحة «الله! انت مابتضحكش ليه؟» فيرد بنفوليو قائلا: «والله يا ابن عمي أنا عايز أعيط!»، «ليه يا حبيبي ليه بس؟» «على ظلمك وعذاب قلبك!» فيجيئنا رد روميو الحاسم: - بس ده ظلم إله الحب! (ما انت عارفه!) أرجوك ... أنا عندي كفايتي ومش عايزك تحملني زيادة!
هو الحب إيه يعني؟ دخان من الآهات والزفرات! ...
وهكذا! فالواضح أن هذه «نغمات» محب يلعب دور المحب الوامق أي إنه يعي ما يفعله كل الوعي، وأرجو من القارئ أن يعود إلى النص في الترجمة الحالية أو في الأصل الإنجليزي ليرى كيف يطور روميو هذا الهزل ابتداء من السطر 190 (ف1، م1) فالتلاعب بالألفاظ المحسوب والمحكم حتى السطر 200 لا يمكن أن يقدم لنا صورة عاشق جاد أو يؤكد الصورة التي رسمها له والداه وأكدها بنفوليو قبل ظهوره - إلا في حدود ما يسمى بتقاليد الحب العذري
courtly love
أي الحب الذي لا يكون للمحب فيه أدنى أمل في الفوز بحبيبته. وأعتقد اعتقادا راسخا أن التلاعب بالألفاظ هنا لا يرجع فحسب إلى ولوع شيكسبير في تلك المرحلة من كتابته للمسرح باللغة في ذاتها (فلقد ظل مولعا بها طول عمره) ولكن الدافع عليه أولا هو محاولته تقديم صورة للعاشق التقليدي الذي صوره كتاب السوناتات في عصره الذين استقوا مادتهم من «هنا» ولم يمض إلى أي «مكان آخر» (وإن كان من المفارقات أن يصدق ذلك القول أيضا بمعنى أن الجمهور سوف يدرك بعد قليل أنه يشاهد القناع لا روميو الحقيقي!):
Tut! I have lost myself; I am not here,
This is not Romeo! he’s some other where! (Ii. 188-189)
هراء! فقد ضاع مني كياني ولست هنا!
وهذا إذن ليس روميو! فذاك مضى لمكان بعيد!
أما الدافع على روح الهزل والدعابة التي تشيع في المشاهد الأولى من المسرحية فهو إبراز التناقض بين لهو الشباب الذي ينغمس فيه روميو وأصدقاؤه من الأغنياء المدللين - وأهمهم مركوشيو - وبين رنة الجد التي تغلب على كلامه بعد لقائه جوليت ذلك اللقاء «القدري» العجيب! فالمشهد الثاني يبدأ بداية منثورة إذ يقدم لنا شيكسبير تنويعا على ثيمة الحب والزواج من وجهة النظر المقابلة - وفي الأسرة المعادية لأسرة روميو (أسرة كابيوليت والد جوليت)! إذ «يتقدم» باريس ليطلب يد جوليت رسميا ! وبتركيز كاتب المسرح البارع يدفع شيكسبير بالخادم الذي ذهب يدعو الضيوف إلى حفل كابيوليت في طريق روميو، بحيث نرى استمرارا لرنة الفكاهة التي يولدها شيكسبير عن طريق التناقض بين الشعر والنثر، والجد والهزل! فالخادم الذي يشير إليه المخرج في قائمة الممثلين على أنه مهرج يحاور روميو هكذا:
روميو :
أين سيذهب هؤلاء؟
الخادم :
إلى هناك!
روميو :
إلى أين؟ إلى حفل عشاء؟
الخادم :
إلى منزلنا!
روميو :
منزل من؟
الخادم :
منزل سيدي!
روميو :
أفادك الله! ... إلخ.
وعندما ينصحه بنفوليو بأن يذهب إلى حفل أسرة أعدائه؛ ليرى فتاة تنسيه حبه لروزالين إذ «لا يشفي لسع النار سوى نار أخرى» ينطلق روميو ليقدم لنا في أبيات ستة مشاعر ودفقات عاطفية بولغ فيها عمدا حتى تؤدي إلى المفارقة الدرامية فيما بعد (أي في المشهد الخامس وهو ذروة الفصل الأول حين يرى جوليت):
إن حل الباطل في عيني محل الإيمان الصادق
فلتتحول عبراتي لجحيم حارق!
ولتحرق فيه العينان الكاذبتان الصافيتان الصائبتان
وهما من أغرقتا - لكن ما ماتت أيهما - بالدمع الدافق!
أفتاة أجمل من فاتنتي؟ قد رأت الشمس جميع الخلق
ولم تر أجمل منها من أول يوم خلق الناس الخالق!
When the devout religion of mine eye
Maintains such falsehood, then turn tears to fires;
And these who, often drowned, could never die,
Transparent heretics, be burnt for liars.
One fairer than my love! The all-seeing sun
N’er saw her match since first the world begun.
I.ii. 88-93
كيف نتقبل هذه المبالغة الصارخة؟ إنها كما قلت مقصودة لكي تحدث التناقض مع مشهد اللقاء الأول مع جوليت، وشيكسبير يعمق من تمهيده لهذا اللقاء بالإصرار على الفكاهة النابعة من التلاعب بالألفاظ وبالبذاءة من فم المربية التي لا تستطيع أن تتكلم إلا نثرا، وبالفكاهات الصريحة من مركوشيو الذي يتحول فيما بعد إلى النثر: ... إذا كنت مغروسا في الوحل فسوف ننتشلك منه
أو (ولا مؤاخذة) إذا كنت مغروسا في الحب
حتى أذنيك! (ف1، م4، 41-43)
If thou art Dun, W’ll draw three from the mire,
Or (save your reverence) love, wherein thou stickest
Up to the ears!
أما تغيير «النغمة» فقد يعتمد على الانتقال من الفصحى إلى العامية، أو الانتقال من النثر إلى الشعر انتقالا رفيقا أي بالزيادة التدريجية للإيقاع حتى يصل إلى إيقاع النظم! ولذلك كان الأمر يختلط أحيانا على ناشري شيكسبير حين يتصورون الشعر نثرا لوقوعه في سياق الهزل، كما حدث لمونولوج مركوشيو عن الملكة ماب (انظر ص90-92) ولقد رأيت في هذا الهزل ما هو أعمق من الهزل المعتاد بسبب المفارقات التي تكتسي نغمات هزل صارخة وهي ذات دلالة عميقة لا يمكن الاستخفاف بها لارتباطها بالإطار الاستعاري العام للدراما وهو الذي يسميه شيكسبير في تاجر البندقية بوهم الحب
fancy ، ويصوره في مسرحية معاصرة لروميو وجوليت (هي حلم ليلة صيف) باعتباره عاطفة هوائية متقلبة بل باعتباره صورة من صور الأحلام التي تنتمي لعالم الخيال (انظر الفصل الخامس، المشهد الأول من حلم ليلة صيف، كلام ثيسيوس) ولننعم النظر الآن إلى المونولوج الشهير عن الملكة ماب: إنه يبدأ في وسط حوار هازل في المشهد الرابع بين روميو ومركوشيو حين يعمد روميو إلى اللعب على الألفاظ فيعترض عليه مركوشيو قائلا: «افهم قصدي! فالحكم الصائب يعتمد على حسن الفهم!» فيرد روميو قائلا: «مقصدنا حسن إن نحن ذهبنا للحفل ... لكن زيارتنا لا توحي بالحكم الصائب.» (لاحظ الإيقاع الذي يقترب من النظم).
م :
ولماذا من فضلك؟
ر :
لأنني رأيت حلما ... البارحة!
م :
وأنا أيضا!
ر :
وماذا رأيت؟
م :
الحالمون غالبا ما يكذبون!
ر :
أثناء النوم فقط ... لكنهم يرون كل حق!
م :
إذن فقد زارتك بالأمس المليكة «ماب»!
تلك التي تولد الأطفال عند الجان ...
أي إن تفاوت النغمات الذي يعتمد على تفاوت الإيقاع (خبب - رجز - خبب - متقارب - رجز - خبب + رجز - رجز + كامل - رجز ...) يوحي للقارئ بعدم الانتظام أي بعدم وجود نظام أو نظم في مجرى الفكرة التي ينقلها الحوار، حتى إذا وصلنا إلى نهاية المونولوج وجدنا قصدا ثابتا لهذا الهزل - وهو ما أسميته بالإطار الاستعاري العام (وهم الحب وطبيعته المتقلبة مثل الهواء):
ر :
يكفي يكفي يا مركوشيو ... ذاك كلام فارغ!
م :
هذا صحيح إذ أنا أحكي عن الأحلام
وهن من بنات كل ذهن عاطل
أما أبوهن فوهم باطل
كيانه مثل الهواء في رهافته
لكنه أشد من رب الرياح في تقلبه
ذلك الذي يسعى لأحضان الشمال الباردة
لكنه يلقى الصدود فيستدير مغاضبا نحو الجنوب
حيث الرضا وتساقط الأنداء في كل الدروب!
ف1، م4، 95-103
وتتصل الاستعارة هنا - كما هو واضح - باتجاه روميو إلى التغيير بعد أن لقي الصدود من روزالين التي أصبحت في هذا الإطار مقابلة «لأحضان الشمال الباردة»؛ ومن ثم فنحن نواجه هنا ما يسمى في الدراما بالإلماح إلى المستقبل
finger-post
أي الإشارة التي توجهنا إلى ما سوف يحدث، إذ يلتقي روميو بجوليت - فيتغير ويقع في غرامها - رغم ما سبق أن ذكرنا من أنه ما زال على عهده من حب للحب نفسه! ولذلك أيضا نجد أن الإطار الاستعاري يقلب «النغمة» هنا فجأة من الهزل إلى الجد ومن فوضى النظم إلى انتظام النظم! فكلام روميو الذي يبشر به لما سوف يحدث له في الحفل - وهو هنا في قمة الجمع بين الدراما والشعر - من بحر الكامل الصافي، وقد يختار القارئ أن يكتبه بالصورة العمودية (معظمه من مجزوء الكامل) أو يتركه كما هو في الأصل الإنجليزي:
روميو :
بل نحن بكرنا كثيرا يا صحاب! فالآن أوجس خيفة
مما تخبئه الطوالع في غدي
قدر رهيب بعد هذا الحفل رهن الموعد
ولسوف يغشى بالمرارة قصتي
حتى نهاية عمري المحبوس بين جوانحي
عمر يضيق بما بيه
فأموت قبل زمانيه
يا من توجه دفتي
أصلح شراع سفينتي
هيا بنا فخر الرجال!
بنفوليو :
الطبل يا طبال!
106-114 (ف1، م4)
فإذا تأملنا تغير اتجاه «النغمة» هنا من الهزل إلى الجد مجسدا في العلاقة بين النثر والشعر، وجدنا أن التذبذب الذي كانت تتسم به أجزاء الفصل الأول بمشاهده الخمسة يبدأ في الاختفاء في نحو منتصف المشهد الخامس، وذلك حين يرى روميو لأول مرة تلك الفتاة التي قدر لها أن تصبح زوجته - جوليت! واختفاء التذبذب معناه ابتعاد رنة الهزل عن كلام روميو تماما وانفصاله عن أصحابه ورفاق لهوه، إذ يعتبر الفصل الثاني زمنيا امتدادا للفصل الأول؛ فالمشهد الخامس من الفصل الأول يجمع بين روميو وجوليت ويفصل بين روميو وأصدقائه؛ ولذلك نجده عازفا عن مصاحبتهم في المشهد الأول من الفصل الثاني، مختبئا يستمع إلى سخريتهم منه ويصبر حتى ينصرفوا ثم يتقدم وحده من الجمهور لكي يعلن بنبرات حاسمة: «من لم يذق طعم الجراح ... يسخر من الندوب!» وهي بداية مشهد الشرفة الشهير (ف2، م2) الذي يعتبر النموذج الذي وضعه شيكسبير لحب المراهقين الدفاق! وربما كان مفتاح تغير النغمة ما يقوله القس لورنس لروميو في نهاية المشهد الثالث عندما يقدم له تفسيره الخاص (وربما كان التفسير الصحيح) لحبه لروزالين: إنه لم يستطع أن يكسب ودها لأنها كانت تحس بزيف عاطفته:
كانت تعلم حق العلم
أن غرامك ينشد أبياتا يحفظها
لكن لا يعرف معناها!
أي إن القس يدرك أن روميو لم يكن يقول ما يعنيه إلى حبيبته الأولى! ولذلك فإن فكاهات روميو الأولى كانت غير صادقة هي الأخرى؛ لأنه - كما سبق أن قلت - كان يلعب دور المحب الذي «يزعج» أصدقاءه بآهاته وزفراته! ولذلك أيضا فإن حب جوليت يحدث تأثيره المباشر فيه بعد لقائه مع القسيس إذ يجعله يعود ل (طبيعته) أي يجعله يطرح قناع المحب:
مركوشيو :
عجبا لك! أليس هذا أفضل من التأوه والأنين من لذع الحب؟ إنك الآن ودود وتعاشر أصدقاءك، وهذا هو روميو الحقيقي ... على طبيعته وبديهته الحاضرة! أما ذلك الحب المتهالك فيشبه الأبله الكبير الذي يجري هنا وهناك فرارا من الصبية ... ليخفي عصاه المضحكة في ركن بعيد!
ولقد تسبب سوء فهم كثير من القراء لهذا الموقف القائم على المفارقة في عدم فهم طبيعة «النغمات» الشعرية فيها؛ ومن ثم عدم إصدار الأحكام النقدية الصائبة على أدائها التمثيلي! فعودة روميو بسبب الحب إلى طبيعته الحقة ليست سوى البداية للصراع الحقيقي في المسرحية بين رقة الحب التي تجعل روميو يصل إلى النضج عند شيكسبير بسرعة خارقة، وبين غشم الكراهية التي تبقي على العداء الذي يسلب أفراد الأسرتين صفاتهم الإنسانية! ونحن لا نصل إلى الصدام الحقيقي بين هذين القطبين من أقطاب المأساة إلا بعد أن يربط الحب بين روميو وجوليت بعقد الزواج المقدس؛ فروميو صادق في «نغمته» هنا:
روميو :
إنك إن تضمم أيدينا بالكلمات القدسية
لن أكترث بما يجرؤ أن يفعله الموت!
ولا يستطيع روميو لفرط سعادته أن يعرب عن سعادته فيطلب من جوليت أن تفعل ذلك، ولكنها هي أيضا لا تستطيع، فكأنما تحلق في الهواء - كما يقول القس :
هذي هي الفتاة أقبلت وما أخف خطوها
هيهات أن ينال هذا الخطو من أحجار صوان صمود
للعاشق الولهان أن يمشي على خيوط بيت العنكبوت
تلك التي تهزها نسائم الصيف اللعوب دون أن يقع
إذ ما أخف زهو حامل الهوى!
ومع بداية الشجار في الفصل الثالث بين الأسرتين، أي حين يريد تيبالت أن ينتقم من روميو بسبب تطفله على حفل أسرة كابيوليت، يعود النثر وتعود فوضى النظم، كأنما أصبحنا غير واثقين من لون «النغمة» السائدة، فالمتصارعان يعمدان إلى السخرية، ولا تؤدي السخرية إلا إلى الموت:
تيبالت :
اسمع يا مركوشيو! كثيرا ما أراك بمصاحبة روميو!
مركوشيو :
بمصاحبته؟ هل جعلت منا منشدين يعزف أحدنا بمصاحبة الآخر؟ إذا كنا منشدين فلن تسمع إلا النشاز! ها هي قوس الكمان (يخرج سيفه) هذا ما سيجعلك ترقص بمصاحبتي!
تيبالت :
قد أقبل الرجل الذي أبغيه!
مركوشيو :
تبغي؟ إنك لا تستطيع البغي بأحد!
إن هذه النكات ذات «نغمة» جادة، فنحن نخشى ما وراءها، وحين يحدث ما نتوقع ونرى مركوشيو وهو يحتضر لا نستطيع أن نضحك على فكاهاته:
مركوشيو : ... أرجو أن تسأل عني غدا في عنواني الجديد ... بين القبور! لقد شويت في هذه الدنيا و«استويت»!
ولكننا ندرك تماما ما يعنيه نضج روميو العاطفي حين يسيء هو نفسه فهم ما حدث له؛ فهو يقدم لنا صورة لما حدث من وجهة نظر روميو القديم:
روميو :
أما كان هذا النبيل (قريب الأمير الحميم وخلي الوفي)
يدافع عن سمعتي حين أرداه جرح عميق؟
لقد سبني ذلك المتفاخر تيبالت ... صهري من ساعة واحدة!
ولكن حسنك يا حلوتي أصاب الفؤاد بلين الأنوثة
وفي سيف طبعي الغشمشم ألقى النعومة! (يدخل بنفوليو.)
بنفوليو :
مات مركوشيو الشجاع! روحه ذات الشهامة
قد تسامت للسحاب ... وغدت تحتقر الأرض ...
ردحا قبل الأوان!
روميو :
المقادير التي ألقت على اليوم ظلالا من سواد
كيف تعفي قابل الأيام؟
صفحة الأحزان لن تطوى سوى بعد زمن! (يدخل تيبالت.)
بنفوليو :
تيبالت عاد ثائرا مغاضبا.
روميو :
مزهوا بالنصر ومركوشيو مقتول؟
عودي للملأ الأعلى يا آيات الرحمة
ولأتبع صوت الغضب القادم من أعماق النار بعين ملتهبة ... (ف3، م1، 100-115)
ولا بد أن أكتفي بهذا النموذج الأخير، وأرجو أن يغفر لي القارئ طوله (15 بيتا) لأنه على تنوع إيقاعاته (متقارب - رمل - رجز - خبب) يجسد نغمة الجد التي تسود المسرحية ابتداء من هذه اللحظة وتطغى على كل ما عداها حتى النهاية - حتى حين يتعمد شيكسبير اللجوء إلى الفكاهة التي يتطلبها جمهوره. وكذلك يسود النظم حتى نصل إلى الفصل الخامس فيختفي النثر تماما وتختفي معه المربية بفكاهاتها الفظة - وينطق الجميع بالشعر.
وقد علق أحد النقاد على المشهد الذي يبكي فيه أهل المنزل وفاة جوليت (حين يظنونها قد توفيت وهي في إغماءة عميقة) (ف4، م5) فقال إنه يعتبر أقرب إلى السخرية منه إلى التعبير الجاد عن الحزن، وقال ناقد آخر إن ذلك متعمد؛ لأن شيكسبير يعتمد على معرفة الجمهور بأن جوليت نائمة وحسب؛ ولذلك فالجمهور يأمل في أن تصحو وأن تلتقي بزوجها حسبما دبر القسيس. ولا أريد أن أشق على القارئ غير المتخصص بذكر حيل الصياغة التي تجعل هذا التفسير ممكنا، ولكنني سأذكر فحسب حيلة الانتقال من النثر إلى الشعر عند دخول القس لورنس والموسيقيين ثم العودة إلى النثر عندما يخرج الجميع ولا يبقى إلا الموسيقيون على المسرح! ترى كيف تكون نغمة هذه الأبيات التي يقولها كابيوليت لنا ونحن على علم بأن ابنته ما زالت على قيد الحياة:
كابيوليت :
محتقر محزون مكروه مقتول مستشهد!
يا زمن الغم لماذا جئت الآن لتقتل حفلتنا؟
بنتي يا بنتي! لا بل يا روحي ... ميتة أنت!
وا أسفا ماتت بنتي
وستدفن مع هذه الطفلة أفراحي! (ف4، م5، 59-64)
5
وبهذا العرض السريع لمشكلات «النغمة» في الترجمة، نكون قد دخلنا بالفعل عالم روميو وجوليت بصعوباتها النقدية التي لا حصر لها! فإذا كنا نتردد هنا وهناك في مقصد الشاعر وفي «نغمة» ما يقوله الأبطال، فما بالك بالحكم على «نغمة» المسرحية بصفة عامة أي تصنيفها في إطار المدارس النقدية التي لن تقبل منا التردد أو الألوان الرمادية كما يقولون! والسؤال الأول هو (طبعا): هل هذه مأساة؟ إن البطلين يموتان في النهاية (وقبلهما يموت مركوشيو وتيبالت، وفي المشهد الأخير تموت والدة روميو أيضا!) وذلك كله في غضون الأيام المعدودة التي يستغرقها حدث المسرحية! بل إن شيكسبير يسميها هو نفسه «مأساة» وهو يذكر في البرولوج أن القدر يترصد هذين العاشقين (تعبس لهما الأفلاك، وتذيقهما أسواط هلاك!) ولكننا هنا لسنا أمام مأساة عامة أو مأساة كلاسيكية حيث يكون هلاك البطل منذرا بالتغيير في حياة قطاع كبير من البشر - فإذا كان ملكا أو أميرا أو حاكما من أي لون فجلال المأساة ينبع من المصير الذي يترصد الآلاف أو الملايين الذين ينتمون إلى حزبه أو حزب منافسه أو منافسيه، أي إننا - أيا كان حكمنا على طبيعة المأساة الكلاسيكية - لا بد أن نسلم بأن الجلال
grandeur
الذي يشيع في جنباتها يمكن إرجاعه إلى عظمة البطل الذي يمثل قمة من قمم السلطة؛ ومن ثم يكون له وزن لا يتمتع به أي من رعاياه - ولهذا المفهوم جذوره في الآداب القديمة مثل الملاحم والسير الشعبية؛ فالبطولة وحياة الأمم لا ينفصلان (انظر كتاب البطل في الأدب والأساطير للدكتور شكري عياد).
جوليت والقس لورنس.
ولكننا هنا نواجه نهاية فريدة إذ إن موت البطلين يبشر بعودة السلام بين الأسرتين المتنازعتين بحيث يحل الحب محل البغضاء، والتوافق محل الصراع، وتنعم فيرونا بعهد جديد تتغلب فيه على تراث الماضي الأسود! أي إن موت البطلين هنا يكتسب بعدا طقسيا لأنهما يتحولان - في آخر المطاف إلى المستوى الرمزي، فيظهران في صورة القرابين التي لا بد للمدينة أن تقدمها إلى إله الشر - إله الكراهية والبغضاء حتى يرحل عنها فيعود السلام والحب إلى أهلها! وهذه النظرة إذا سلمنا بصحتها تفسر لنا شتى النغمات التي تدف بين جوانح المسرحية - عالية أحيانا ومنخفضة أحيانا أخرى - ونعني بها نغمات القدر الشاعري (والدرامي في الوقت نفسه) الذي سيقبض إليه روحين بريئين في مقابل السلام! ولن يعدم القارئ صوت هذا القدر منذ البداية؛ فروميو يظهر في صورة المحكوم عليه بالهلاك، وهو يندفع اندفاعا غير مفهوم في الطريق الخطر الذي «كتب عليه» أن يتعسفه! ومن منا لا يعجب لذلك الإحساس الغامض الذي ينتاب روميو قبل ذهابه إلى حفل أسرة كابيوليت (ف1، م4، 106-114)؟ كيف نفسر شعوره بأنه مندفع إلى الهلاك؟ وكيف نفسر إحساس جوليت بالموت حتى وهي تنتظر قدوم روميو، في الفصل الثالث، المشهد الثاني؟
أعطني روميو حبيبي! وإذا متنا فخذه
واصطنع منه نجيمات صغارا!
والواقع أن النص هنا يحتمل قراءات متعددة، فبعض ناشري شيكسبير يصرون على «إذا مت» (ومنهم إيفانز الذي اعتمدت عليه في الترجمة) ومنهم من يقرؤها «إذا مات»، ومنهم من يفضل القراءة التي اعتمدتها هنا لإحساسي بأنها تعكس الإطار الشعري الخاص الذي تقع أحداث الرواية في داخله ومن خلاله!
وإذا كان مدخلنا من خلال «النغمة» قد أدى إلى تصورنا الشعري للمسرحية، فإن مدخلنا من خلال الشعر سوف يوضح لنا سر عظمة هذا النص وسر الخلاف عليه؛ فالتلاعب بالألفاظ كما سبق لي أن ذكرت ليس هدفه السخرية أو الفكاهة فحسب، ولكنه جزء من نسيج شعراء السوناتا في أوائل القرن ومنتصفه، ممن سبقوا شيكسبير ووضعوا الأسس لما أسميته بالحب العذري، فشكل السوناتا كان يحمل معه منذ أيام بترارك وحتى الإنجليز (وايات، ساري، واطسون، سيدني، سبنسر) خصائص اللغة المثقلة بالمبالغات، والصور البارعة الحاذقة، والتلاعب بالألفاظ، والطباق والجناس، والتكرار، مع «نغمة» حزن زائفة تعكس حال المحب العذري - أي الذي من المحال أن ينال حبيبته! والتناقض الذي يتحدث عنه روميو في أول مشهد نراه أي المفارقات التي ينسبها إلى طبيعة الحب تجمع بين السخرية والجد:
فتلك كراهية الأولين ... وأفدح منها غرامي الأليم
فيا عجبا يا غرام الصراع وكرها به نبضات الغرام
ويا خفة ذات وطء ثقيل ويا زهوة ذات وجه عبوس
وأخلاطك الرثة الشائهات من الصور الحلوة الرائعات
رصاص من الريش نار من الزمهرير دخان منير
وسقم هو الصحوة الكاملة! ونوم هو الصحوة الدائمة ! (ف1، م1، 166-172)
أي إننا نخطئ إذا تصورنا أن روميو يقول ذلك فقط من باب التفكه، أو أن شيكسبير يقدم لنا هذه «المائدة» الحافلة بالمتناقضات لمجرد ولوعه بالطباق في أوائل حياته الشعرية، وقد نضل إذا نحن صدقنا مركوشيو الذي يصفه فيما بعد بأنه «يعشق القصائد التي تسيل من قلم بترارك.» (ف2، م4، 34-35) أي إنه مثل كتاب السوناتا يقول ذلك كله من باب الانصياع للتقاليد الأدبية وحسب، فالواقع أن شيكسبير يستخدم هذه «النغمة» الهازلة ليقدم لنا الموضوع الجاد الرئيسي في المسرحية وهو الانقلاب من الشر إلى الخير (موت العاشقين، السلام) بعد انقلاب الخير إلى الشر (الحب، مقتل مركوشيو وتيبالت) وهو يغير «النغمة» عامدا حين يقدم لنا القسيس - رجل الدين المهيب - ليعظنا بحكمته التي لا بد أن نفترض جديتها:
لا يحيا فوق الأرض خبيث مهما بلغ من الشر
إلا ويفيد الأرض ببعض الخير
وكذاك نرى الطيب إن أجبرناه على ترك الخير
قد ثار على طبع الخير به فتعثر في الشر!
بل إن فضائلنا تتحول لرذائل إن كان يراد الباطل
والشر إذا سخر لفعال الخير فسوف يؤازره العاقل! (ف2، م3، 17-22)
ولذلك فنحن نقترب في حذر من طبيعة المسرحية التي يتغير لونها تماما إذا تغيرت نهايتها، والواقع أن الكثير من المخرجين يلجئون إلى تغيير النهاية كأنما ليقولوا للجمهور: كادت تحدث كارثة ... ولكن الله سلم!
والواقع أن خصائص المسرحية المأسوية لا تنبع من الخطأ الذي وقع فيه القسيس أو والد جوليت (بتقديم موعد الزفاف مما جعل جوليت تتناول العقار المخدر قبل الموعد فلا يدركها روميو) (4، 2، 23) ولكنها ترجع إلى أن نظام الكراهية الذي يحكم عالم فيرونا مأسوي في جوهره، ومع ذلك فلنحاول في هذه المقدمة استعراض أهم النظرات النقدية للمسرحية.
6
في عام 1948م صدر أشهر كتاب في هذا الصدد وهو كتاب المأساة عند شيكسبير
Shakespearian Tragedy
من تأليف ه. ب. تشارلتون، وهو كتاب بالغ الأهمية لأنه أحدث أصداء واسعة وحول دفة النقد إلى التساؤل عن دور القدر في المسرحية، خصوصا بسبب ما يبدو من تعمد الشاعر أن يزاوج بين قوة الإرادة البشرية وقوة الأقدار المتربصة بالإنسان؛ فالكاتب يعزو دور القدر إلى تأثر شيكسبير بقصيدة روميوس وجوليت التي كتبها آرثر بروك وظهرت الطبعة الأولى منها عام 1562م ثم توالت طبعاتها في حياة شيكسبير، واعتمد بروك في صياغتها على نسخة فرنسية للقصة كتبها بيير بواستواو
(ونشرها في المجلد الأول من كتاب قصص مأسوية
Histoires Tragiques
الذي حرره فرانسوا دي بليفروست (عام1559م)) ويقول فيها إنه استقى مادتها من القصة التي كتبها ماتيو بانديلو
Matteo Bandello (1554م) الذي استقى مادته وبعض التفصيلات الأخرى من قصة إيطالية كتبها لويجي دي بورتو ونشرت حوالي عام 1530م، وتعتبر أقدم قصة تستخدم هذين الاسمين لبطلي المسرحية وتحدد مكان الحدث في بلدة فيرونا.
ولا شك أن بروك يشير إلى القدر مرارا بل ويذكر ربة الحظ مباشرة
Fortune
نحو أربعين مرة، ومع ذلك فالقارئ لا يشعر عند قراءة قصيدته بالدور الحاسم الذي يلعبه القدر طبقا لتعريف تشارلتون؛ فربة الحظ هذه موروثة من التراث الكلاسيكي وهي فتاة معصوبة العينين تدير عجلة باستمرار بحيث ترفع أقدار البشر أو تخفض منزلتهم ثم تعيد الكرة! أي إنها ربة التحول والتقلب، وليست ربة غضب أو انتقام؛ بما إن بروك يقول على فم القس إن للإنسان حرية الاختيار - ومع ذلك فقد ساد رأي تشارلتون حتى الستينيات، وكان أهم من تأثروا به الناقد ج. إ. داثي
G. I. Duthie
الذي حرر طبعة المسرحية في سلسلة شيكسبير الجديدة عام 1955م. فهو يقول مثل تشارلتون إن المسرحية عمل شعري رائع ولكنها مأساة لم تنجح، وإذا كانت قد أصابت قدرا من النجاح فهو يرجع - في رأي تشارلتون - إلى «حيلة من الحيل» - وهو يقول إن الصراع بين الأسرتين لون من ألوان القدر يحاول شيكسبير به: «أن يبرئ نفسه من أي تواطؤ في مأساة العاشقين ... أي إنه يتبرأ من المسئولية ويلقيها على كاهل القدر أو المصير ... فالصراع هو الوسيلة التي يستخدمها القدر لقتل الحبيبين.» (صفحة 52 من النص الإنجليزي)
ويخلص تشارلتون من هذا إلى أن شيكسبير لا ينجح في تناول دور القدر أو دور الصراع بالصورة التي تصعد بأيهما إلى مصاف المأساة الحقة، ويقيم سر جاذبية المسرحية وجمالها إلى «سحر عبقريته الشعرية وقوة إبداعه الدرامي الذي يأتينا في أماكن متفرقة من النص لا إلى تمكنه من الأسس الصحيحة لفن المأساة.» (ص62). وهذا يذكرنا بالنظرة التقليدية الراسخة التي تجد اليوم من يؤيدها (برتراند إيفانز
Bertrand Evans
في كتابه الممارسة المأسوية في شيكسبير
Shakespeare’s Tragic Practice
عام 1979م في الصفحات 22-51) والتي تعتبر المسرحية من نوع المأساة القدرية الخالصة، حتى إن جميع أفعال العاشقين بل وسائر الشخصيات يمكن اعتبارها نتيجة للإرادة القدرية.
أما النظرة المقابلة للمسرحية، والتي لا تقل في تطرفها عن هذه النظرة، فهي اعتبار الشخصيات مسئولة دون غيرها عن مأساتها، وأهم دعاتها الشاعر الكبير و. ه. أودن
W. H. Auden
الذي أعد طبعة
Laurel
من المسرحية (المحرر العام فرانسيس فيرجسون
Francis Fergusson ) عام 1958م وعدد في الصفحات (21-39) الخيارات الخاطئة للشخصيات (كل على حدة) وعواقب هذه الخيارات. ومن قبله (1957م) سلك فرانكلين م. ديكي نفس السبيل في كتاب مستقل عنوانه مأساوات الحب عند شيكسبير
Shakespeare’s Love Tragedies
وهو يضع قبل العنوان بيتا من الشعر اقتبسه من مسرحية عطيل - وهو الذي يقول فيه البطل إنه كان يعشق زوجته عشقا غير متعقل، بل مشبوب جارف!
Not wisely but too well!
ولهذا المقتطف دلالته لأن ديكي يستند إليه في تفسيره لكل مآسي الحب عند شيكسبير، أي اعتباره أن سبب المأساة هو الاندفاع والطيش أي عمى البصر الناشئ من تسلط عاطفة دون غيرها على الإنسان، وهو يشترك مع أودن في قبول تفسير القس الذي يقول في آخر المشهد الثالث من الفصل الثاني إنه كان يلوم روميو «ليس على حبه بل تفانيه في العشق!» ومن ثم ينتهي ديكي إلى اعتبار روميو وجوليت من الأمثلة الرمزية لسيطرة العاطفة الجائحة ويدافع عن ضرورة عقوبتهما الشعرية على تجاوزهما حدود الحب الزوجي المعتدل الذي تباركه الكنيسة والدولة، بل يذهب أودن إلى القول بأنهما من الملعونين (أي مصيرهما جهنم وبئس المصير).
وبعد ذلك بعامين، أي في عام 1960م صدرت دراسة بالغة الأهمية عن علاقة المسرحية بالمأساة القروسطية (نسبة إلى القرون الوسطى) عنوانها الحس المأسوي في شيكسبير
The tragic Sense in Shakespeare
للناقد جون لولر
John Lawlor
يعكس فيها تفسير القدر والأقدار فيقول بإيجاز إن اختيار روميو وجوليت للموت ليس من فعل القدر، ولكنه يمثل تأكيدا لإرادتهما بدلا من الاستسلام لما تأتي به المقادير! وهو يعود لتأكيد هذا القول في دراسته عن المسرحية التي نشرها في كتاب عنوانه مسرحيات شيكسبير الأولى
Early Shakespeare
من تحرير ح. ب. براون وب. هاريس عام 1961م في الصفحات من 123-143. ويقول فيها إن مفهوم المأساة القروسطية يستند إلى «حقيقة محورية هي أن ربة الحظ لا تعرف شيئا عما يستحقه البشر أو لا يستحقونه، ومع ذلك فإن فعالها ليست في نهاية المطاف مستعصية على الفهم؛ فمن يريد أن يتعلم سوف ينال خيرا كثيرا.» (ص124) وهو يضع المأساة بمفهومها القديم (اليوناني) في مقابل المأساة القروسطية ويقارن بينهما ثم ينتهي إلى أنه بينما تعيدنا المأساة القديمة في آخر المطاف إلى العالم الواعي - أي إلى الواقع المادي - مثلما يفعل شيكسبير في مآسيه الكبرى (هاملت وعطيل وماكبث والملك لير) فإن المأساة القروسطية تصحبنا إلى خارج أسوار هذا العالم. وبعد أن يعرض خصوصية هذا النوع من المأساة يستدرك قائلا إن ما يقصده هو أن «الموت ليست له سلطة نهائية على العاشقين.» (ص127) ومن ثم فهو لا يقلل من شأن سطوة ربة الأقدار (ومن باب أولى لا يلغي وجودها) ولكنه - كما يقول - «يحرمها من النصر النهائي.» (ص127) لأن العاشقين في رأيه باختيارهما الموت يعقدان صفقة انتصار لا زمنية مع الخلود (نفس المرجع والصفحة).
ومن طرائف الأحكام التي أصدرها النقاد على هذه المسرحية حكمان يتناقضان تناقضا بينا في تناول مفهوم الحب البشري؛ الأول يربط بينه وبين عنصر «التعلق بالآخر» (أي الانجذاب إلى الغير) وهو الذي يعتبر نتيجة لفكر عصر النهضة الذي حل محل فكرة المحبة في الدين بمعنى الإحسان أي «الحب من أجل الآخر» - وهذا هو أحدث تفسير ل «نوع» الحب الذي نجده في كتاب عصر النهضة جميعا لا عند شيكسبير فحسب، وهو الذي يصفه كريب
T. J. Cribb
بأنه وثيق الصلة بنظرة الأفلاطونية الجديدة (انظر مقاله بعنوان «وحدة روميو وجوليت
The Uuity of Romeo and Juliet ») في سلسلة كتب «استعراض النقد الشيكسبيري »
Shakespeare Servey (العدد 34 (1981م) في الصفحات من 93-104) فهو يقول إننا ينبغي أن ننظر إلى المسرحية باعتبارها تجسيدا لمفهوم الحب في الأفلاطونية الجديدة وفقا لتفسير فيتشينو
Ficino ، وبيكو ديلا ميراندولا
وليوني إبريو
Leone Ebreo ، وهو الذي تحل فيه (كما سبق أن ذكرت) الرغبة
Eros
محل الإحسان
Caritas
ومن ثم فهو يفسر الصور الشعرية في المسرحية في إطار فكر الأفلاطونية الجديدة، ويفسر موت العاشقين تفسيرا يقترب به من التجريدات الذهنية باعتباره انتصارا للحب على الكراهية المتمثلة في تيبالت، قائلا إن تيبالت يصبح «قوة من قوى الأفلاك (أي الأقدار) وكذلك قوة ترمز للمفارقات الميتافيزيقية التي تقدم البطلين باعتبارهما شخصين وتعبس لهما الأفلاك، وباعتبارهما بطلين ينتصران على الأفلاك من خلال الحب.» ولذلك فإن هذا التفسير يعتمد على اعتبار المسرحية شعرا في المقام الأول، وهو يعترف بذلك ويقول إن هذا التفسير قد لا ينجح على المسرح.
وفي الناحية الأخرى نجد التفسير الذي يربط بين حب العاشقين وبين مفهوم قروسطي معروف؛ وهو إن «الحب البشري يعتبر آية من آيات حب الله الذي يسود جميع الكائنات ويتحكم في سير الكون.» وهو التفسير الذي يعتمد فيه بول سيجل
(في مقال نشره في مجلة شيكسبير الفصلية
Shakespeare Quarterly
العدد 12، 1961م، ص371-392)، على إقامة علاقات وثيقة بين نص شيكسبير والإشارات إلى الحب الجسدي في الكتاب المقدس وعنوان المقال يبرر هذا فهو «المسيحية ودين الحب في روميو وجوليت»، وفيه يقول إن حب روميو وجوليت يحقق العناية الإلهية باعتبارها جزءا من الحب الكوني الذي يتوسل به الله في رعاية الكون، كما أن موتهما يحول الشر والكراهية في العالم إلى توافق اجتماعي عن طريق المصالحة بين الأسرتين. ولكن سيجل لا يقف عند حدود المفهوم القروسطي فهو يربط بين حب العاشقين أيضا ومفهوم «فردوس العشاق» (ص384-386) الذي كان يمثل جزءا لا يتجزأ من شعر الحب العذري، ونماذجه في ذلك العصر هي حديقة معبد فينوس التي صورها سبنسر في ملكة الجان، الكتاب العاشر، انظر كتابنا فن الكوميديا (مكتبة الأنجلو المصرية، 1980م).
والملاحظ في هذا العرض الموجز لطبيعة المأساة في روميو وجوليت أن مصدر الخلاف ينبع من التردد بين إرجاع سبب المأساة إلى القدر وبين إرجاعه إلى الإرادة البشرية، أي إن النقد هنا انحرف عن التركيز على المسرحية الشعرية، وانصب على مفهومات ميتافيزيقية لا بد أن يعجب لها الإنسان، خصوصا ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين، ولن تجدي المفهومات الميتافيزيقية في تفسير جاذبية هذا النص الشعري وافتتان القراء ورواد المسرح به على مدى قرون طويلة، ولكن هذا الخلط الذي يتهم النقاد به شيكسبير - أي الخلط بين مفهومي القدر والإرادة الحرة - ليس في الحقيقة خلطا على الإطلاق، فنحن نواجه تفاعلا بين المفهومين باعتبارهما قوتين متصارعتين ومتحدتين في الوقت نفسه. وربما كان ج. بلاكمور إيفانز على حق في أن شيكسبير يقابل بين القوتين في المسرحية ابتغاء تعميق المفارقة الدرامية، أي إنه يقابل بينهما بدلا من أن يصهرهما في بوتقة واحدة كما يفعل في مسرحياته المأسوية الناضجة، وربما كان على حق فعلا في أن هذه سمة من سمات الافتقار إلى النضج والخبرة في بداية حياته، ولكن لا بد من التسليم بأن المسرحية ناجحة بسبب ما يسميه النقاد بالخلط بين المفهومين وليس برغم هذا الخلط! (طبعة كيمبريدج الجديدة، 1984م) (ص16).
7
ويجمل بنا، قبل أن ندعو القارئ إلى قراءة هذا النص الشعري، أن نذكر بإيجاز بعض أحكام النقاد على خصائصه الشعرية وعلاقتها بالمسرحية باعتبارها كيانا دراميا، فنحن دائما ما نشير إلى المتناقضات باعتبارها من عناصر الدراما، ولكنها هنا تكتسي مادة الشعر. فالحب يزدهر في إطار الكراهية المتوارثة كأنما هو نبت بري لا علاقة له بالجو الذي ينمو فيه أو بالتربة التي يخرج منها، وكأنما هو طاقة روحية تتحدى الأوضاع الاجتماعية التي تحيط به، وتتناقض تناقضا صارخا مع ما استقر في الأذهان والصدور؛ ولذلك فإن «مادة» المسرحية لا تتشكل فقط من الثيمة الرئيسية بل أيضا من الثيمات الفرعية التي تشترك معها في إخراج نسيج يستند إلى عنصرين أساسيين هما عنصر الضوء والظل أو عنصر النور السماوي الذي يشرق في قلب العاشقين، وعنصر الظلال الأرضية التي تشكل حياة الأسرتين.
فالعاشقان يستطيعان بخيالهما أن يحلقا في أجواء غير أرضية وأن يسموا على المجتمع بكل ما يضعه من قيود على حرية القلب والذهن، أما من يمثل هذا المجتمع فهم خليط من الشخصيات التي تتراوح بين الطيش والحلم والفكاهة - شخصيات يجمع بينها الانغماس في عالم الأرض - عالم الظلال التي تتفاوت كثافتها - فالمربية ثرثارة، سليطة اللسان، تنتمي إلى الأرض فتمعن في الانتماء، وهي تتحدث دون توقف عن الحب بصورته الفطرية الساذجة فتقدم لنا الوجه الآخر لعلاقة روميو وجوليت، أما والد جوليت فهو هرم متصاب أبله، لا يستطيع أن يرى أبعد مما ترى زوجته، الغبية القاصرة ذهنا وفكرا ذات الاهتمامات التافهة، أما مركوشيو فهو مرح مهذار لا يستطيع أن يقبل الجهامة أو القتامة ولا يتوقف عن الهزل والفكاهة حتى عندما يموت. وأما تيبالت فهو ذو طبع حاد ومزاج ناري يدفعه إلى حتفه لأنه لا يستطيع أن يطلق لخياله العنان فيرى نفسه ومجتمعه من زاوية أخرى؛ ولذلك فإن الشخصية المقابلة له هي شخصية «بنفوليو» العاقل المتقدم في السن (نسبيا) والذي يستطيع أن يتحكم في أفعاله وأن يصدر أحكاما متئدة على ما يدور حوله بخلاف القس لورنس الذي يدعي الحكمة ويتظاهر بالذكاء وأحكام التدبير، ثم يؤدي بخطته الفاشلة إلى كارثة مروعة (حسبما يقول البروفسور داودن) دون أن يدري.
وهذه الشخصيات تقترب جميعا من النمطية بمعنى أنها لا تتطور بل تشكل الإطار الذي تقع فيه المأساة، وأهم عنصر فيه (كما سبق أن قلنا) هو التناقض بين جو التفاهات المنزلية في منزل أسرة كابيوليت وجو الشمس، والقمر والنجوم والليل. فالضوء فيها إما باهر أو خافت، وهو يتمشى مع سرعة الحدث وحيويته بل إنه أحيانا ما يكتسب خصيصة أخرى وهي أنه «حي»، ويقول «روبرت إدموند جونز» إن ثمة «إحساسا غلابا هنا بأن الضوء كائن حي في نبضه وسرعته؛ فهو يتسم بالإشراق والنفاذ ... ويعين على الوعي والاكتشاف ويوحي بالدهشة ... شأنه شأن حركة الانفعالات داخل نفوس الشخصيات.»
وكثيرا ما يتوقف النقاد في هذه المسرحية عند خصائص شعرها الغنائي العذب؛ ولذلك فهم يقولون إنها من بواكير إنتاجه، مستدلين في هذا أولا باحتفال الشاعر بالقافية ليس فحسب في المثنيات (أي الوحدات التي تتشكل من بيتين يشتركان في قافية واحدة) بل أيضا على مدى فقرات طويلة أحيانا في صورة سداسيات مقفاة وأحيانا في صورة سوناتات ذات قواف محكمة. ومستدلين ثانيا باهتمامه بالصور الفنية من استعارات معقدة وتشبيهات بعيدة المصدر والمرمى واستخدامه إياها ولو في غير موضعها الدرامي، ومستدلين ثالثا بولوعه بالتوريات واللعب بالألفاظ في شتى أشكال المحسنات البديعية والبيانية (أحيانا في مواضع جادة من السياق الدرامي) وهذا لا شك من خصائص أسلوب شيكسبير في بداية حياته الفنية إذ كان يجد متعة كبيرة في المحسنات الأسلوبية ولو كان ذلك على حساب الموقف أو الشخصية.
ولكن الدكتور و. ه. كليمن يذهب في كتابه تطور الصور الشعرية عند شيكسبير (1959م) إلى أن مسرحية روميو وجوليت تنتمي إلى المرحلة الوسطى من مراحل تطوره لأنها تجمع بين الأسلوبين - الأسلوب المبكر الذي ساد في الملهاوات - والأسلوب الناضج الذي اتسمت به المأساوات. وهو يسوق على ذلك مثلين أولهما موقف ليس بطبيعته ملائما للصور الفنية وهو مع ذلك مفعم بها، وثانيهما موقف يحتم ظهورها وتفيض منه بالفعل بطريقة تلقائية. أما الأول فنرى فيه والد جوليت يدخل عليها حجرتها وهي تبكي؛ فإذا بلسانه ينطلق بعديد من الصور المعقدة التي لا تتفق مع هذا الموقف على الإطلاق، وأما الثاني فهو مشهد الشرفة الشهير حيث يتناجى العاشقان ويتساران ولا من منصت سوى قلب الطبيعة! وهنا نجد أن الدفء والرقة اللذين يميزان مثل هذه المشاهد يرتفعان باللغة إلى مستوى من الثراء التصويري يندر وجوده حتى في مسرحيات شيكسبير الأخرى يقول روميو:
تكلمي يا أيها الملاك الرائع الوضاء
فأنت تسطعين وسط الليل في السماء
كمرسل مجنح يطوف فوق الأرض
يبهر العيون وهو يمتطي متن الهواء
أو أنه على السحائب الوئيدة
يمر ناشرا شراعه في لجة الفضاء.
ويعلق الدكتور كليمن على هذه الفقرة قائلا إن ارتباط هذه الصور بالموقف الدرامي والأشخاص ارتباط من لون جديد فالموقف نفسه ذو طبيعة استعارية، يسمح بنشوء صور «عضوية» منه، كما يسمح بتطورها للنهاية. إن روميو يقف في الحديقة المظلمة ويتطلع إلى جوليت التي تطل عليه من نافذتها، وهو يرفع عينيه إليها مثلما نرفع عيوننا لنبصر الأجرام السماوية، وهو يرى في بعدها عنه وارتفاعها سماء جديدة يستطيع بطبيعته الشاعرة أن يحلق في أجوائها. وهكذا فإن «عيون البشر» تعني في الحقيقة عيني روميو، والرسول المجنح الذي يركب متن السحب في سيرها الوئيد هو ذلك الإحساس الفياض الذي يولد في قلبه ليرتفع به في سماء جديدة بعيدة عن جو الواقع الكئيب المفعم بالكراهية والأحقاد.
وإذا كان النقد الحديث يتفق مع رأي الدكتور كليمن بالنسبة لهذه الفقرة، فإنه لا يتفق معه بالنسبة لطبيعة اللغة التي يستخدمها والد جوليت، إذ يرى معظمهم أن الصور التي يزخر بها حديث هذا الهرم تفصح عن شخصية ذات تفكير معوج ملتو، وأن استعارته الغريبة تدل على عقل غير مرتبط بالواقع الحي الذي تعيشه مدينة فيرونا؛ ومن ثم فهو دون أن يدري يشترك في وقوع الكارثة التي تصيب العاشقين، ليس فقط بسبب عدائه الراسخ لأسرة مونتاجيو بل أيضا بسبب انفصاله عن الواقع ورفضه له، وهذا أمر تؤكده المشاهد الأخرى في المسرحية وبخاصة مشاهد الحفل التنكري ومشاهد الإعداد للزفاف.
وإذا كان لنا أن نختلف مع الدكتور كليمن حول تفسيره لبعض مواضع الصور الفنية، فلا يمكننا إلا أن نتفق معه حين يقول إن «الشاعر في هذه المسرحية أقوى من كاتب المسرح» بمعنى أن التصور العام للحدث والشخصيات يقع في إطار شعري يعتمد على المفارقة أكثر مما يقع في إطار درامي يعتمد على الصراع. والمفارقة هنا مفارقة رومانسية أي إنها تستمد جوهرها من قدرة الفرد على خلق عالم خاص به يسمو من خلاله على الواقع بل يتخطى حدود الواقع فيه، كما تعتمد على قدرة الأشياء والأفعال على أن نصبح رموزا لما هو أعم وأشمل من خلال طاقة الذهن على الاستعارة أي على التفكير في إطار المجاز بمعنى أن يرى الفرد في النسيم مثلا أنفاس الكون الجياشة؛ ومن ثم أنفاسه هو ومشاعره الخاصة، (مثلما يفعل روميو) أو أن يرى في لحظة اللقاء مع الحبيب لحظة تجرد من كل شيء، من الاسم والموقع الاجتماعي ... إلخ؛ بحيث تصبح لحظة نقاء وصفاء بما يشيع فيها من توافق وتمازج وألفة (مثلما تفعل جوليت). وهكذا فإن شيكسبير هنا لا يستخدم تراث الرومانس الذي ورثه عصر النهضة من العصور الوسطى بمواضعاته ومواصفاته المحددة، وذلك رغم أنه يحافظ على مفهوم الغموض والسحر الذي يكتنف فكرة الوقوع في الحب نفسها؛ إذ يقع روميو في غرام جوليت من أول لحظة، ويتبين من أول لحظة جسامة العوائق التي تقف في طريقه ... إلخ.
ولننظر الآن بإيجاز إلى استخدام شيكسبير للضغط الزمني حتى يكسب الأحداث سرعة تكاد تكون لاهثة.
8
تبدأ أحداث المسرحية في صبيحة يوم أحد، وبعد المشاجرة التي تقع في أحد شوارع فيرونا، يلتقي بنفوليو وروميو، ونسمع أن الساعة قد دقت التاسعة منذ قليل. وفي عصر ذلك اليوم يقرأ روميو قائمة بأسماء المدعوين إلى حفل كابيوليت ثم يقام الحفل التقليدي الكبير بالليل، ثم يذهب روميو إلى بيت أعدائه وبيت حبيبته في نفس الليلة بعد الحفل مباشرة ويسمع منها اعترافها بالحب خلسة في مشهد النافذة الشهير. وفي صباح الاثنين الباكر يتجه روميو إلى القس لورنس في صومعته، ثم يلهو في الظهر مع مركوشيو ويقابل معه المربية ويطلب إليها أن تخبر جوليت أنهما سوف يتزوجان في عصر اليوم نفسه.
وبعد ذلك - بعد زواج العاشقين بساعة واحدة - يقتل تيبالت مركوشيو، فينتقم روميو بأن يقتل تيبالت، ويأتي الأمير في الحال ويحكم على روميو بالنفي. ولكن روميو يقرر أن يقضي ليلة عرسه الأولى مع حبيبته ذلك المساء، ثم يرحل إلى منفاه في الصباح. وفي فجر هذا اليوم - يوم الثلاثاء - يرحل روميو تاركا جوليت بينما يكون والدها كابيوليت قد اتفق مع باريس على تزويجه من ابنته وحدد لذلك يوم الخميس. وهو يثور ويفور ويرغي ويزبد حين ترفض جوليت هذه الزيجة التي لا تودها، ويهددها بأن يتبرأ من أبوتها إذا لم تطعه. فتزور القس لورنس وتتفق معه على الخطة الشهيرة ويعطيها الشراب المنوم فتعود وتتظاهر بأنها قد أطاعت رغبات والدها، وفي الحال يتمسك والدها بما قالته ويصر على أن يزفها إلى باريس فورا؛ ومن ثم يقدم الموعد من يوم الخميس إلى يوم الأربعاء (أي كما يقول «غدا»). وفي ساعة من ساعات ليل الثلاثاء تشرب جوليت الشراب المنوم ويظل والدها ساهرا طول الليل مشغولا بالإعداد للزفاف. وفي صباح يوم الأربعاء يكتشف أهل المنزل أن جوليت في حالة من النوم تشبه الموت، فيتصورون أنها توفيت ويصل القس في الساعة المحددة للزواج وتتحول كل الترتيبات التي وضعت للزفاف إلى مراسم عزاء، وتنقل جوليت إلى مقبرة الأسرة. وفي نفس اليوم يصل بلتزار إلى روميو في منفاه (مانتوا) ويخبره بوفاة جوليت فيشتري روميو السم من الصيدلاني الفقير ويرحل في الحال إلى فيرونا، ويدخل المقبرة في الليل على ضوء المشاعل وينتحر إلى جوار حبيبته. ويصل القس لورنس في الموعد المحدد لإيقاظها ولكنها تطعن نفسها بالخنجر وتموت، ثم يحضر الأمير حين يوقظه الحرس في الصباح الباكر وتنتهي أحداث المسرحية في فجر يوم الخميس.
وهكذا تقع أحداث المسرحية جميعا في أربعة أيام كاملة وهي سرعة فائقة تجعل من التتابع مرادفا للتطرف في الحب عند العاشقين، والتطرف في الانفعالات عند تيبالت وأقرانه، والتطرف في الهزل والسخرية عند مركوشيو وأترابه، أي إن هذه السرعة الفائقة في نبض المسرحية تسرع من إيقاع الحدث الذي يجاري إيقاع عواطف الشخصيات. ولا توجد أمامنا إلا صعوبة واحدة وهي أن القس لورنس يحدد موعد انتهاء مفعول الشراب المنوم باثنتين وأربعين ساعة، وقد ولدت هذه العبارة مشكلات لا حد لها بالنسبة لعدد من النقاد الذين يتوخون الحرفية في قراءة النص، فقال بعضهم إن القس لم يقل هذه العبارة إلا ليتظاهر بالدقة والتحديد لكل ما يفعل، وقال البعض الآخر إن شيكسبير كان يعول على أن النظارة لن يلتفتوا كثيرا إليها، أو أن السبب هو أن «بروك» قد أشار في قصيدته الطويلة إليها فنقلها عنه شيكسبير باعتبارها «حقيقة» طبية لم يشأ تغييرها رغم جميع التغييرات الأخرى التي أدخلها على المسرحية. ولكن جمهور المخرجين اليوم يعمدون إما إلى حذفها من الحوار وإحلال عبارة عامة محلها مثل «عدد محدد من الساعات» أو إلى جعل القس يقولها بطريقة توحي بالتردد فتفقد النظارة الثقة في طول المدة.
أما تركيز المناظر فيعتمد شيكسبير فيه على الإيحاء الدائم بوجود خلفية فسيحة كالبستان أو الفناء أو الميدان بحيث تكون مقدمة المسرح هي مكان الحدث وباقي المسرح مفتوحا دائما.
أما المناظر التي تتغير باستمرار فهي: (1)
شارع من شوارع فيرونا (خلفه ميدان). (2)
قاعة أو بهو واسع في منزل أسرة كابيوليت (تطل على الحديقة). (3)
صومعة القس لورنس (وخلفها منظر طبيعي شاسع). (4)
بستان منزل كابيوليت. (5)
مقبرة ضخمة فخمة من الرخام (وراءها فناء الكنيسة الرحيب).
ولما كان الأساس في أحداث المسرحية هو السرعة والتنقل الدائم (كما تقول مارجريت ويستر) فقد نشأت مشكلة لدى المخرجين المحدثين بالنسبة لتغيير المناظر بالسرعة المطلوبة، خاصة أن تتابع الحدث لا يتيح للمخرج أن يبطئ من سيره لتقديم «استراحة» بين الفصول. بل إن التناقض الذي يعكس جو التطرف في المسرحية والشخصيات بصفة عامة يقتضي اقتراب المشاهد بعضها من البعض، بل وتزامنها إذا أمكن! وقد استطاع «جون جيلجود» في إخراجه للمسرحية (مثلما فعل لورنس أوليفيه) أن يتغلب على هذه المشكلة بأن وضع تصميما للمناظر يمثل قطاعا رأسيا لمنزل أسرة كابيوليت يمثل على مستوى عال على خشبة المسرح داخل المنزل، ويمثل مستوى آخر منخفض على المسرح جانبا من البستان وجانبا من الطريق العام! وهكذا استطاع أن يطفئ الأنوار على أحد المستويين ويوقدها على المستوى الآخر، فينتقل في أقل من الثانية من مشهد إلى مشهد. ولا أعتقد أن مخرجي اليوم يمكن أن يواجهوا صعوبة في تغيير المناظر بعد التطور الكبير الذي أدخل على حرفية الديكور.
9
وقد اعتمدت في الترجمة على النص الذي حققه ج. بلاكمور إيفانز
G. B. Evans
أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة هارفارد، والذي نشر في سلسلة
The New Cambridge Shakespeare
عام 1984م لأول مرة وأعيد طبعه عام 1988م، والذي يستند بصفة أساسية على طبعة الكوارتو الثانية (
Q2 ) التي اعتمد عليها الأستاذ بريان جيبونز (
Brian Gibbons ) في طبعته للمسرحية في سلسلة الآردن
ARDEN
المعتمدة والتي ظهرت عام 1980م، وإلى جانب هذه الطبعة رجعت إلى العديد من طبعات المسرحية التي نشرت على مدى ربع القرن الأخير، وكنت أقارن كل قراءة بنظائرها في تلك الطبعات، وأقارن بين حجج كل محقق، وأمامي النص الأصلي المنشور عام 1599 مصورا (وسوف يجد القارئ نماذج منه في هذه النسخة العربية) ابتغاء تقديم أصدق صورة لنص شيكسبير الأصلي إلى القارئ العربي. وكنت في هذا كله أهتدي بما ذكره المتخصصون في نشر وتحقيق شيكسبير وأهمهم (بالترتيب الأبجدي):
Bryant, J. A., 1964 (signet).
Crafts, T. E., 1936 (Warwick).
Dowden E., 1900 (Arden).
Gibbons, Brian, 1980 (Arden).
Hankin, J. E., 1960 (Pelican).
Kittredge, G. L., 1940.
Ridley, M. R., 1935, (New
Spencer, T. J. B, 1967 New
Spevack, M., 1970 (Blackfriars).
Williams, G. W., 1964.
Wilson, J. Dover & Duthie, G. I., 1955 (New Shakespeare). ولقد حاولت الحصول على بعض الطبعات القديمة (قبل القرن العشرين) فلم أوفق؛ ولذلك كنت أستعين بما يقوله المحدثون عن القدماء (أو عما قاله القدماء) إذا استعصى علي التحقق من شيء ما في النص، وسوف يرى القارئ أنني أشير إلى هذه الطبعات في الحواشي والمقدمة باسم المحقق فقط، وإذا لم أشر إلى طبعة بعينها كانت الإشارة إلى طبعة الأستاذ إيفانز؛ فلقد طال عهدي بمسرحية روميو وجوليت فأمعن في الطول، ولم أعد أقبل الوجوه السهلة التي يعمد إليها الكثيرون من المحققين هذه الأيام، فنشر النصوص المدرسية أصبح حرفة رابحة تأتي بالمال الوفير مقابل القليل من الجهد! وبعد أن تحدثت عن «النغمة» باعتبارها المشكلة الجديدة التي صادفتني في هذا العمل، لم يبق لي إلا أن أدعو القارئ إلى قراءة هذه الترجمة الجديدة، وأرجو أن يرجع إلى ما ذكرته في مقدماتي للمسرحيات المترجمة السابقة عن ترجمة الشعر وترجمة المسرح، وما ذكرته كذلك في كتابي فن الترجمة بهذا الخصوص. وليغفر لي ما يدركه من أخطاء فالعصمة لله وحده، ونحن نحاول جهد طاقتنا أن نحقق درجة ما من الإتقان غير حالمين بالكمال؛ فالكمال أيضا لله وحده. محمد عناني
القاهرة، 1993م
غلاف نسخة الكوارتر2 (
Q2 ) التي يستند إليها النص المعتمد، لاحظ أن اسم المؤلف غير مطبوع.
الشخصيات
الجوقة.
إسكاليس:
أمير فيرونا.
باريس:
نبيل شاب من أقرباء الأمير.
مونتاجيو وكابيوليت:
عاهلا أسرتين بينهما عداء شديد.
قريب كابيوليت:
ابن عم كابيوليت.
روميو:
ابن مونتاجيو.
مركوشيو:
قريب الأمير وصديق روميو.
بنفوليو:
ابن أخي مونتاجيو وصديق روميو.
تيبالت:
ابن أخي زوجة مونتاجيو.
بتروكيو:
تابع (لا يتكلم) لتيبالت.
القس لورنس والقس جون:
من الفرنسيسكان.
بلتزار:
خادم روميو.
إبراهام:
خادم مونتاجيو.
سمسون وجريجوري:
من خدم أسرة كابيوليت.
مهرج.
بيتر:
خادم مربية جوليت.
خادم باريس.
صيدلاني.
ثلاثة موسيقيين.
السيدة مونتاجيو:
حرم مونتاجيو.
السيدة كابيوليت:
حرم كابيوليت.
مربية جوليت.
مواطنون ومواطنات، راقصون مقنعون، حاملو المصابيح، ضباط الحرس، وغيرهم من المواطنين والخدم والأتباع. •••
المكان:
مدينة فيرونا، ومدينة مانتوا.
البرولوج1
(تدخل الجوقة.)
الجوقة :
في بلدة فيرونا الحسناء (حيث المشهد)
عائلتان يزينهما كرم المحتد،
تصحو عندهما أحقاد الماضي الهوجاء
فيلوث دم أهل البلدة أيدي الشرفاء!
2
لكن من أصلاب الخصمين الرعناء (5)
يخرج للنور حبيبان
تعبس لهما الأفلاك
وتذيقهما أسواط هلاك
فتواري في الأرض بموتهما حقد الآباء!
ولسوف نصور هذي الساعة فوق المسرح
3
قصة حب ذي أهوال يترصده الموت
ونزاع شيوخ لم تدفنه سوى مأساة الأبناء (10)
فإذا أصغيتم وصبرتم يا سادتنا
فلسوف نعوض ما فاتكمو من قصتنا.
الفصل الأول
المشهد الأول (يدخل سمسون وجريجوري، يحملان سيفين ودرعين، وهما يخدمان أسرة كابيوليت.)
سمسون :
أقسم يا جريجوري ألا نتحمل أي إهانة!
1
جريجوري :
قطعا وإلا صرنا حمالين!
سمسون :
وإذا غضبنا سنخرج سيوفنا.
جريجوري :
مهما كانت الأحوال لا بد أن تخرج رأسك من حبل المشنقة!
2
سمسون :
إنني أسرع بالضرب حين أثور. (5)
جريجوري :
ولكنك لا تثور بسرعة حتى تضرب.
سمسون :
إنني أثور حين أرى كلبا من أسرة مونتاجيو.
جريجوري :
الثورة تعني الحركة، والشجاعة هي الوقوف؛ ولذلك فعندما
تثور تبدأ في الفرار!
سمسون :
إن رؤية كلب من تلك الأسرة يثيرني حتى أقف! وسوف أثبت
صلابتي إزاء أي رجل أو فتاة من أسرة مونتاجبو!
3 (10)
جريجوري :
معنى هذا أنك عبد ضعيف، فلا يحتاج إلى الإثبات إلا
الضعيف.
4
سمسون :
هذا صحيح! ولذلك دائما ما نلقي بالنساء على الحائط ... لأنهن
ضعيفات! وإذن سأبعد رجال مونتاجيو عن الحائط وألقي نساءه
عليه! (15)
جريجوري :
النزاع مقصور على سادتنا وعلينا نحن ... رجالهم!
سمسون :
وما الفارق؟ سأكون طاغية! فبعد أن أحارب الرجال سأكون
مهذبا مع العذارى وأقطع رءوسهن!
5 (20)
جريجوري :
رءوس العذارى؟
سمسون :
نعم ... رءوس العذارى ... أو لا أجعلهن عذارى ... وافهم
من هذا ما تريد!
6
جريجوري :
لا بد أن يفهمنه بالمعنى الذي يشعرن به!
سمسون :
سوف يشعرن بي طالما كنت قادرا على الوقوف، والكل (25)
يعرف قوة جسدي!
جريجوري :
من حسن الحظ أنك لست سمكة ... وإلا كنت سردينة مملحة
7
هيا أخرج سيفك ... فها هما اثنان من أسرة مونتاجيو! (يدخل خادمان أحدهما إبراهام)
8
سمسون :
ها هو سلاحي الصلب ! هيا ... اشتبك معهما
وسوف أكون وراء ظهرك!
جريجوري :
ماذا تقول؟ تدير ظهرك وتجري؟ (30)
سمسون :
لا تخف مني!
جريجوري :
بل أخاف منك!
سمسون :
فليكن الحق بجانبنا إذن ... وليكونوا هم البادين!
جريجوري :
سوف أعبس لهما أثناء مروري، وليفهما من ذلك ما يريدان!
سمسون :
إن كانت لديهما الجرأة! اسمع! سوف أعض إبهامي لهما ... (35)
فإذا سكتا. كانت إهانة وعارا!
9
إبراهام :
هل تعض إبهامك لنا يا سيدي؟
سمسون :
إنني أعض إبهامي بالفعل يا سيدي!
إبراهام :
ولكن هل تعض إبهامك لنا يا سيدي؟
سمسون (جانبا إلى جريجوري) :
هل يكون الحق في جانبنا إذا قلت نعم؟ (40)
جريجوري (جانبا إلى سمسون) :
لا!
سمسون :
لا يا سيدي! أنا لا أعض إبهامي لكما يا سيدي، ولكنني أعض إبهامي يا سيدي وحسب!
جريجوري :
هل تريد القتال يا سيدي؟
إبراهام :
القتال يا سيدي؟ لا يا سيدي! (45)
سمسون :
إذا رغبت في ذلك فأنا لك! فأنا في خدمة سيد فاضل مثل سيدك.
إبراهام :
وليس أفضل منه!
سمسون :
فليكن يا سيدي! (يدخل بنفوليو.)
جريجوري (جانبا إلى سمسون) :
بل قل أفضل ... فإن أحد (50)
أقارب سيدي قادم.
10
سمسون :
بل أفضل يا سيدي!
إبراهام :
هذا كذب!
سمسون :
أخرجوا سيوفكم إن كنتم رجالا ... جريجوري ... هيا ... تذكر
ضربتك القاضية! (يتبارزون.)
بنفوليو :
افترقوا أيها الحمقى! أغمدوا سيوفكم ... أنتم لا تعرفون ما
تفعلون! (55) (يضرب سيوفهم بسيفه.) (يدخل تيبالت.)
تيبالت :
يا عجبا! سيفك مسلول وسط الخدم الجبناء؟
11
واجهني يا بنفوليو كي تشهد موتك!
بنفوليو :
لا أفعل إلا إقرار السلم! عد بالسيف إلى غمده
أو ساعدني بالسيف على تفريق المشتبكين! (60)
تيبالت :
سيف مسلول يتحدث عن إقرار السلم؟ إني أكره
ذاك اللفظ كراهية التحريم كما أمقت أسرة مونتاجيو (65)
وكما أمقتك فخذ هذي الضربة يا رعديد! (يتقاتلان.) (يدخل لفيف من أبناء الأسرتين ويشتركون في القتال، يتجمع الأهالي وضباط الشرطة ومعهم عصيهم أو أسلحتهم.)
الضابط :
يا حاملي العصي والرماح والحراب فرقوهم! واضربوهم!
سحقا لكل كابيوليت! سحقا لكل مونتاجيو! (يدخل كابيوليت العجوز برداء منزله ومعه زوجته.)
كابيوليت :
ما هذه الضوضاء يا هذا؟ أريد سيفي الطويل.
زوجة كابيوليت :
لكن لماذا السيف يكفيك عصا!
كابيوليت :
السيف أقول السيف! ها هو مونتاجيو الشيخ
يلوح بالسيف ليهزأ بي! (يدخل مونتاجيو العجوز وزوجته.)
مونتاجيو :
يا كابيوليت يا أيها الأثيم! لا تمسكي بي لا تمنعيني! (70)
زوجة كابيوليت :
لن تخطو قدما واحدة لتلاقي الخصم! (يدخل الأمير إسكاليس ومعه حاشيته.)
الأمير :
يا أيها العصاة من رعيتي يا من تعادون السلام!
يا من تدنسون بالدماء من جيرانكم محارم الحسام!
هل يسمعون؟ يا أيها الرجال أيها الوحوش!
هل تطفئون نار حقد مستطير بالدم الذي يسيل (75)
من عروقكم كأنه عيون أرجوان؟
سأعذب العاصين هيا!
ألقوا بأسلحة العداء من الأيادي الدامية.
واصغوا إلى حكم الأمير الغاضب!
لقد سمعت عن معارك ثلاثا بين أهل البلدة. (80)
في إثر كلمة رعناء من فم العجوز كابيوليت.
أو من فم العجوز مونتاجيو.
فعكرت صفو الشوارع الرزينة
بل قد تخلى عن وقارهم أكابر المدينة
ليحملوا بأذرع عتيقة بعض الحراب الباليات الصدئة (85)
من طول ما خلدت إلى السلام
كيما يفرقوكمو إذا تفجرت منابع البغضاء!
أما إذا رجعتمو إلى إثارة الشغب.
فسوف تدفعون فدية هي الموت الزؤام
هيا إذن تفرقوا وسوف يأتي كابيوليت معي (90)
وليأتني هذا المساء مونتاجيو
ليعرفا حكمي الأخير في القضية
في قلعتي العريقة التي نباشر المحاكمات فيها
12
تفرقوا ومن جديد أنذر العاصين بالهلاك. (يخرج الجميع ما عدا مونتاجيو وزوجته وبنفوليو.)
مونتاجيو :
قل يا ابن أخي من أحيا تلك الأحقاد المنسية؟ (95)
هل كنت هنا حين ابتدأت تلك المعركة الوحشية؟
بنفوليو :
عند وصولي كان الخدم من البيتين
مشتبكين وملتحمين
فسللت السيف لأفصل بين الطائفتين! في تلك اللحظة أقبل
ذو الطبع الناري تيبالت ... وبيده سيف مسلول! (100)
وانطلق يردد في سمعي ألفاظ تحد وتوعد
ويدير السيف لكي يجرح هبات الريح على رأسه
لكن الريح نجت وغدت تسخر منه بفحيح موصول!
وخلال تبادلنا الطعنات أو اللكمات
قدم مزيد من أهل البيتين ... وانضموا لصفوف الطائفتين. (105)
حتى قدم أمير البلدة فافترق الجمعان.
زوجة مونتاجيو :
أين روميو؟ هل رأيت اليوم روميو؟
إنني جد سعيدة ... إذ تحاشى الموقعة!
بنفوليو :
سيدتي! من قبل أن تطل شمسنا المقدسة
بساعة من كوة الشروق العسجدية (110)
فزعت من هواجسي إلى الخلاء أنشد السكينة
إلى خميلة ملتفة من الجميز في غرب المدينة
وتحتها رأيت ذلك الفتى يسير قبل مطلع النهار
وعندما قصدته أحس بي فهم واستدار (115)
وانسل واختفى بداخل الخميلة!
وكان أقصى مطلبي إذ ذاك ألا يلتقي بيه.
بل كدت لا أطيق نفسي التي بها يضيق صدريه
وتبعت ما تمليه أهوائي وما يملي هواه (120)
إذ سرني تجنب الذي قد سره ألا أراه!
مونتاجيو :
ما أكثر ما شوهد في تلك البقعة في الفجر
يذرف عبرات زادت من أنداء الصبح النضرة
ويضيف إلى المزن سحائب بالآهات وبالزفرات الحرة
لكن ما إن تطلع شمس الصبح لتسعد أهل الأرض (125)
ولتبدأ في رفع ستار الظلمة في أقصى الشرق
كي تنهض من مرقدها ربة هذا الفجر
13
حتى يتسلل ولدي المحزون فرارا من ذاك الضوء
ليقبع في سجن الغرفة بل يغلق كل نوافذها
كي يحجب عن عينيه ضياء نهار الكون الباهر (130)
ويعيش بليل مصطنع فاتر
لا شك بأن مزاج اليافع أسود ينذر بالشر
14
إلا إن قدمنا النصح له كي نمحو السبب ونهديه للخير.
بنفوليو :
أتراك عرفت السبب إذن يا عمي الأشرف؟
مونتاجيو :
لا أعرفه ... بل لم أقدر أن أعرفه منه. (135)
بنفوليو :
وهل ألححت في الطلب ... مستخدما كل الوسائل المتاحة؟
مونتاجيو :
ألححت مثلما ألح أصدقاء عدة
لكنه لا يستشير إلا نفسه فيما يمس مشاعره «لا أستطيع الحكم إن كانت مشورته مصيبة»
لكنه يظل في انطوائه وفي تكتمه (140)
وحرصه ألا يذيع سره أو يكشفه
كبرعم تنخر فيه دودة خبيثة
من قبل أن نرى أوراقه الجميلة
وقد تفتحت لتنشق الهواء أو تهدي جمالها للشمس
لو استطعنا أن نحيط بالمنابع التي يفيض منها حزنه (145)
فسوف نعطيه العلاج أيا كان شأنه! (يدخل روميو.)
بنفوليو :
ها هو قادم! أرجوكما ... تنحيا ...
لا بد أن يقول لي ما يحزنه ... ولن يخفيه عني ...
مونتاجيو :
أرجو أن تنجح في مسعاك لتسمع منه
لباب الحق! هيا يا سيدتي هيا نمض. (150) (يخرج مونتاجيو وزوجته.)
بنفوليو :
صباح الخير يا ابن العم.
روميو :
أما زلنا بأول النهار؟
بنفوليو :
من قليل دقت التاسعة!
روميو :
تبدو ساعات الحزن طويلة!
هل كان أبي ذاك ولم يلبث أن ولى؟
بنفوليو :
أجل ولكن أي حزن يجعل الساعات أطول؟
روميو :
افتقاري للذي لو نلته تصبح الساعات أقصر! (155)
بنفوليو :
هل أنت محب؟
روميو :
بل محروم.
بنفوليو :
من ماذا؟
روميو :
من عطف حبيبي!
بنفوليو :
هذا رب الحب لطيف الصورة لكن وا أسفاه. (160)
طاغية في الواقع بل جبار ما أقساه.
روميو :
فوا أسفا إن رب الغرام برغم غمامته الدائمة.
يرى كي تظل إرادته نافذة.
ترى أين نطعم ويحي! ترى أي معركة قد جرت؟
15
رويدك أمسك! علمت الخبر! (165)
فتلك كراهية الأولين وأفدح منها غرامي الأليم
فيا عجبا يا غرام الصراع وكرها به نبضات الغرام
ويا خفة ذات وطء ثقيل ويا زهوة ذات وجه عبوس!
وأخلاطك الرثة الشائهات من الصور الحلوة الرائعات. (170)
رصاص من الريش نار من الزمهرير دخان منير.
وسقم من الصحة الكاملة!
ونوم هو الصحوة الدائمة! وحال يناقض ما هو فيه!
فهذا هو الحب فيما أحس ولست أحس لديه بحب.
لماذا إذن لست تضحك؟
16
بنفوليو :
أفضل أن أذرف الدمع يا ابن العمومة!
روميو :
ولكن لماذا البكاء ترفق بإحساسك المرهف!
بنفوليو :
سأبكي على ظلم إحساسك المرهف! (175)
روميو :
ولكن هذا افتئات إله الغرام!
فأحزان قلبي ترين على الصدر عبئا ثقيلا
ولست أريد زيادتها إن فرضت علي المزيد
من الهم والغم! فحبك لي قد أضاف
من الحزن - فوق همومي - ما لا أطيق احتماله! (180)
فما الحب إلا دخان من الزفرات السخينة
17
إذا ما انجلى صار نارا توهج في مقل العاشقين
وإن عاقه عائق صار بحرا يغذيه دمع من الهائمين
وما هو أيضا؟ جنون به حكمة بالغة!
مرارته إن تكن خانقة (185)
فإن حلاوته منجية!
وداعا إذن يا ابن عمي.
بنفوليو :
تمهل سأمضي معك.
ستظلمني حين تمضي ولا أصحبك.
روميو :
هراء فقد ضاع مني كياني ولست هنا
وهذا إذن ليس روميو، فذاك مضى لمكان بعيد.
بنفوليو :
دع الهزل واذكر لنا من تحب.
18 (190)
روميو :
ترى هل أئن وأفضي إليك؟
بنفوليو :
تئن؟ عجيب! لماذا الأنين؟
ألا بحت لي باسمها دون هزل؟
روميو :
أتطلب مني الهزيل العليل بأن أترك الهزل وقت الوصية؟
ألا ساء ما تبتغيه لمن ساء حاله!
سألتزم الجد يا ابن العمومة إني أحب امرأة. (195)
بنفوليو :
ولكن سهمي إذن لم يطش فقد قلت إنك تهوى فتاة!
روميو :
هنيئا برميتك الصائبة! وتلك التي قد هويت جميلة!
بنفوليو :
إذا كان مرمى النصال جميلا فأحرى بسهمك أن ينفذا!
روميو :
لقد طاش سهمك فيما رميت فلن ينفذ اليوم سهم الغرام
إلى من لها حكمة من عفاف!
19 (200)
ومن درعها مثل صلب منيع يشق على
قوس ذاك الصبي إله الغرام الضعيف!
ومهما استمر حصار الغرام وألفاظه العذبة الناعمة
ومهما همت نظرات الهيام فلن تسلم القلعة المحصنة
ولن تستجيب لسحر النضار وفيه الغواية للراهبات (205)
إذا كانت اليوم ذات ثراء من الحسن زاه وفير.
فسوف يموت إذا ما قضت ... ومن ثم فهو جمال فقير.
بنفوليو :
تراها إذن أقسمت أن تظل بتولا إلى أبد الآبدين؟
روميو :
وفي بخلها ذا ضياع كبير!
إذ الحسن يهلك من بخلها. (210)
ويحرم من قسمات الجمال صغارا تود انتسابا لها!
من الظلم أن تستحق النعيم.
لفرط العفاف وفرط الجمال.
ويأسى يدحرجني في الجحيم.
لأني حرمت رضاب الوصال!
20
لقد أقسمت أن يكون الغرام حراما عليها طوال الحياة.
فأصبحت أحيا حياة الممات ولا ذكر فيها سوى للغرام! (215)
بنفوليو :
لتسمع كلامي إذن وانس ذكر الفتاة.
روميو :
تعلمني كيف أنسى الفكر؟
بنفوليو :
فحرر خيالك من أسرها.
ونقل عيونك بين الجميلات!
روميو :
لسوف يضاعفن من حسنها ! (220)
فكل قناع سعيد يقبل وجها مليحا.
يذكرنا ما به من سواد بناصع بشرة من ترتديه.
ومن يبتلى بالعمى ليس ينسى ضياع البصر.
وأن ثمين الكنوز اندثر!
وحين أرى غادة ذات حسن فريد. (225)
يخيل لي أنها حاشية.
تشير إلى متن فاتنتي الفائقة.
وداعا إذن لن تعلمني كيف أنسى.
فلا لست تقدر!
بنفوليو :
سأقضي المهمة خير قضاء.
وإلا أموت بدين الرجاء! (يخرجان.)
المشهد الثاني (فيرونا، شارع) (يدخل كابيوليت، وباريس، والمهرج (خادم كابيوليت).)
كابيوليت :
ولكن مونتاجيو يتحمل مثل مسئوليتي.
ونفس عقوبتي، وليس من العسير في ظني
على رجلين بلغا هذه السن أن يجنحا إلى السلم.
باريس :
لكل منكما صيته الذائع ومنزلته الرفيعة.
والمؤسف أن تستمر العداوة بينكما طوال هذه المدة. (5)
ولكن ماذا قررت يا سيدي إزاء خطبتي؟
كابيوليت :
سأعيد على أسماعك ما سبق أن قلته:
إن طفلتي ما تزال غريبة عن الدنيا
ولم تكد تتم الرابعة عشرة
21
فلنصبر حتى تتفتح زهور صيفين وتذوي. (10)
قبل أن نعتبرها قد نضجت ليوم العرس.
باريس :
لقد رأينا أمهات سعيدات لم يبلغن عمرها.
كابيوليت :
ولكن هذه الأمومة المبكرة
تلحق بهن ضررا لم يئن أوانه.
لقد ابتلعت الأرض جميع آمالي فيما عداها
فهي الفتاة التي عقدت عليها أملي في دنياي (15)
ومع ذلك فاخطب ودها يا باريس الرقيق
اكسب قلبها فقبولي معلق بقبولها!
فإذا وافقت، كان رضاي وصوت قبولي الهانئ
في نطاق اختيارها
سأقيم هذه الليلة حفلنا التقليدي العريق. (20)
وقد دعوت إليه ضيوفا كثيرين
ممن أحبهم وأنت منهم
وها أنا أدعوك فمرحبا لتزيد من عدد الأحبة.
تعال إذن إلى منزلنا المتواضع الليلة لترى
نجوما تخطو على الأرض وتضيء ظلمة السماء. (25)
أتعرف السرور الذي يحسه الشبان الأصحاء
عندما يخطر الربيع بحلته الزاهية.
في أعقاب الشتاء الثقيل الأعرج؟ لسوف تشعر
بهذه السعادة الليلة في منزلي بين براعم الفتيات النضرة.
استمع إليهن وشاهدهن جميعا واعشق أحسنهن! (30)
وحين تنعم النظر، سترى أنهن جميعا
رغم الغلبة العددية، لا يجارين ابنتي في أي شيء.
هيا تعال معي (إلى الخادم) وأنت يا غلام.
طف بشوارع فيرونا الجميلة وابحث عمن كتبت أسماؤهم (35)
في هذه الورقة (يعطيه ورقة) قل لهم
إنني أرحب بهم في منزلي إذا قبلوا دعوتي. (يخرج كابيوليت مع باريس.)
الخادم :
أبحث عمن كتبت أسماؤهم في هذه الورقة! مكتوب أن يلعب
الإسكافي بمقياس القماش، والخياط بقالب الأحذية، والصياد
بقلمه، والرسام بالشباك، ولكنهم يرسلونني لمقابلة من كتبت (40)
أسماؤهم في هذه الورقة، ومن المستحيل أن أعرف الأسماء التي
كتبها الكاتب هنا. يجب أن أستشير المتعلمين. وفي الوقت
المناسب! (يدخل بنفوليو وروميو.)
بنفوليو :
تبا لك يا رجل ... هراء!
لا يشفي لسع النار سوى نار أخرى
ويخفف من بعض الآلام عذاب سواها! (45)
ودوارك يمضي إن دارت رأسك ثانية للخلف
والحزن الفتاك يعالجه حزن رازح
فانشد لعيونك عدوى حب آخر
يهلك ما خلفه الحب السالف من سم ناقع!
روميو :
وإذن فالعشب علاج ناجع! (50)
بنفوليو :
ماذا ستعالج به؟ قل لي من فضلك!
روميو :
سنعالج ساقك إن سلخت!
بنفوليو :
ماذا بك يا روميو؟ أتراك جننت؟
روميو :
لست بمجنون لكني ألبست قميصا أضيق
مما يلبسه المجنون! وأعيش بسجني دون طعام
تجلدني أسواط عذاب - (55)
ومساء الخير صديقي أهلا بك (إلى الخادم).
الخادم :
أسعد الله مساءك! لو سمحت يا سيدي ... هل تستطيع
القراءة؟
روميو :
أجل قراءة حظي من التعاسة!
الخادم :
لربما عرفته دون كتاب ولكن، لو سمحت، هل تستطيع قراءة أي
كتابة تراها؟
روميو :
نعم إذا ألممت بالحروف واللغة. (60)
الخادم :
إجابة صادقة. أسعدك الله وهناك (يبتعد).
روميو :
انتظر! سوف أقرأ لك ما تريد. (يقرأ.)
السنيور مارتينو وحرمه وكريماته، الكونت أنسلمي وأخواته
الفاتنات، والسيدة أرملة فتروفيو، السنيور بلاسنتو وبنات (65)
أخيه الجميلات، مركوشيو وأخوه فالنتاين، عمي كابيوليت
وحرمه وكريماته، ابنة أخي الحسناء روزالاين، وليفيا،
والسنيور فالنتيو وابن عمه تيبالت. لوشيو وهيلينا المرحة، (70)
مجموعة ممتازة، أين سيذهب هؤلاء؟
الخادم :
إلى هناك.
روميو :
أين؟ لتناول العشاء؟
الخادم :
إلى منزلنا. (75) روميو :
منزل من؟
الخادم :
منزل سيدي.
روميو :
أفادك الله. كان يجب أن أسألك عن ذلك أولا.
الخادم :
طبعا! ولكني سأقول لك دون أسئلة. إن سيدي هو السيد
العظيم الثري كابيوليت. وإذا لم تكن من أسرة مونتاجيو فأرجو أن (80) تأتي أنت أيضا وتفوز بكأس من النبيذ.
أسعدك الله وهناك. (يخرج.)
بنفوليو :
هذا الحفل العريق الذي يقيمه كابيوليت
ستحضره الحسناء روزالاين التي تهيم بحبها
ومعها جميع الحسناوات اللاتي يثرن إعجابنا في فيرونا
فاذهب إليه وقارن بعين العدل (85)
بين وجهها ووجوه أخريات سأشير إليهن
وسوف أجعلك تظن أن بجعتك البيضاء غراب فاحم!
روميو :
إن حل الباطل في عيني محل الإيمان الصادق
فلتتحول عبراتي لجحيم حارق
ترمى فيه العينان الكاذبتان
الصافيتان الصابئتان وتحترقان (90)
وهما من أغرقتا -
لكن ما ماتت أيهما - بالدمع الدافق
أفتاة أجمل من فاتنتي؟
قد رأت الشمس جميع الخلق ولم تر أجمل منها من أول يوم خلق الناس الخالق!
بنفوليو :
هراء! إنك تراها جميلة لأنك لا ترى سواها فلا يقابلها في كفة العين الأخرى سوى ذاتها (95)
أما إن وضعت في ذلك الميزان البلوري
22
ما تحبه في تلك الفتاة مقابل فتاة أخرى
سأريها لك وهي تتلألأ في الحفل
فإن من تبدو أجمل الجميلات الآن، سوف تفقد بهاءها. روميو :
لا بأس سأذهب لكن لا لتريني تلك الأخرى (100) بل كي أتملى فتنة من أهوى! (يخرجان.)
المشهد الثالث (تدخل زوجة كابيوليت والمربية.)
زوجة كابيوليت :
أين ابنتي أيتها المربية؟ أحضريها إلي.
المربية :
أقسم ببكارتي عندما كنت في الثانية عشرة
لقد طلبت منها الحضور. عجبا أين ذهبت تلك
الفتاة الوديعة؟ الحمل الوديع ... الفراشة الرقيقة!
لا قدر الله أن ... أين أنت يا جوليت؟ (تدخل جوليت.)
جوليت :
ماذا حدث؟ من ينادي علي؟ (5)
المربية :
أمك.
جوليت :
سيدتي، ها أنا ذا ... ماذا تريدين؟
زوجة كابيولبت :
سأقول لك (إلى المربية) انصرفي الآن ...
اتركينا قليلا فلا أريد أن يسمعنا أحد. ولكن ...
عودي! لقد تذكرت ... سوف تسمعين حديثنا. (10) تعرفين أن ابنتي كبرت.
المربية :
أقسم أنني أعرف عمرها بالساعات ...
زوجة كابيوليت :
لم تبلغ الرابعة عشرة.
المربية :
أراهن بأربع عشرة من أسناني -
رغم أنه لم يبق سوى أربع - للأسف -
أنها لم تبلغ الرابعة عشرة بعد ... كم بقي على (15)
أول أغسطس؟
زوجة كابيوليت :
أسبوعان وعدة أيام.
المربية :
عدة أيام أو عدة ليال ... المهم أنها ستبلغ
الرابعة عشرة عشية أول أغسطس القادم ...
كانت هي وسوزان يرحمها الله من نفس السن
وقد انتقلت سوزان إلى رحاب الله (20)
لم أكن أستحقها! المهم أنها - كما قلت -
ستبلغ الرابعة عشرة ليلة أول أغسطس
نعم ... ستصبح في تلك السن، أذكر ذلك جيدا.
لقد مضى على الزلزال الآن أحد عشر عاما.
23
وقد فطمتها في ذلك اليوم. لن أنسى ذلك أبدا - (25)
ذلك اليوم بالذات من أيام السنة -
لأنني كنت قد وضعت الشيح على ثديي
وجلست في الشمس بجانب جدار برج الحمام.
كنت أنت وسيدي مسافرين في مانتوا -
نعم، ما زال عقلي في رأس، ولكن - كما قلت - (30)
عندما ذاقت الشيح على حلمة ثديي
وأحست بمرارته - يا للصغيرة العزيزة -
ليتك شاهدتها وهي تغضب وتترك الثدي في الحال! «تحركي!» صاح برج الحمام! ولم يكن هناك داع (35)
فيما أعتقد حتى يأمرني بالهرب!
وقد مضى على ذلك الوقت إحدى عشرة سنة!
كانت تستطيع حينئذ أن تقف وحدها، وقسما بالصليب
كانت تجري وتتواثب من حولي
بل إنها سقطت في اليوم السابق وجرحت جبينها
وعندها أسرع زوجي - يرحمه الله - (40)
وكان رجلا مرحا - فحمل الطفلة بين ذراعيه
وقال لها: «هل وقعت على وجهك اليوم؟
سوف تستلقين على ظهرك عندما يكبر عقلك!
ألن تفعلي ذلك يا جولي؟» وقسما بالبتول
كفت العفريتة الصغيرة عن البكاء وقالت: «بلى»! (45)
والآن سوف تصبح تلك الفكاهة حقيقة واقعة!
أؤكد لك أنني لو عشت ألف سنة
فلن أنسى ذلك مطلقا «ألن تفعلي ذلك يا جولي؟»
وعندها كفت البلهاء الصغيرة عن البكاء وقالت «بلى»! (50)
زوجة كابيوليت :
يكفي ذلك ... أرجوك أن تسكتي!
المربية :
سمعا وطاعة يا سيدتي ... ولكنني لا أملك إلا الضحك
كلما تذكرت كيف كفت عن البكاء وقالت «بلى»
ومع ذلك فأؤكد لك أن جبينها تورم
وبرز الورم كأنه بيضة ديك صغير
سقطة خطرة ... وبكت بمرارة (55)
وقال لها زوجي: «هل وقعت على وجهك اليوم؟
سوف تستلقين على ظهرك عندما تكبرين!
ألن تفعلي ذلك يا جولي؟» فكفت عن البكاء وقالت: «بلى».
جوليت :
كفى أنت أيضا يا مربيتي!
المربية :
انتهينا ... انتهيت! فليفتح الله عليك!
لقد كنت أجمل طفلة أرضعتها
وليتني أعيش حتى أراك في عش الزوجية!
هذا هو ما أتمناه!
زوجة كابيوليت :
الزواج! الزواج هو الموضوع الذي
أتيت للحديث عنه. قولي يا ابنتي جوليت: (65)
ما مدى استعدادك للزواج؟
جوليت :
إنه شرف لا أحلم به.
المربية :
شرف؟ لو لم أكن مرضعتك الوحيدة
لقلت إنك رضعت الحكمة من ثدي المرضع!
زوجة كابيوليت :
ليكن! فكري الآن في الزواج! فحولنا
من هن أصغر منك في فيرونا - (70)
من ذوات الحسب والنسب ... وقد أصبحن أمهات!
وطبقا لحساباتي فقد أنجبتك عندما كنت في عمرك تقريبا
وخلاصة القول أن النبيل باريس تقدم يطلب يدك. (75)
المربية :
رجل يا فتاتي الصغيرة! يا فتاتي رجل
لم يشهد العالم كله ... حقا! إنه رجل من الشمع
24
زوجة كابيوليت :
لم يشهد صيف فيرونا زهرة مثله!
المربية :
حقا! زهرة! قسما ... زهرة حقيقية!
زوجة كابيوليت :
ماذا تقولين؟ هل يمكن أن تحبي السيد الشريف؟ (80)
سوف تشاهدينه في حفل الليلة
25
فاقرئي كتاب وجه باريس الشاب
26
ستجدين أن قلم الجمال كتب فيه معاني المتعة
فافحصي سطوره المتناسقة، وانظري كيف
يؤكد بعضها من معاني البعض، (85)
فإذا صادفك غموض في هذا الكتاب الجميل
فارجعي إلى الشرح والتفسير في حواشي عينيه
إنه كتاب حب ثمين لا تشد أوراقه خيوط
وهو محب طليق، لا بد له من غلاف يجمله
ومثلما لا تعيش السمكة إلا في البحر الذي يحتضنها (90)
لن يتحقق الكمال إلا إذا احتضن جمال المظهر جمال المخبر
27
وسوف يكون الكتاب موضع إعجاب الكثيرين
بعد أن يحيط الغلاف الذهبي بقصة الحب الذهبية!
وهكذا سوف تشاركينه كل ما يملك
وبامتلاكه لن تصبحي أقل منه. (95)
المربية :
لا أقل بل أكبر! فالمرأة يكبر حجمها حين تتزوج.
28
زوجة كابيوليت :
قولي إذن باختصار ... هل يمكنك أن تقبلي حب باريس؟
جوليت :
سأتطلع إليه حتى أحبه، إذا كان التطلع يؤدي إلى الحب!
ولكنني لن أسمح بسهم عيني أن ينطلق إلى أبعد
مما تسمح به موافقتك ورضاك! (100) (يدخل خادم.)
الخادم :
سيدتي! لقد حضر الضيوف، ووضع الطعام على المائدة، والجميع
يطلبونك، ويسألون عن سيدتي الصغيرة، ويلعنون المربية في غرفة
الطعام، وكل شيء على قدم وساق!
لا بد أن أعود للعمل. وأرجوكن ألا تتأخرن (يخرج).
زوجة كابيوليت :
سوف نأتي خلفك. هيا يا جوليت. الكونت في انتظارك. (105)
المربية :
اذهبي يا فتاتي! أضيفي سعادة الليل إلى سعادة النهار! (تخرجان.)
المشهد الرابع (يدخل روميو ومركوشيو وبنفوليو، وخمسة أشخاص أو ستة يرتدون أقنعة، وبعض حاملي المشاعل.)
روميو :
هل نلقي تلك الخطبة كي نشرح سبب زيارتنا
أم ندخل دون استئذان؟
بنفوليو :
انقضى زمن هذا الكلام الكثير
29
لن نصحب معنا من يقوم بدور كيوبيد
معصوب العينين بمنديل
وبيده قوس خشبي مدهون مثل أقواس التتار
30
فيخيف السيدات كأنه ناطور يبعد الطيور!
ولن نصحب معنا برولوجا
ليقدمنا بحديث فاتر يلقيه غيبا
وهو ينتظر ما يقوله الملقن!
فليحكموا علينا بأي معيار لديهم
إذ لن نمكث إلا كي نرقص رقصة واحدة
ثم نرحل! (10) روميو :
دعني أحمل شعلة! فأنا لا أميل إلى هذا التلكؤ!
أحزاني مظلمة تحتاج إلى النور!
31
مركوشيو :
لا يا روميو الرقيق ... لا بد أن ترقص معنا ...
روميو :
كلا كلا ... صدقوني! إنكم تلبسون أحذية الرقص
ذات النعال الخفيفة، أما أنا فنعلي ثقيل مثل نفسي (15)
كأنه رصاص يلصقني بالأرض فلا أستطيع الحركة!
مركوشيو :
ولكنك عاشق! استعر جناحي كيوبيد
وحلق بهما بدلا من أن تقفز مثلنا!
روميو :
لقد غاص نصل سهمه في أعماقي
فمنعني أن أحلق بريش جناحيه الخفيف
وربطني إلى الأرض حتى ما أستطيع (20)
أن أقفز خطوة واحدة فوق حزني الثقيل
بل إن عبء الحب الثقيل يغوص بي في الأرض.
مركوشيو :
ولكنك تغوص فيه فيتحمل ثقلك
وهذا ظلم فادح لذلك المسكين الرقيق.
روميو :
وهل الحب رقيق؟ إنه خشن، وقح، صاخب! (25)
وله وخز مثل الأشواك!
مركوشيو :
إذا كان الحب خشنا معك فكن خشنا معه
وإذا نخسك فانخسه تنتصر عليه!
أعطني قناعا أغطي به وجهي (يلبس قناعا.)
قناع فوق وجه كالقناع! وهكذا لن أكترث (30)
للعيون التي تتأمل وجهي الدميم!
سيحمر خجلا حاجباي الكثيفان!
بنفوليو :
هيا! اطرقوا الباب وادخلوا وعلى الفور
فليبدأ كل منكم في الرقص!
روميو :
يكفيني حمل الشعلة! أما أصحاب الفراغ والقلوب الخوالي (35)
فليدغدغوا القش الذي يكسو الأرض بكعوبهم
أما أنا فأفعل ما يقوله المثل القديم
32
سأحمل الشمعة وأتأمل ما يدور حولي، لم أجد في اللعبة أي جمال، وقد انتهيت منها!
مركوشيو :
هراء! لم ينته إلا الفأر، كما يقول الشرطي! (40)
فإذا كنت مغروسا في الطين فسوف ننتشلك منه
أو «ولا مؤاخذة» إذا كنت مغروسا في الحب
حتى أذنيك. هيا! إننا نذيب شموع النهار!
روميو :
لا ... ليس هذا صحيحا!
مركوشيو :
أعني أننا تأخرنا فأوقدنا المشاعل عبثا (45)
كأنها مصابيح النهار! افهم مقصدي فالحكم الصائب
يعتمد على حسن الفهم أكثر مما يعتمد على الحواس الخمس.
روميو :
مقصدنا حسن في الذهاب إلى الحفل
وإن كان الذهاب لا يدل على حكم صائب!
مركوشيو :
ولماذا من فضلك؟
روميو :
لأنني رأيت حلما البارحة!
مركوشيو :
وأنا أيضا! (50)
روميو :
وماذا رأيت؟
مركوشيو :
الحالمون غالبا ما يكذبون!
روميو :
أثناء النوم فقط! لكنهم يرون الحقائق!
مركوشيو :
إذن فقد زارتك بالأمس المليكة «ماب»
33
تلك التي تولد الأطفال عند الجان
ولا يزيد حجمها عن حبة العقيق (55)
في خاتم منمم في أصبع العميد؟
وفوق أنف كل نائم وحيد
تمر في مركبة من قشر بندقة
تجرها الذرات مؤتلقة
نجارها السنجاب أو يرقة (60)
فهما اللذان تخصصا منذ الأزل
في مركبات الجان!
عجلاتها ... أسلاكها من أجل العناكب الطويلة
وغطاؤها من بعض أجنحة الجراد
ولجامها من خيط بيت عنكب صغير
أطواقها أشعة سالت من البدر المنير (65)
وسوطها من عظم جندب صغير طرفه من الحرير
مركبة تقودها بعوضة في معطف رمادي
ولا يزيد حجمها عن نصف دودة صغيرة
تزيلها الكسول من أصبعها
34
وهكذا في هذه الأبهة المنمقة
تخب في خواطر العشاق كل ليلة (70)
فيحلمون بالغرام!
وفوق أرجل الرجال في البلاط -
كي يحلموا بالانحناء!
وربما مرت على أصابع المحامي كي يرى
حلم الأجور الباهظة
وربما مست شفاه الحالمات بالقبل
لكنها تستاء من طعم الحلاوة الذي يشيع في أنفاسهن
وغالبا ما تبتليها بالبثور! (75)
وربما مرت على أنف وزير كي يشم روح مظلمة
35 (يخرج منها بعمولة!)
أو ربما تأتي بذيل خنزير كبير
كي تدغدغ أنف قسيس شره (80)
حتى يرى حلم المزيد من العطايا!
أو ربما مرت على جيد المقاتل فانثنى
يشتاق أن يجتز أعناق الأعادي
وباختراق كل سور أو كمين ... والتماعة المهند!
36
وبالشراب في كئوس عمقها خمسة أذرع (85)
وعندها تعلو طبول الحرب في أذنيه
فيهب في فزع ليتلو دعوة أو دعوتين
ويعود للنوم الهنيء! هذي إذن «ماب» التي
تضفر الخصلات في شعر الخيول إذا أتى الليل البهيم
وتعقد العقد الصغيرة في شعور العاهرات (90)
فإن فككن شعورهن أتت بشر مستطير!
هذي هي الشمطاء تأتي للبنات إذا رقدن على السرير
حتى تعلمهن فن الحمل أول مرة
كيما يجدن تحمل الآلام.
هذي هي الجنية ...
روميو :
يكفي يكفي يا مركوشيو ... ذاك كلام فارغ! (95)
مركوشيو :
هذا صحيح إذ أنا أحكي عن الأحلام
وهن من بنات كل ذهن عاطل
أما أبوهن فوهم باطل
كيانه مثل الهواء في رهافته
لكنه أشد من رب الرياح في تقلبه (100)
ذاك الذي يسعى لأحضان الشمال الباردة
لكنه يلقى الصدود فيستدير مغاضبا نحو الجنوب
حيث الرضا وتساقط الأنداء في كل الدروب!
بنفوليو :
طارت بنا تلك الرياح دون أن ندري:
إذ فاتنا وقت العشاء! بل ضاعت الحفلة! (105)
روميو :
بل نحن بكرنا كثيرا يا صحاب!
فالآن أوجس خيفة
مما تخبئه الطوالع في غدي
قدر رهيب بعد هذا الحفل رهن الموعد
ولسوف يغشى بالمرارة قصتي
حتى نهاية عمري المحبوس بين جوانحي
عمر يضيق بما بيه
فأموت قبل زمانيه
يا من توجه دفتي
أصلح شراع سفينتي
هيا بنا فخر الرجال.
بنفوليو :
الطبل يا طبال! (يتجولون في المسرح، وينتحون جانبا.)
المشهد الخامس (يدخل الخدم وعلى صدورهم الفوط.)
الخادم1 :
أين بوتبان؟ لماذا لا يساعدنا في تنظيف المائدة؟
ولكن لا ... هل يرفع هو طبقا؟ هل يمسح هو طبقا؟
37
الخادم2 :
إذا اجتمعت الأخلاق الحسنة كلها في أيدي رجل أو رجلين،
وكانت هذه الأيدي قذرة، فهذا هو الشر بعينه.
الخادم1 :
ارفع هذه الكراسي، وأزح هذه النملية، وحافظ على طقم (5)
الفضية. واسمع يا صديقي احتفظ لي بقطعة من فطير اللوز،
وما دمت تحبني فقل للبواب أن يسمح لسوزان جرايندستون
بالدخول مع نل. (يخرج الخادم2.)
أنت يا أنطوني ويا بوتبان! (يدخل خادمان آخران.)
الخادم3 :
نعم هنا حاضر! (10)
الخادم1 :
إنهم يبحثون عنك ويطلبونك، ويسألون عنك ويريدونك في
الغرفة الكبيرة.
الخادم4 :
لا نستطيع أن نكون هنا وهناك في نفس الوقت. اجتهدوا أيها
الأصدقاء! مزيدا من النشاط! ما أسعد من يكتب له البقاء! (يتراجعون إلى الخلف.) (يدخل كابيوليت وزوجته وجوليت وتيبالت، وخادمه، والمربية، وجميع الضيوف والنساء لملاقاة لابسي الأقنعة.)
كابيوليت :
مرحبا بكم أيها السادة! ستراقصون السيدات، (15)
إذا لم يكن في أقدامهن كاللو! يا جميلاتي!
من التي سترفض الرقص الآن؟ أما من تتدلل
فأقسم أن لديها كاللو! هل أصبت الهدف؟
مرحبا بكم أيها السادة! كنت مثلكم ذات يوم
أرتدي قناعا وأحكي قصة هامسة في أذن حسناء (20)
فأدخل عليها السرور! لقد مضى ذلك اليوم ولن يعود!
مرحبا بكم أيها السادة. هيا أيها العازفون ... اعزفوا! (تعزف الموسيقى.)
أفسحوا مكانا! أفسحوا المكان! وإلى الرقص يا بنات! (يرقص الجميع.) (25)
مزيدا من الضوء أيها الأوغاد وارفعوا هذه الموائد
وأطفئوا النار، فقد زادت حرارة البهو عما نحتمل! (إلى نفسه) آه يا ولد! ما أجمل هذه التسلية غير المتوقعة! (إلى ابن عمه) لا بأس، لا بأس تفضل بالجلوس يا ابن العم
الكريم!
إذ مضى زمن الرقص لنا! هل تذكر آخر مرة (30)
لبسنا فيها أقنعة معا؟
كابيوليت 2 :
والله ... منذ ثلاثين سنة!
كابيوليت :
لا لا يا رجل! ليس إلى هذا الحد!
كان ذلك في حفل زفاف لوشنتيو
وعندما يحل عيد العنصرة القادم (35)
يكون قد مضى على ذلك خمس وعشرون سنة!
كابيوليت2 :
بل أكثر بل أكثر! فابنه أكبر من ذلك
إنه في الثلاثين!
كابيوليت :
كيف تقول ذلك؟ إن ابنه كان قاصرا منذ عامين!
روميو (إلى أحد الخدم) :
من تلك الفتاة التي تضع يدها الثمينة في يد
ذلك الفارس؟ (40)
الخادم :
لا أعرف يا سيدي!
روميو :
بل إنها تعلم الأضواء كيف يسطع الضياء!
لقد تدلت فوق خد الليل مثل جوهرة (45)
لألاءة في أذن بنت حبشية
جمالها الثمين نفحة من السماء
ولا يجوز أن تمسه يد البشر!
كأنها حمامة بيضاء والنساء حولها من الغربان
وعندما تنفض تلك الرقصة
سأرقب المكان حيث كانت واقفة
كيما أبارك الكف الخشن ... بلمسة من يدها! (50)
هل ذاق قلبي الحب قبل الآن؟ أنكره يا بصري!
أنا ما رأيت رؤى الجمال الحق قبل الليلة!
تيبالت :
هذا صوت أحد أبناء مونتاجيو! أعطني السيف يا غلام!
كيف يجرؤ العبد على المجيء هنا
مرتديا قناعا مضحكا ليسخر ويتهكم على حفلنا؟ (55)
قسما بحسب الأسرة ونسبها
حلال إن وكزته فقضيت عليه!
كابيوليت :
ماذا حدث يا ابن الأسرة؟ ما هذه الثورة؟
تيبالت :
هذا يا عمي فرد من أسرة مونتاجيو
وهو عدو لنا! وغد أتى إلينا حاقدا (60)
حتى يسخر من حفلتنا الليلة.
كابيوليت :
أهو الشاب روميو؟
تيبالت :
أجل روميو الوغد!
كابيوليت :
اهدأ يا ابن العم ودعه لحاله
فهو ذو سلوك فاضل مهذب (65)
والحق أن فيرونا تفخر بأنه
شاب فاضل ومتزن. ولا أقبل
إهانته في منزلي ولو أعطيت ثروات المدينة
كن حليما إذن ولا تلتفت إليه (70)
فإرادتي - إن كنت تحترم إرادتي -
هي أن تكون منصفا في سلوكك
وأن تتخلى عن هذا العبوس
الذي لا يلائم حفلنا!
تيبالت :
بل يلائمه حين يكون هذا الوغد بين الضيوف
لن أتحمله!
كابيوليت :
بل ستتحمله! ماذا حدث أيها الغلام السليط؟ (75)
قلت لن يتعرض له أحد! من رب المنزل هنا؟
أنا أم أنت؟ انتهى الأمر! لن تتحمله حقا!
غفرانك يا رب! هل تريد إثارة شغب بين الضيوف؟
تريد أن تطلق لتهورك العنان وتصبح رجل الساعة؟ (80)
تيبالت :
ولكن يا عمي هذا عار.
كابيوليت :
هراء هراء! أنت غلام سليط! أهو عار حقا؟
إن هذا السلوك قد يؤثر في ميراثك -
وبيدي تحقيق ذلك! كان لا بد أن تعارضني! (إلى الضيوف) نعم نعم حان الوقت! كلام جميل
يا أحبائي! أنت مغرور طائش! ابتعد! (85)
اسكت وإلا ... - مزيدا من الضوء! - ألا تخجل؟
سوف أسكتك بنفسي، عجبا لك! مزيدا من الحركة يا أحباب!
تيبالت :
إن إرغامي على الصبر مع الغضب الجائح في صدري
يجعلني أرتعد وأتمزق بين لقائهما وفراقهما!
سوف أمضي الآن، ولكن تطفله على حفل الليلة (90)
الذي يذيقه الحلاوة فيما يبدو الآن، سوف يذيقه
أمر ضروب المرارة فيما بعد. (يخرج.)
روميو (إلى جوليت) :
عفوا لئن كانت يدي تلك الأثيمة (92)
قد مست الحرم المقدس في يديك فدنسته
فلربما لي أن أزيل خطيئة بخطيئة عذبة
إذ إن لي شفتين كالحجاج حمراوان من فرط الخجل
وهما إذا طبعا هنالك قبلة مستعذبة
فلربما محوا خشونة ملمس الأيدي (95)
جوليت :
يا أيها الحاج الكريم ظلمت كل الظلم راحتك
فهي التي أبدت خلاق العابدين
وكل قديساتنا لهن أيد لا تني تمسها أيدي الحجيج
وفي تلامس الكفين للحجاج قبلة مقدسة.
روميو :
لكن أما للحاج والقديسة المثلى شفاه؟ (100)
جوليت :
بلى يا حاج لكن يقتصرن على الصلاة!
روميو :
فلنجعل الشفاه يا قديستي العزيزة
تفعل ما تفعله الأيدي
فها هما تصليان لك ... وترجوان أن تجيبي
كي لا يحل اليأس في قلب يقيني.
جوليت :
لكن قديساتنا لا تتحرك
حتى ولو سمعت دعاك.
روميو :
وإذن فلا تتحركي ... حتى أنال ثوابيه (105)
وتزيل قبلة ثغرك البسام آثار الخطيئة من فمي. (يقبلها.)
جوليت :
نقلت إلى شفتي خطيئة ثغرك!
روميو :
خطيئة من مبسمي؟ ما أعذب الإثم الذي دعوتني إليه!
هيا أعيدي لي خطيئتي! (يقبلها مرة أخرى.)
جوليت :
لقد قبلت طبقا للأصول.
المربية :
سيدتي ... أمك تريد أن تتحدث معك. (110)
روميو :
ومن هي أمها؟
المربية :
عجبا أيها الشاب! إنها ربة هذا المنزل
سيدة كريمة عاقلة فاضلة!
لقد أرضعت ابنتها التي كنت تتحدث معها
وتذكر أن من يستطيع الفوز بها (115)
سيفوز بأموال طائلة!
روميو :
أهي من أسرة كابيوليت؟ يا للثمن الفادح!
أصبحت مدينا بحياتي لعدوي!
بنفوليو :
هيا بنا نخرج ... لقد بلغ الحفل ذروته ...
روميو :
حقا! هذا ما أخشاه ... إذ ستزداد متاعبي ...
كابيوليت :
لا أيها السادة! لا تستعدوا للخروج الآن ... (120)
ما زال أمامنا بقية يسيرة من الحلوى ... (يهمسون في أذنه.)
أهذا هو الأمر حقا؟ إذن تقبلوا شكري جميعا
شكرا لكم أيها الشرفاء وتصبحون على خير.
مزيدا من المشاعل هنا، هيا ! ثم نأوي إلى الفراش.
آه يا ولد! قسما بالجن لقد تأخرنا ... (125)
سآوي إلى الفراش. (يخرج الجميع ما عدا جوليت والمربية.)
جوليت :
تعالي يا مربيتي ... من ذلك الشاب؟
المربية :
ابن تيبريو العجوز ووارثه.
جوليت :
ومن الذي يخرج الآن من الباب؟
المربية :
مهلا ... أعتقد أنه الشاب بتروكيو. (130)
جوليت :
ومن الذي يسير خلفهم ولم يشأ أن يرقص.
المربية :
لا أعرف.
جوليت :
إذن فاسألي عن اسمه، وإذا كان متزوجا
فالأحرى بقبري أن يصبح فراش عرسي.
المربية :
اسمه روميو، من أسرة مونتاجيو
الابن الوحيد لعدوكم الأكبر. (135)
جوليت :
أفهذا حبي الأوحد؟
من صلب عدوي الأوحد؟
لم أك أعرف حين رأيت الأملا
والآن عرفت وقد سبق السيف العذلا
ذا مولد حب ينذر بالشر المحتوم
إذ كتب علي غرام عدو مذموم.
المربية :
ما هذا؟ ما هذا؟ (140)
جوليت :
أغنية حفظتها الآن
من شخص رقصت معه. (نداء من الداخل: جوليت ...)
المربية :
حالا حالا!
هيا بنا نخرج من هنا ... خرج الضيوف كلهم. (تخرجان.) (تدخل الجوقة.)
38
الآن يرقد سالف الشوق المهدم في فراش الموت
والحب ذاك الشاب يفغر فاه في لهف لكي يرثه! (145)
أما الجميلة التي كان المحب يئن من صدودها
بل كاد أن يموت في سبيلها
فلم تعد جميلة إن قورنت بجوليت الرهيفة
فالآن روميو قد غدا صبا ومعشوقا معا
فكلاهما سحرته آيات الجمال وفتنته!
لكنه لا بد أن يشكو إلى بنت الأعادي ما يعانيه الحبيب (150) وكذا عليها أن تخلص حلو طعم الحب من شص رهيب!
لكنه أيضا عدو في عيون العاشقة
ولذا فليس بقادر أن يحلف الأيمان
وكذاك فهي على عميق غرامها
لا تستطيع لقاء عاشقها الجديد بأي وقت أو مكان (155)
لكن مشبوب الغرام يهيئ القوة
والدهر يحنو كي يهيئ الوسيلة
فإذا اللقاء حقيقة
شذبت بمعسول السعادة ما اعتراها من صعاب ...
الفصل الثاني
المشهد الأول (يدخل روميو وحده.)
روميو :
كيف أمضي بينما قلبي هنا؟ لا!
فلتعد يا أيها الصلصال يا جسدي وفتش عن فؤادك! (يخرج روميو.) (يدخل بنفوليو ومركوشيو.)
بنفوليو :
روميو روميو يا ابن العم يا روميو!
مركوشيو :
روميو عاقل !
قسما قد عاد إلى البيت ونام!
بنفوليو :
لا بل جرى إلى هنا ... واعتلى سور البستان! (5)
ناده يا مركوشيو.
مركوشيو :
بل أستحضره بالسحر!
يا روميو! باسم النزوات! يا مجنون! باسم الصبوات!
يا عاشق! فلتظهر في صورة زفرة! يكفيني!
قل بيتا من شعر العشاق ... يرضيني!
اصرخ قل «يا ويلي» أو قافية مثل «حبيبي» و«نصيبي»! (10) قل لصديقتنا فينوس قولا حسنا!
دلل وراثها - ذاك الطفل الأعمى - بالألقاب الحلوة
قل يا إبراهامو كيوبيد! يا من أطلقت السهم النافذ
1
فأصاب فؤاد الملك كوفيتوا بهوى بنت الشحاذين!
لا يسمعني، لا يتكلم، لا يتحرك! (15)
يتصنع مثل القرد الموت؟ سأحضر روحه!
أدعوك بقوة روزالين! ببريق العينين وجبهتها الشماء
وبشفتيها القانيتين وبالقدم الهيفاء
بالساق المعتدلة والفخذ الرجراج
وبما جاوره من أصقاع
2 (20)
أن تظهر لي في صورتك الأولى!
بنفوليو :
إن سمعك روميو فسيغضب منك!
مركوشيو :
لا يمكن أن يغضب من هذا! بل يغضب
إن أنا أحضرت غريبا في دائرة المعشوقة
روحا من نوع آخر، فانتصب هنالك (25)
حتى تصرفه وينام! ذلك يدعو للضيق!
أما استدعائي روح صديقي
فبريء وشريف! وأنا باسم حبيبته
أرجو أن أجعله ينتصب أمامي لا أكثر!
بنفوليو :
هيا بنا! لقد اختفى في هذه الأشجار (30)
كيما يخالطه ندى الليل البهيم!
فغرامه أعمى وأفضل ما يناسبه الظلام.
مركوشيو :
إن كان الحب هنا أعمى فلسوف يحيد عن المرمى
وإذن فليجلس صاحبنا تحت الشجرة
ويمني النفس بأن تصبح معشوقته ثمرة (35)
مما تدعوه ذوات اللهو فم الزهرة!
روميو! ليت حبيبتك فم الزهرة
كي تصبح أنت الكمثرى!
سأقول مساء الخير وآوي لفراشي الدافئ
ففراش خلائك أبرد من أن يجلب لي النوم (40)
هلا مضينا من هنا؟
بنفوليو :
فلنمض إذن! عبثا أن نطلب من يتعمد أن يتخفى! (يخرج مع مركوشيو.)
المشهد الثاني (يتقدم روميو.)
3
روميو :
من لم يذق طعم الجراح
يسخر من الندوب!
4
ما ذلك النور الذي ينساب عبر النافذة؟
قل إنه المشرق لاح
قل إنها جوليت بل شمس الصباح
هيا اسطعي شمسي الجميلة وامحقي البدر الحسود
لقد بدا الشحوب في محياه العليل أسفا
إذ إن إحدى راهباته فاقته حسنا
5
فلتتركيه إذن لأنه يغار منك
بل إن أثواب العذارى ذات لون أصفر سقيم
فلتخلعي ذاك الرداء لأنه ثوب الغباء!
6 (تظهر جوليت في مكان مرتفع كأنما في نافذة.)
ها ذي فتاتي! إنها حبيبتي! (10)
وليتها تعرف أنها حبيبتي!
تكلمت لكنني لا أسمع الكلام
لا بأس عيناها تخاطبني! سأجيبها
تالله ما أشد جرأتي! فإنها ليست توجه الكلام لي
نجمان من أبهى كواكب السما (15)
تركا مكانهما في بعض شأنهما
وتوسلا لحبيبتي
أن أرسلي العينين كي يتلألآ حتى نعود!
ماذا يكون الحال إن تبادلا المواقعا؟
لسوف يطغى نور خدها على ضياء الكوكبين
مثل الصباح يطمس المصباح! أما عيونها (20)
فسوف ينساب الضياء منهما ليملأ الهواء
حتى تشقشق الطيور ظانة أن النهار لاح
انظر إليها كيف تسند خدها في كفها!
يا ليتني قفازها حتى ألامس خدها!
جوليت :
واها لي!
روميو (جانبا) :
لقد تكلمت! (25)
تكلمي تكلمي يا أيها الملاك الرائع الوضاء
فأنت تسطعين وسط الليل في السماء
كمرسل مجنح يطوف فوق الأرض
يبهر العيون وهو يمتطي متن الهواء (30)
أو أنه على السحائب الوئيدة
يمر ناشرا شراعه في لجة الفضاء.
جوليت :
إيه روميو كيف سميت بروميو؟
دع أباك ... أو ارفض اسمك ...
أو فأقسم أنني حب حياتك (35)
وسأنضو إسم كابيوليت!
روميو (جانبا) :
هل أسمع المزيد أم أجيبها؟
جوليت :
لا أعادي غير إسمك
أنت ذات مستقلة ... أنت نفسك
ما شأن ذا المونتاجيو؟ إنه ليس يدا أو قدما (40)
ليس وجها أو ذراعا أو سوى ذلك من أعضائنا!
خذ من الأسماء ما يرضيك
ليس للأسماء معنى! فالذي ندعوه وردا
ينشر العطر وإن غيرت إسمه
مثل روميو دون أن ندعوه روميو (45)
إذ سيبقى الكامل المحبوب أيا كان إسمه
اترك الإسم فليس الإسم جزءا من كيانك
وتقبل بدلا منه كياني كله.
روميو :
صدقتك وقبلته! ناديني باسم حبيبي
فسيصبح ذاك هو اسمي (50)
لن أغدو روميو بعد اليوم!
جوليت :
من أنت يا من قد تخفى تحت أستار الظلام
فأحاط بالمكنون من أسراري؟
روميو :
لا أعرف كيف أقول اسمي لك!
إني أكرهه يا قديسة يا محبوبة! فهو عدوك (55)
لو كان اسما مكتوبا في ورقة
لمحوت الإسم وقطعته!
جوليت :
لم ترشف آذاني من كلماتك مائة بعد
لكني أعرف صوتك!
إنك روميو ... من أسرة مونتاجيو! (60)
روميو :
أنا لست هذا لست ذاك جميلتي
إن كان لا يرضيك أي منهما.
جوليت :
قل كيف جئت إلى هنا ولأي أسباب أتيت؟
جدران هذا البيت والبستان عالية تشق على التسلق
ولو رآك من أقاربي أحد ... فهو الهلاك لك! (65)
روميو :
رب الغرام لديه أجنحة يطير بها على الأسوار
هيهات ليس يصده سد من الأحجار
فالحب ذو بأس وليس ترده الأخطار
وليس أهلوك جدار.
جوليت :
إن شاهدوك ها هنا قتلوك. (70)
روميو :
سحر اللحاظ أشد فتكا من طعان بالسيوف
فلتبد لي عين الرضا لأرد أخطار الحتوف.
جوليت :
غاية ما أتمنى ألا يلمحك أحد!
روميو :
إني اتشحت بسترة الليل البهيم لأختفي (75)
يا فتنتي ... إن لم تكوني قد هويتني
فليعثروا علي ها هنا
ما أفضل الموت السريع من يد الكراهية
على الموت البطيء إن حرمت من هواك.
جوليت :
فما الذي هداك للمكان؟
روميو :
رب الغرام أهاب بي أن أبحثا! (80)
أعارني حكمته ... فأعرته عيني
أنا لست ملاحا ولكن ...
لو كنت تبعدين عني بعد أقصى ساحل في الأرض
لكنت قد ركبت البحر في سبيلك! جوليت :
لولا قناع الليل يحجبني (85)
لرأيت في خدي ما نم عن خجلي
مما اعترفت به وأنت تسمعني!
ما ضر لو عملت بالأصول والقواعد المتبعة
فنفيت ما اعترفت به؟ لكن وداعا يا تقاليد الزمن!
أتحبني؟ ستجيب بالإيجاب ... أعرف! (90)
ولن أكذبك! لكن إذا أقسمت ... فربما كذبت!
فكما يقال في المثل: «من كاذب الأيمان للعشاق يضحك الإله جوبيتر»
7
إن كنت يا روميو الرقيق تهواني بحق فلتقلها مخلصا
أما إذا ظننت أنني يسيرة المنال (95)
فسوف أبدي الصد والتجهما، وأظهر التمنعا،
كيما تحاول الوصول لي فحسب
والحق يا سليل مونتاجيو الوسيم
أني بحبك والهة!
ولذا ترى في مسلكي طيش الهوى
وإذا وثقت بما أقول فسوف أثبت أن إخلاصي (100)
يفوق ربات الدلال الماكرات
قد كان ينبغي بعض التمنع - لا جدال -
لكنك استرقت السمع دون أن أعي
إلى اعتراف صادق بحبي المشبوب! أرجوك سامحني
ولا تظن أن تسليمي الذي أفشاه ليلنا البهيم (105)
من وحي عاطفة رخيصة.
روميو :
فلأقسمن ذلك البدر الذي
يكسو ذوائب الأشجار في البستان
بذوب قطر من جمان!
جوليت :
أرجوك لا تقسم بهذا القمر
فالبدر كذاب أشر
يقلب الوجوه في مداره بكل شهر (110)
وإن حلفت به أصابتك الغير.
روميو :
وبماذا أقسم؟
جوليت :
لا تقسم أبدا!
إن كنت تصر فأقسم بكريم خصال في ذات
أعبدها وأقدسها ... ولسوف أصدق قسمك !
روميو :
إن كان الحب الغالي بفؤادي ... (115)
جوليت :
أرجوك لا تقسم! فرغم فرحتي بالقرب منك لا أرى
سعادة في الارتباط بيننا في هذه الليلة!
ففيه طيش بالغ وسرعة مفاجئة
كأنه البرق الذي يغيب عن أبصارنا
من قبل أن نقول ها هوه! تصبح على خير حبيبي! (120)
وربما تفتحت براعم الحب الصغيرة عندما
تهب أنفاس الربيع الدافئة
فأزهرت وأينعت عند اللقاء من جديد!
تصبح على خير إذن! وليت قلبك الكريم يعرف النعيم
والسكينة التي تشيع في جوانحي!
روميو :
هل تتركينني وبي هذا الظما؟ (125)
جوليت :
وكيف في هذا المساء أطفئ الظما؟
روميو :
بأن تقدمي عهد الوفاء في الهوى!
جوليت :
قدمته من قبل أن تطلبه ...
يا ليتني كنت منعته ... حتى يقدم من جديد! روميو :
تبغين أن تسترجعيه الآن، ما الأسباب يا حبيبتي؟ (130)
جوليت :
كيما أكون صريحة وأرده فورا إليك
لكنني لا أبتغي إلا الذي أملكه
فإنني سخية كالبحر لا ساحل له
وحبي العميق مثله ... لا غور له
وكلما أعطيت منه زاد ما لدي منه (135)
كلاهما بلا حدود! (المربية تنادي في الداخل.)
أسمع أصواتا بالمنزل! الآن وداعا يا حبي الغالي -
حالا حالا يا دادة! - أخلص لي يا مونتاجيو المحبوب
لا تمض الآن فسوف أعود! (تخرج جوليت.)
روميو :
يا ليلة بديعة مباركة! لشد ما أخاف أن يكون
ما أرى مناما من رؤى الليل الرقيقة (140)
ففي جماله عذوبة تقصيه عن دنيا الحقيقة! (تعود جوليت.) جوليت :
روميو العزيز! ثلاث كلمات ونفترق!
إن كنت في حبك جادا وشريفا
وتريدني زوجا عفيفا
أرسل إلي غدا - مع من سأرسله إليك (145)
بموعد القران والمكان وعندها
ألقي بأقداري على قدميك
وأسير خلفك سيدي حتى نهاية الحياة.
المربية (من الداخل) :
سيدتي!
جوليت :
قادمة حالا! - أما إذا لم تك جادا (150)
فرجائي -
المربية (من الداخل) :
سيدتي!
جوليت :
قادمة فورا - رجائي أن تفارقني وتتركني لأحزاني!
سأرسلها إليك غدا.
روميو :
ويكتب لي النعيم إذن!
جوليت :
أصبح على خير إذن بل ألف خير! (تخرج.)
روميو :
ألف شر بعد أن غاب ضياؤك (155)
يقبل العاشق بالبشر على المحبوب
مثل طفل هارب من كتبه
ويولي منه بالأحزان
مثل طفل ذاهب مدرسته! (يتراجع ببطء.) (تعود جوليت إلى النافذة.)
جوليت :
بست! بست! روميو! ليتني أدري مناداة الصقور!
كي أنادي ذلك الصقر الأصيل الشاردا!
إنني في الأسر والأسر خفيض الصوت مبحوح الأداء (160)
ليتني كنت طليقة
فأنادي كي يهد الصوت كهف إلهة الأصداء
ثم تعلو بحة الصوت لديها في الهواء
مع تكرار اسم روميو في النداء!
روميو :
هذه روحي تناديني وباسمي!
إن أصوات المحبين لها جرس جميل في هدوء الليل (165)
مثل ألحان عذاب في مسامع السهارى!
جوليت :
روميو!
روميو :
صغيرتي!
جوليت :
في أي ساعة غدا أرسل لك؟
روميو :
في التاسعة!
جوليت :
لن أخلف الموعد!
كأنما بيني وبين الموعد المضروب عشرون سنة!
لكن لماذا كنت أستدعيك؟ قد نسيت! (170)
روميو :
سأظل منتظرا إلى أن تذكري!
جوليت :
سأظل ناسية لتبقى واقفا
لا شيء أذكره سوى أفراح صحبتنا!
روميو :
ولسوف أبقى واقفا كيما تظلي ناسية
بل سوف أنسى أن لي بيتا سوى هذا المكان. (175)
جوليت :
كاد الصباح يلوح
وأود أن تمضي ولكن دون أن تبعد
إلا كمثل ما يطير طائر يلهو به غلام
يتركه يطير من يده ... للحظة ويجذبه
مثل مسكين أسير في قيوده المعقدة (180)
لكنه يشده بخيطه الحريري
كأنما لحبه يغار من حريته!
روميو :
وليتني أكون طائرك.
جوليت :
لكن إعزازي الشديد سوف يقتلك
أصبح على خير إذن ... أصبح على خير
هذا وداع الحب حزن يكتسي إشراقة الأفراح
فليتني أودعك ... حتى يشقشق الصباح (185) (تخرج.)
روميو :
فلينزل النعاس في عينيك
وفي فؤادك السكينة
وليتني كنت النعاس والسكينة
ولتهنئي بالنوم يا حبيبتي!
أما أنا فسوف أغتدي للراهب الأمين في صومعته
أقص قصتي عليه ... وأنشد العون لديه! (يخرج.)
المشهد الثالث (يدخل القس لورنس وحده حاملا سلة.)
القس لورنس :
الصبح بعينيه الزرقاوين تبسم لليل الغاضب وسرت في سحب الأفق الشرقي خيوط من ضوء شاحب
والظلمة خضبها النور فجفلت تترنح مثل السكران
كي تفسح للصبح طريقا
ولرب الشمس بموكبه المقبل في عجلات من نيران
والآن وقبل سطوع الشمس بعين حارقة ملتهبة (5)
كي تنشر أفراح الصحوة
وتجفف أنداء الليل الرطبة
الواجب أن أملأ هذي السلة بالأعشاب السامة
وبأزهار ذات رحيق هو ترياق للأدواء
فالأرض هي الأم الأولى للأحياء ومثواهم
أما أرجام الدفن بها فهي الأرحام
يخرج منها أطفال مختلفو الألوان (10)
ترضع من أثداء الأرض
وكثير مما تنبته الأرض له نفع موفور
بل لا يخرج شيء منها - مهما اختلفت صوره -
إلا وله نفع مذكور
ما أعظم فن شفاء الأمراض (15)
الكامن في الزرع وفي الأعشاب وفي الأحجار
في أصل طبيعتها الحقة!
لا يحيا فوق الأرض خبيث مهما بلغ من الشر (20)
إلا ويفيد الأرض ببعض الخير
وكذاك نرى الطيب إن أجبرناه على ترك الخير
قد ثار على طبع الخير به فتعثر في الشر
بل إن فضائلنا تتحول لرذائل إن كان يراد بها الباطل
والشر إذا سخر لفعال الخير فسوف يؤازره العاقل! (يدخل روميو.)
في داخل قشرة هذه البرعمة الهشة سم ناقع
ودواء مكنون ناجع
فالرائحة تنشط أعضاء الجسم جميعا بل تبهجها (25)
ومذاق الزهرة يوقف كل حواس المرء مع القلب ويخمدها
هذان الملكان إذن ما انفكا يصطرعان
ويرابط جيشهما في الأعشاب وفي الإنسان
الأول ملك فضائل نفس المرء العليا
والثاني ملك الشهوات الدنيا
فإذا انتصر الملك السيئ
نخر السوس البرعم والتهمه! (30)
روميو :
عمت صباحا يا أبتي!
القس لورنس :
باركك الله! من صاحب هذا الصوت العذب
الباكر بتحيتنا هذا الصبح؟ إنك يا ولدي مضطرب النفس
وإلا ما خليت فراشك في هذي الساعة
فالقلق الساهر لا يغفل في عين الشيخ (35)
وإذا حل القلق نبا بالنوم المضجع
أما حين يئوب الشاب الخالي البال -
من لم تجرحه طعنات الدنيا - للمخدع
فلسوف ترى النوم الذهبي ... يبسط سلطانه!
وبكورك من ثم يؤكد لي أن لم يوقظك سوى بعض الهم (40) أو إن لم يك ذاك هو الحال
فعساي أكون مصيبا إن قلت
إن فتانا روميو لم يغمض جفنيه الليلة.
روميو :
آخر ما قلت هو الصائب ... سهر أحلى من كل نعاس!
القس لورنس :
الله غفور ورحيم! هل كنت إذن مع روزالين؟
روميو :
مع روزالين؟ كلا يا أبتي الروحاني! (45)
فلقد أنسيت الإسم وآلامه!
القس لورنس :
فتح الله عليك ولكن أين ذهبت إذن؟
روميو :
سأقص عليك فلا تسألني ثانية!
كنت بحفل مع أعدائي فأصبت بجرح فجأة (50)
من أحدهمو وجرحته! وعلاج كلينا
يكمن في عونك وقداسة طبك!
لا أحمل ضغنا لأحد ... إذ إني يا رجل البركة
أسعى لمساعدة عدوي أيضا!
القس لورنس :
أفصح يا ابني الصالح ... صرح بالمعنى المقصود (55)
فالمعترف الأعوج يجني غفرانا أعوج!
روميو :
اعلم إذن دون عوج
أن الفؤاد هوى الجميلة بنت كابيوليت الثري
ومثلما تعلق القلب بها قد مال قلبها إلي
وكما ارتبطنا في الهوى (60)
نحتاج للرباط ها هنا على يديك بالزواج
أما متى قابلتها وأين ... وكيف بادلتني العهود للوفاء
فسوف أحكيه إليك في طريقنا
لكنني ألح ألا ترفض الرجاء
وتعقد القران بيننا في يومنا!
القس لورنس :
قسما بالقديس فرانسيس! ما أسرع ما تتغير! (65)
أهجرت حبيبتك المعشوقة روزالين؟ وبهذي السرعة؟
لا يكمن حب الشبان إذن حقا في القلب
ولكن في العينين! آه يا عيسى يا مريم!
كم سال من الدمع على خديك الصفراوين
حبا في روزالين! (70)
كم ضيعت من الماء الملح إذن
كي تحفظ حبا لم يكتب لك أن تتذوقه!
ما زالت زفراتك غائمة ما بددها ضوء الشمس
وصدى أناتك ما زال يرن بأذني الهرمة!
وانظر تر في خدك بقعة ... تركتها عبرة (75)
ذرفتها عينك لكنك لم تمسحها بعد!
إن كنت بيوم أخلصت لحزنك وصدقت مع النفس
فلقد كانت تلك النفس وذاك الحزن
ينصبان على روزالين! أتراك تغيرت إذن؟
إن كان الأمر كذلك فلتعلن هذي الحكمة:
من حق المرأة أن تسقط إن فقد الرجل القوة! (80)
روميو :
ما أكثر ما وجهت إلي اللوم لحبي روزالين!
القس لورنس :
ليس لحبك يا تلميذي لكن لبلاهة عشقك!
روميو :
وطلبت كذا دفن غرامي!
القس لورنس :
لم أطلب أن تدخل في القبر غراما
وتعوضه بغرام آخر!
روميو :
دع لومي أرجوك فإن فتاتي اليوم (85)
تبادلني ما أحمله من ود وغرام
لم تكن السالفة كذلك!
القس لورنس :
كانت تعلم حق العلم
أن غرامك ينشد أبياتا يحفظها
لكن لا يعلم معناها!
لكن هيا يا متقلب! فلنمض معا هيا
سأساعدك لهدف واحد (90)
إذ قد يلقى هذا الحب هناء ورفاء
يكفي ليحول ما بين البيتين ... من كره وعداء
لوداد وصفاء.
روميو :
هيا نمضي فأنا أحتاج إلى السرعة والعجلة!
القس لورنس :
بل نتأنى ولنتدبر
من يتعجل قد يتعثر! (يخرجان.)
المشهد الرابع (يدخل بنفوليو ومركوشيو.)
مركوشيو :
أين يمكن أن يكون هذا الروميو؟ ألم يعد إلى المنزل ليلة أمس؟
بنفوليو :
ليس إلى منزل أبيه؛ فقد سألت الخادم.
مركوشيو :
هذا كثير! إن تلك الفتاة الصفراء القاسية - روزالاين -
سوف تعذبه حتى يصاب بالجنون؟ (5)
بنفوليو :
أما سمعت؟ لقد أرسل تيبالت - أحد أقارب كابيوليت - خطابا إلى
منزل والده!
مركوشيو :
لا بد أنه خطاب يتحداه فيه.
بنفوليو :
وسوف يجيب روميو عليه!
مركوشيو :
كل من يستطيع الكتابة يستطيع الإجابة. (10)
بنفوليو :
لا ... أقصد أنه سيجيب صاحب الخطاب على تحديه ... فيتحداه
هو الآخر.
مركوشيو :
وا أسفا على روميو! إنه ميت بالفعل! طعنته فتاة بيضاء ... بعينها
السوداء! وأصابته في أذنه بأغنية حب ... وانشق عمود قلبه من
السهم الخشن الذي رماه به الطفل الأعمى
8
وهل يستطيع روميو أن (15)
يصمد لتيبالت؟
بنفوليو :
عجبا! ومن يكون تيبالت؟
مركوشيو :
أكثر من أمير للقطط! إنه شجاع ... أستاذ في فنون المبارزة!
ويجيد القتال إجادتك غناء الأناشيد ... فهو يعمل حساب التوقيت
والمسافات والتناسب - ولا يتيح لك إلا لحظة واحدة ... فلا تكاد
تقول واحد ... اثنين ... إلا وتجد الثالثة قد سكنت صدرك! إنه (20)
لا يخطئ التصويب ولو على زر حريري! إنه مبارز حقيقي
يا صاحبي ... مبارز بالفعل! وكريم المنبت من الطبقة الأولى ...
ويلم بأصول المبارزة وأحكامها من الطبقتين الأولى والثانية!
يا عجبا لطعنته المفاجئة! وضربته الخلفية! وشكته
المباشرة!
9
بنفوليو :
ماذا ... المباشرة؟
مركوشيو :
إنه عدو لكل الأغبياء والمتصنعين والمتباهين بلهجاتهم الغريبة ... (25)
أولئك الذين يبتدعون هذه البدع! وأقسم بالمسيح إنه لذو سيف
بتار! ومقاتل عنيف! ولوع بالنساء إلى أقصى حد وعلى أي
حال ... أليس من المؤسف يا سيدي أن نبتلى بهذه الحشرات
الغريبة! هؤلاء المغرمون بآخر الأزياء والبدع - الذين يتشدقون
بالفرنسية وحسب - ولا يعرفون لشدة ولعهم بالجديد - أن
يجلسوا باطمئنان على مقاعدنا القديمة! (30)
لأنها تؤذي عظامهم ... عظامهم الرقيقة! (يدخل روميو.)
بنفوليو :
ها هو روميو! ها هو روميو!
مركوشيو :
كأنه رنجة مجففة،
10
ليس فيها بطارخ: قد تحول جسده البشري
إلى جسد سمكة! ألا ترى أنه يعشق القصائد التي تسيل من قلم
بترارك؟ إن «لورا» - بالنسبة لحبيبته - ليست سوى خادم! «مع أن حبيبها كان أفضل منه في كتابة الغزل» أما «دايدو» (35)
بالنسبة لها - فلم تكن إلا دميمة ... وكليوباترا غجرية!
و«هيلين» و«هيرو» مجرد تافهات ساقطات! وكذلك ثيسبي -
رغم عيونها الزرقاء! - فهي لا تنافس هذه مطلقا! صباح الخير
يا سنيور روميو! «بون جور»! وأنا أحييك بالفرنسية حتى أتمشى
مع سروالك الفرنسي، لقد خدعتنا ليلة أمس ومنحتنا مالا زائفا!
روميو :
صباح الخير أولا ... ثم ... أي مال زائف هذا؟ (40)
مركوشيو :
ألم تخلف موعدك أمس؟ هذا هو المال الزائف ... ألا تستطيع أن
تفهم هذا؟
روميو :
آسف يا مركوشيو الكريم ... لقد انشغلت بأمر هام ... وفي مثل
حالتي ... يمكن التغاضي عن المجاملات!
مركوشيو :
بل يجب أن تقول: إن من كان في حالتي ... فيجب أن ينحني (45)
حتى يلمس الأرض.
روميو :
تعني لأستأذن منكم؟
مركوشيو :
نعم ... لقد وضعت يدك عليها تماما!
روميو :
لأنك قدمتها لي بمنتهى الأدب!
مركوشيو :
ولم لا ... وأنا أكثر المؤدبين تفتحا.
روميو :
إن التفتح للزهور. (50)
مركوشيو :
هذا صحيح.
روميو :
ولكن حذائي قد تفتح أيضا ... بالثقوب!
مركوشيو :
إجابة ذكية ولكن إذا سرت وراء هذه الفكاهات - فسوف يبلى
حذاؤك - وحتى إذا بلي نعله الهزيل، فسوف تظل فكاهتي جديدة
فريدة - مهما حكيتها. (55)
روميو :
بل إن فكاهتك هي الهزيلة، وليست فريدة إلا لسخافتها.
مركوشيو :
اشترك معنا يا بنفوليو الكريم ... فلم أعد قادرا على متابعة هذه
الفكاهات.
روميو :
اجتهد وكافح ... استعمل كل أسلحتك ... وإلا أعلنت
انتصاري!
مركوشيو :
لا لا ... إذا كان ذكائي وذكاؤك سيشتركان في سباق مثل هذا
فسوف أخسر! لأن خبرتك بهذا السباق قدر خبرتي خمس مرات!
بل إن حاسة واحدة من حواسك تسبق حواسي الخمس في
متابعته ... هيه ... هل تعادلت معك في هذا السباق إذن؟
11 (60)
روميو :
لم تتعادل معي أبدا ... لأنك لم تشترك في السباق أساسا؟
مركوشيو :
سأقبلك لهذه الفكاهة.
روميو :
لا لا ... لا داعي للقبلات أيها الطفل الصغير. (65)
مركوشيو :
إن ذكاءك مثل تفاحة حلوة ومرة ... بل مثل حساء حريف جدا.
روميو :
أليس هذا ما تقدمه لطفل مدلل؟
مركوشيو :
هذه فكاهة كقطعة من جلد الماعز ... يمكن أن تمطها فتبلغ البوصة
منه طول القدم!
روميو :
إذن سأمطها حتى «القدم» ... فإذا أضفتها إلى الطفل (70)
الصغير ... أصبحت يا صديقي طفلا طوله قدم واحدة!
مركوشيو :
عجبا لك! أليس هذا أفضل من التأوه والأنين من لذع الحب؟
إنك الآن ودود تعاشر أصدقاءك ... وهذا هو روميو الحقيقي ...
على طبيعته وبديهته الحاضرة! أما ذلك الحب المتهالك
12
فيشبه
الأبله الكبير ... يجري هنا وهنا هاربا من الصبية ... ليخفي (75)
عصاه المضحكة في ركن بعيد!
بنفوليو :
كفى هذا ... كفى هذا.
مركوشيو :
تريدني أن أقطع حديثي ضد رغبتي؟
بنفوليو :
نعم وإلا تشعب منك وطال ...
مركوشيو :
هذا خطأ ... بل كنت سأختصره كثيرا ... ولقد وصلت بالفعل
إلى آخره ... ولم أكن أريد بالفعل أن أستمر في عرضه أكثر من (80)
هذا.
روميو :
كلام فارغ لا بأس به. (تدخل المربية وبيتر - خادمها.)
روميو :
شراع! شراع!
13
مركوشيو :
بل اثنان ... اثنان! قميص وفستان.
المربية :
بيتر! (85)
بيتر :
ماذا تريدين؟
المربية :
مروحتي يا بيتر!
مركوشيو :
هيا يا بيتر! تخفي وجهها ... فإن مروحتها وجه أجمل!
المربية :
أسعد الله صباحكم ... أيها النبلاء.
مركوشيو :
أسعد الله مساءك أيتها الجميلة ... النبيلة! (90)
المربية :
وهل نحن في المساء؟
مركوشيو :
لا أقل من ذلك ... أؤكد لك ... إن يد الزمان اللعوب قد
أحاطت بخاصرة الظهيرة!
المربية :
قبحك الله! يا لك من رجل!
روميو :
إنه - أيتها النبيلة - رجل خلقه الله لإفساد نفسه! (95)
المربية :
تعبير جميل ... «لإفساد نفسه» حقا! أيها السادة هل بينكم من
يدلني على مكان الشاب روميو؟
روميو :
أنا أقول لك، ولكن الشاب روميو سوف يكون قد كبرت سنه
حينما تجدينه ... وأنا أصغر رجل بهذا الاسم، لعدم وجود من هو (100)
أسوأ!
المربية :
جميل ... كلام جميل.
مركوشيو :
هل الأسوأ جميل؟ لقد أجدت الفهم ... حقا ... يا لك من
حكيمة!
المربية :
إذا كنت هو يا سيدي ... فإنني أريد التحدث معك على انفراد! (105) بنفوليو :
إنها تدعوه إلى العشاء.
مركوشيو :
إنها قوادة ... قوادة ... قوادة! إذن هيا!
روميو :
ماذا تعني؟ ماذا وجدت؟
مركوشيو :
إنها ليست أرنبة يا سيدي ... إلا إذا كانت أرنبة في فطيرة من
فطائر الصوم الكبير، فهي فاسدة وتالفة! (110) (يسير إلى جوارهم ويغني.)
الأرنب العجوز التالفة
والأرنب العجوز التالفة
ولحمها اللذيذ عندما نصوم ...
لكن هذي الأرنبة
وقد أصابها التلف
تصيب بالضيق أو بالقرف (115) إن عفنت ولم يمسها محروم ...
اسمع يا روميو! هل تأتي معي إلى منزل أبيك؟ سوف نتناول
غداءنا هناك.
روميو :
سآتي حالا ... بعدكما ...
مركوشيو :
وداعا يا سيدي العجوز ... وداعا ... (يغني)
سيدتي يا سيدتي!
سيدتي يا سيدتي! (120) (يخرج مركوشيو وبنفوليو.)
المربية :
حقا! وداعا! أتوسل إليك يا سيدي ... أخبرني ... من ذلك
السليط اللسان؟ إنه مليء بالبذاءة!
روميو :
هذا شريف أيتها المربية ... ولكنه يجب أن يسمع نفسه وهو
يتكلم، وهو يقول في دقيقة ما لا يطيق سماعه في شهر.
المربية :
إذا تحدث عني بالسوء سأضربه وألقيه على الأرض! حتى لو كان (125) أشد بذاءة واستعان بعشرين من أمثاله! فإذا لم أستطع، وجدت
من يستطيع. وغد دنيء! لست من صديقاته الساقطات! ولست
من القتلة العاهرات! (إلى بيتر)
كل هذا وأنت واقف هنا؟ وتقبل أن يهينني الحقير كما يحلو له؟
بيتر :
لم أر رجلا أهانك، كما يحلو له ... وإذا كنت رأيته، لأخرجت (130)
سيفي بسرعة من غمده ... أؤكد لك أنني قادر على رفع السيف
مثل سائر الناس، إذا وجدت الفرصة في مبارزة معقولة ... وكان
الحق والقانون في جانبي.
المربية :
أقسم - أمام الله - أنني مضطربة وثائرة، وأن جسمي كله
يرتعش! يا للوغد الدنيء! أرجوك يا سيدي أرجوك ... سأقول
لك كلمة واحدة ... وكما قلت لك فإن سيدتي الشابة أمرتني أن
أبحث عنك، أما ما طلبت مني أن أقوله فسوف يبقى طي الكتمان! (135)
ولكن - لا بد أن أقول لك أولا: إذا كنت تنوي استدراجها إلى
جنة الحمقى - كما يقولون - فذلك سلوك بالغ الدناءة
والحقارة ! - كما يقولون - لأن سيدتي النبيلة صغيرة ولا يجوز أن
تخدعها، فذلك سلوك منحط إزاء أي فتاة نبيلة شابة، وخلق
وضيع جدا ... (140)
روميو :
أيتها المربية ... احملي سلامي إلى فتاتك وسيدتك ... وإنني
أصارحك.
المربية :
يا لقلبك الكريم. أقسم لأقولن لها ذلك ... إيه يا ربي! لكم
ستسعد بسماع ذلك!
روميو :
تقولين لها ماذا؟ أيتها المربية ... إنك لم تفهمي بعد ما أريد أن
أقول. (145)
المربية :
سأقول لها يا سيدي إنك تصارحني ... وأنا أفهم من هذا أنه عرض
من جانب شخص نبيل!
روميو :
اطلبي منها أن تدبر
وسيلة ما للحضور للاعتراف هذا المساء
وسوف تحصل هناك - في صومعة القس لورنس - (150)
على الغفران ثم تتزوج. خذي هذا أجر ما تعبت من أجلنا.
المربية :
لا لا يا سيدي! لا يمكن! ولا بنسا واحدا!
روميو :
دعك من هذا التمنع! لا بد أن تأخذي هذا!
المربية :
هذا المساء يا سيدي؟ جميل! سوف تكون هناك!
روميو :
وانتظري أيتها المربية الطيبة خلف جدار الكنيسة (155)
إذ سأرسل إليك خادمي في غضون ساعة
ويحضر إليك حبالا مجدولة على شكل سلم
أصعد عليه في هدأة الليل الكتوم
إلى أعلى سارية من سواري فرحي.
وداعا إذن واحفظي سرنا حتى أكافئك على تعبك. (160)
وداعا إذن وأبلغي تحياتي إلى سيدتك.
المربية :
فليباركك الله في سمواته - اسمع يا سيدي!
روميو :
ماذا تقولين يا مربيتي العزيزة؟
المربية :
هل خادمك يحفظ السر؟ ألم تسمع أبدا المثل القائل بأن السر
يحفظه اثنان - فإذا بلغ ثالثا انتشر؟! (165)
روميو :
أؤكد لك أن خادمي مخلص كالصلب.
المربية :
جميل يا سيدي - إن سيدتي أرق الفتيات! آه يا ربي يا ربي!
ما زلت أذكر جمالها وهي طفلة صغيرة تتهته! والآن يحاول أحد
أبناء نبلاء المدينة - شخص اسمه باريس - أن يركب سفينتنا
بالقوة ... بحد السيف! ولكن الفتاة الكريمة تفضل أن ترى
ضفدعا على أن تراه - هل تفهمني ... ضفدعا! وأنا أغضبها
أحيانا فأقول لها إن باريس أجمل منك! وعندئذ - أؤكد لك - (170) يكسوها الشحوب كأي ثوب يزول لونه عند الغسيل في أي مكان
في العالم! ألا يبدأ اسم روميو بنفس حروف ورد الذكرى - روز
ماري؟
روميو :
نعم أيتها المربية! وما دلالة ذلك؟ كل منهما يبدأ بالراء!
المربية :
نعم أيها الساخر! ذاك هو اسم الكلب! أما الراء فهو أول حرف (175)
في كلمة - لا ... أعرف أنها تبدأ بحرف آخر ... ولكن سيدتي
تقول عنك وعن الورود عبارات رائعة ... وسوف تسر
لسماعها!
14
روميو :
أبلغي تحياتي إلى سيدتك.
المربية :
ألف مرة! (يخرج روميو.)
بيتر!
بيتر :
تحت أمرك!
المربية :
هيا أمامي ... وبسرعة. (180) (تخرج وأمامها بيتر.)
المشهد الخامس (تدخل جوليت.)
جوليت :
الساعة التي هنا كانت تدق التاسعة
حين بعثت بالمربية.
وكان وعدها بأن تعود بعد نصف ساعة
لربما لا تستطيع أن تقابله، لكن هذا مستحيل!
قل إنها عرجاء!
أما مراسيل الغرام فيبغي أن تصبح الأفكار
فإنها تفوق في سرعتها (5)
أشعة الشمس التي تزيح أشباح الظلام من فوق التلال.
وهكذا فإن ربة الهوى تنساب في مركبة
تجرها حمائم سريعة خفاقة الجناح
وعند رب الحب أجنحة تسابق الرياح.
لقد تسنمت شمس الزوال أعلى قمة تجتازها
في رحلة النهار (10)
أي إن ساعات ثلاثا قد مضين ولم تعد
لو كان عندها قدر من المشاعر
أو من دم الشباب الفائر
لأسرعت كأنها كرة
تقاذفتها كلمة مني إلى حبيبي الرقيق
وكلمة منه إلي! (15)
بل كم من الكبار من يتظاهرون أنهم أموات
فينقلون الخطو في تثاقل وبطء
ويعتريهم الشحوب كالرصاص. (تدخل المربية مع بيتر.)
ها قد أتت والحمد لله! مربيتي الحلوة - ما الأخبار؟
هل قابلته؟ اطلبي من خادمك أن يخرج.
المربية :
بيتر! انتظر عند الباب. (20) (يخرج بيتر.)
جوليت :
والآن يا مربيتي الحلوة الطيبة، لماذا يبدو عليك الحزن؟
لا داعي للحزن أبدا، فإذا كانت الأخبار سيئة،
فخففي من وقعها ببعض المرح! وإذا كانت حسنة
فأنت تفسدين أنغامها حين تعزفينها
وقد كسا وجهك هذا الهم.
المربية :
إنني مرهقة! اتركيني قليلا ... يا للألم! (25)
إن عظامي تؤلمني! يا للرحلة المتعبة!
جوليت :
ليتك تأخذين عظامي وتعطيني الأخبار!
هذا كثير! هيا هيا ... أرجوك ... تكلمي ... هيا أيتها المربية
الكريمة جدا ... الطيبة جدا ... تكلمي!
المربية :
يا للمسيح! فيم العجلة؟ ألا تستطيعين الانتظار قليلا؟
ألا ترين أنني لم أسترد أنفاسي بعد؟ (30)
جوليت :
كيف لم تسترديها، ولديك أنفاس تخبرني بأنك قد استرددتها؟
وهذه الأعذار التي تقولينها أطول من الأخبار التي تحملينها.
هل هي سيئة أم حسنة؟ أجيبي على هذا السؤال ...
أجيبي فقط ولن أتعجل التفاصيل ... أريحيني فقط ... حسنة أم سيئة؟ (35)
المربية :
إذن - أقول لك - كنت بلهاء في اختيارك روميو فأنت لا تعرفين
اختيار الرجال ... روميو؟ لا ... ليس كما ينبغي! فرغم أن
وجهه أجمل من وجوه سواه، فإن رجليه أبدع من أرجل الجميع!
وأما يداه وقدماه وسائر جسده - فرغم أنني لا أستطيع الحديث (40)
عنها - إلا أنني لم أر أفضل منها مطلقا! ورغم أنه ليس بارعا في
المجاملات فهو - أؤكد لك - كالحمل الوديع! هيا يا فتاتي ...
هيا ... اتركي هذا الموضوع ... واتقي الله! أخبريني ... هل
تناولت الغداء في المنزل؟ (45)
جوليت :
لا لا ... إنني أعرف كل هذا ...
ما رأيه في موضوع زواجنا؟ قولي ... تكلمي!
المربية :
آه يا ربي! يا للصداع المؤلم! يا لهذا الرأس!
إنه يدق كأنما سوف يتفتت إلى عشرين قطعة!
وظهري - في الجانب الآخر! ظهري! آه يا ظهري!
يا لقسوة قلبك حين أرسلتني (50)
أبحث عن الموت وأقفز هنا وهناك.
جوليت :
حقا! إنني حزينة وآسفة لمرضك!
ولكن يا مربيتي الرقيقة الحلوة العذبة.
أخبريني ماذا قال لك حبيبي؟
المربية :
قال لي حبيبك - وهو شخص نبيل ومهذب، ومؤدب، وطيب
القلب، ووسيم - وأؤكد لك - فاضل أيضا - أين أمك؟ (55)
جوليت :
أين أمي! عجبا لك ... إنها بالمنزل!
أين عساها أن تكون؟ ما أغرب إجابتك!
يقول حبيبك وهو رجل شريف «أين أمك؟» (60)
المربية :
قسما بالبتول! هل أنت متلهفة إلى هذا الحد؟
ما هذا السلوك الغريب؟
هل هذا علاج عظامي التي تؤلمني؟
من الآن فصاعدا ... أبلغي أنت رسائلك!
جوليت :
يا للثرثرة والضوضاء! أخبريني أرجوك ... ماذا يقول روميو؟
المربية :
هل سمحوا لك بالخروج اليوم للاعتراف؟ (65)
جوليت :
نعم.
المربية :
إذن فأسرعي إلى صومعة القسيس لورنس
فسوف ينتظرك هناك رجل يريد الزواج
ها هو الدم الثائر يصعد إلى وجنتيك ...
إن أي أخبار تكسوهما بحمرة الخجل! (70)
أسرعي إلى الكنيسة أنت بينما أذهب أنا إلى مكان آخر
لأحضر سلما يصعد عليه حبيبك إلى عش أحد الطيور.
حينما يهبط الظلام ...
إنني الجارية التي تتحمل كل شيء لإرضائك دون أجر
ولكنك سوف تحملين الأعباء حالما يأتي المساء (75)
هيا ... سأذهب لتناول الطعام ... وأسرعي أنت إلى الكنيسة!
جوليت :
بل إلى قمة الحظ السعيد! شكرا يا مربيتي المخلصة وداعا. (تخرجان.)
المشهد السادس (صومعة القس لورنس.) (يدخل القس لورنس وروميو.)
القس لورنس :
فلتشرق السماء بابتسامة الرضا عن فعلنا القدسي
كي لا يوافينا العقاب بالأحزان في المستقبل.
روميو :
آمين! لكن مهما كانت أحزان المستقبل
فمحال أن تلغي فرحي وهنائي
حين أراها ... حتى لدقيقة!
إنك إن تضمم أيدينا بالكلمات القدسية
لن أكترث بما يجرؤ أن يفعله الموت
يكفيني أن أدعوها ملك يميني!
القس لورنس :
للأفراح الطاغية نهايات طاغية
إذ تفنى عند النصر كمثل النار إذا قبلت البارود!
وكذلك أحلى ألوان الشهد
نكرهه من فرط حلاوته
وتموت شهيتنا بمذاقه!
وإذن كن معتدلا في حبك ليدوم
فالمفرط في السرعة يتأخر كالمفرط في البطء! (تدخل جوليت.)
هذي هي الفتاة أقبلت وما أخف خطوها!
هيهات أن ينال هذا الخطو من أحجار صوان صمود!
للعاشق الولهان أن يمشي على خيوط بيت العنكبوت
تلك التي تهزها نسائم الصيف اللعوب دون أن يقع!
إذ ما أخف زهو حامل الهوى!
جوليت :
مساء الخير للقس المبارك!
القس لورنس :
روميو سوف يقوم بشكرك يا بنتي باسمي ... وكذلك باسمه! (روميو يقبل جوليت.)
جوليت :
سأرد الشكر له عينا ... حتى لا يزداد عن الحد الواجب! (جوليت ترد إليه القبلة.)
روميو :
آه يا جوليت! إن كانت نفسك قد فاضت بالفرحة مثلي!
ولديك اللغة القادرة على التعبير الصادق خيرا مني
فأشيعي في النسمات حوالينا عطرا من أنفاسك
وليحك لسان الموسيقى الخصبة بهجة إحساسك
وسعادة قلبينا في هذي اللقيا!
جوليت :
يصور الخيال بهجة من الأفعال لا الأقوال
مزدهيا بمخبره ... لا بجمال مظهره
لا يستطيع أن يحصي نقوده إلا الفقير
أما أنا فقد نما حبي وزاد عن كل الحدود
ولست أستطيع أن أحصي
نصف الذي لدي من ثراء!
القس لورنس :
هيا معي هيا معي ... فلن يطول ما ستفعله
ولن تغادرا المكان قبل أن نوحد القلبين في الكنيسة المقدسة
ليصبح الشخصان شخصا واحدا! (يخرجون.)
الفصل الثالث
المشهد الأول (ساحة عامة.) (يدخل مركوشيو وتابعه وبنفوليو، وخادم له وخدم آخرون.)
بنفوليو :
أرجوك يا مركوشيو ... هيا بنا نعود ... الجو حار وأبناء أسرة
كابيوليت قد خرجوا من المنزل، وإذا قابلنا أحدهم فلن نستطيع أن
نتلافى الشجار، فهذا الجو حار يثير الطباع ويدفع على الطيش.
مركوشيو :
أنت تذكرني بمن يدخل حانة من الحانات فإذا جلس إلى المائدة (5)
قرع سيفه بجانبه وقال له: «ليتني لا أحتاج إليك اليوم» ولكنه
ما إن يجرع الكأس الثانية حتى يستل سيفه ويهب بها في وجه
الساقي ... دونما داع حقا!
بنفوليو :
وهل أنا كذلك؟
مركوشيو :
كيف تنكر؟ إنك تثور عندما تغضب مثل سائر شبان إيطاليا! وما (10)
أسرع ما تغضب فتثور! وما أسرع ما تثور عندما تغضب!
بنفوليو :
وماذا أفعل عندما أثور؟
مركوشيو :
تفعل؟ إن كان لدينا اثنان منك فقط لانتهيا على الفور ... إذ لا بد
أن يتقاتلا فيقتلا! عجبا لك! إنك تقاتل لأوهى الأسباب ...
كأن يكون شعر لحية الرجل أكثر أو أقل بشعرة واحدة من (15)
لحيتك ... وقد تقاتل رجلا يكسر البندق، لأن عينيك في لون
البندق! قل لي إذن أي عين - سوى عينك أنت - ترى في هذا
سببا للقتال؟ إن ذهنك حافل بأسباب القتال مثل البيضة المليئة
بالزلال - ومع ذلك فقد اختلط ذهنك من كثرة القتال وفسد - (20)
مثلما يفسد البيض المضروب ... لقد بارزت رجلا سعل في
الطريق؛ لأنه أزعج كلبك الذي كان ينام في الشمس ... ألم
تقاتل خياطا لأنه ارتدى صداره الجديد قبل أن يحل العيد؟
وقاتلت رجلا آخر لأنه كان يربط حذاءه الجديد برباط قديم؟ كل
هذا ثم تأتي وتنصحني بأن أترك القتال؟ (25)
بنفوليو :
لو كنت أسرع إلى القتال مثلك لاستطاع أي إنسان أن يشتري
الحق في حياتي بعد مناجزة لا تزيد على ساعة وربع.
مركوشيو :
الحق في حياتك؟ هذه بلاهة! (يدخل تيبالت وبتروكيو وآخرون.)
بنفوليو :
أقسم برأسي لقد أقبلوا ... هؤلاء من أسرة كابيوليت! (35)
مركوشيو :
أقسم بقدمي ... لن أهتم!
تيبالت :
اتبعني عن قرب، فسوف أحدثهم، مساء الخير أيها السادة ... أريد
أن أتكلم مع أحدكم.
مركوشيو :
تتكلم فقط مع أحدنا؟ ولماذا لا يصاحب الكلام شيء آخر؟
كلمة ولكمة! (40)
تيبالت :
ستجدني قادرا على هذا يا سيدي ... إذا حدث ما يدعو له.
مركوشيو :
ألا تستطيع أن تفعل ذلك دون دعوة مني؟
تيبالت :
اسمع يا مركشيو! كثيرا ما أراك بمصاحبة روميو!
مركوشيو :
بمصاحبته؟ هل جعلت منا منشدين يعزف أحدنا بمصاحبة (45)
الآخر؟ إذا كنا منشدين فلن تسمع إلا النشاز! ها هي قوس
الكمان ... (يخرج سيفه) هذه هي التي ستجعلك ترقص ...
هيا ... لمصاحبتي!
بنفوليو :
إننا في ساحة عامة وسط الناس! فإما أن تجدا مكانا خاصا للنزاع
وإما أن تناقشا مشكلاتكما في هدوء، أو تفترقا! إن عيون الجميع (50)
معلقة بنا.
مركوشيو :
خلقت عيون الناس للنظر - فلينظروا كما يريدون! لن أنصرف
إرضاء لأي إنسان! (يدخل روميو.)
تيبالت :
رائع! مع السلامة إذن ... فقد أقبل الرجل الذي أبغيه!
مركوشيو :
تبغي؟ أقسم أنك لا تقدر على البغي بأحد!
أما إذا نزلت ميدان القتال فسوف يجد في أثرك
وفي هذه الحالة يمكن أن تبغيه!
تيبالت :
روميو ... إن الحب الذي أكنه لك
لا يملك إلا أن يقول لك: أنت وغد!
روميو :
تيبالت ... إن الدافع على حبي لك (55)
يغفر لك هذه التحية ويمنعني من الغضب منها
لست وغدا ... وداعا إذن إذ يبدو أنك لا تعرفني.
تيبالت :
أيها الغلام ... لن تغفر هذه الكلمات الإساءات
التي أنزلتها بي ... استدر واستل سيفك! (60)
روميو :
إنني لأعلن أنني لم أسئ إليك أبدا.
أحبك أكثر مما تتصور
ريثما تعرف سبب حبي ... وإذن فأرجو أن أكون قد أرضيتك
يا ابن كابيوليت الكريم ...
فأنا أحب اسمك وأعزه مثلما أحب اسمي وأعزه. (65)
مركوشيو :
يا للاستسلام الخانع الحقير!
فلنحتكم إلى السيف إذن! (يستل سيفه)
هيا يا تيبالت يا صائد الفئران! تقدم!
تيبالت :
ماذا تريد مني؟
مركوشيو :
يا ملك القطط الجميل ... لا أريد إلا روحا واحدة من أرواحك
التسع ! وسوف يحدد سلوكك معي في المستقبل أسلوب ضربي (70)
للأرواح الثمانية الباقية. ألن تستل سيفك وتخرجه بأذنيه من
غمده؟ أسرع وإلا انقض سيفي على أذنيك أنت قبل أن تخرجه.
تيبالت (يستل سيفه) :
فليكن ... سأنازلك. (75)
روميو :
يا مركوشيو النبيل ... اغمد سيفك!
مركوشيو :
هيا يا سيدي ... أين طعنتك النافذة؟ (يتقاتلان.)
روميو :
أخرج سيفك يا بنفوليو ... فرق به هذه السيوف
أيها السيدان ... يا للعار ... كفا عن هذا القتال!
اسمع يا تيبالت ويا مركوشيو! لقد أمرنا الأمير بصراحة (80)
ألا نعود لهذا الشغب في شوارع فيرونا (روميو يقحم نفسه بينهما.)
كفى يا تيبالت! اسمعني يا مركوشيو الكريم!
1 (تيبالت يطعن مركوشيو من تحت ذراع روميو.) (ثم يخرج تيبالت مع أتباعه.)
مركوشيو :
لقد جرحت!
لعنة الله على الأسرتين! لقد قتلني!
هل هرب؟ ألم يصب بجرح واحد؟
بنفوليو :
حقا؟ هل جرحت حقا؟
مركوشيو :
نعم نعم ... خدش ... مجرد خدش ... ولكنه يكفي! أين
خادمي؟ اذهب أيها الوغد وأحضر جراحا. (85) (يخرج الخادم.)
روميو :
هون عليك يا رجل ... إنه خدش بسيط ...
مركوشيو :
حقا ... ليس عميقا كالبئر ... أو واسعا كباب الكنيسة ولكنه
يكفي ... يكفي لقتلي على الأقل ... وأرجو أن تسأل عني غدا في
عنواني الجديد ... بين القبور!
2
أؤكد لك أنني قد شويت في
هذه الدنيا واستويت!
3
لعن الله الأسرتين - ألا يجب أن
أخجل حين يخدشني كلب أو فأر أو جرذ أو قط فأموت؟ هل (90)
أموت على يد وغد متفاخر شرير يقاتل طبقا للقواعد في كتاب
الحساب؟ ما الذي جعلك تتدخل في قتالنا؟ لقد غافلني ووجه
إلي السيف من تحت ذراعك.
روميو :
كنت أريد المساعدة وحسب ... (95)
مركوشيو :
ساعدني يا بنفوليو على الدخول في أحد المنازل
وإلا أصبت بالإغماء! لعن الله الأسرتين
لقد حولاني إلى طعام للدود - لقد انتهيت ... نهاية طيبة ...
لعنهما الله. (يخرج موكوشيو وبنفوليو.)
روميو :
أما كان هذا النبيل الشريف - قريب الأمير الحميم (100)
وخلي الوفي - يدافع عن سمعتي حين أرداه جرح عميق؟
لقد سبني ذلك المتفاخر - تيبالت - صهري من ساعة واحدة،
ولكن حسنك يا حلوتي ... أصاب الفؤاد بلين الأنوثة (105)
وفي سيف طبعي الغشمشم ألقى النعومة! (يدخل بنفوليو.)
بنفوليو :
مات مركوشيو الشجاع!
روحه ذات الشهامة ... قد تسامت للسحاب
وغدت تحتقر الأرض ... ردحا قبل الأوان!
روميو :
المقادير التي ألقت على اليوم ظلالا من سواد (110)
كيف تعفي قابل الأيام؟
صفحة الأحزان لن تطوى سوى بعد زمن! (يدخل تيبالت.)
بنفوليو :
تيبالت عاد ثائرا مغاضبا!
روميو :
مزهوا بالنصر ومركوشيو مقتول؟
عودي للملأ الأعلى يا آيات الرحمة
ولأتبع صوت الغضب القادم من أعماق النار بعين ملتهبة (115)
اسمع يا تيبالت! إني لأرد لك الكلمة -
إذ أنت «الوغد» وليس أنا! ما زالت روح صديقي مركوشيو
فوق رءوس القوم ترفرف
تبغي أن تصحب روحك في رحلتها
لا بد إذن أن تذهب أو أذهب أو يذهب كل منا معه! (120)
تيبالت :
يا أيها الغلام يا مسكين! قد كنت صاحبه هنا
ولسوف تدركه هناك!
روميو :
هذا سيحكم بيننا! (يتقاتلان، يسقط تيبالت.)
بنفوليو :
اهرب يا روميو ... اهرب!
الناس اجتمعت لترى تيبالت المقتول!
ولماذا تقف هنا مذعورا؟ الحاكم لا شك سيصدر حكم الإعدام (125)
إذا قبض عليك. اهرب في الحال ... اهرب!
روميو :
أبله يلهو به القدر!
بنفوليو :
فيم الانتظار هيا ... (روميو يخرج.) (يدخل حشد من المواطنين وضباط الدورية.)
الضابط :
أي طريق سلك القاتل؛ قاتل مركوشيو؟
أنا أعني تيبالت القاتل ... أي طريق سلكه؟
بنفوليو :
هو ذاك الراقد بين يديك!
الضابط :
انهض يا سيد وتعال معي (130)
باسم الحاكم أتهمك لا تعص الأمر! (يدخل الأمير ومعه حاشيته، ومونتاجيو وكابيوليت وزوجتاهما وآخرون.)
الأمير :
من أشعل هذا الشغب من الأشرار أجيبوني؟
بنفوليو :
سأقص عليك معالي الوالي
كل تفاصيل الموقعة المؤسفة وأحزان المأساة!
تيبالت الراقد بين يديكم قتلته يدا روميو اليافع (135)
بعد أن اغتال قريبكمو مركوشيو الشهم!
زوجة كابيوليت :
آه يا تيبالت ابن أخي! آه يا ابن العم!
أواه أمير الدولة! يا زوجي! أرأيت دم الأهل المهراق؟
أواه أمير الدولة إنك تأبى الظلم!
فلتقتص لسفك دمانا بدم من أسرة مونتاجيو (140)
آه يا ابن العم! آه يا ابن العم!
الأمير :
قل يا بنفوليو من بدأ المعركة الدامية هنا؟
بنفوليو :
تيبالت الملقى بين يديكم ... من مات على يد روميو!
حدثه روميو بحديث المنطق والعقل
ورجاه ألا ينسى أن خلافهما تافه، (145)
واحتج بأنك تستاء إلى أقصى حد من كل شجار ينشب،
وتوخى فيما قال الرقة وهدوء المظهر بل خر ليركع
وهو يناشده أن يجنح للسلم!
لكن الغاضب ذا الطبع الفائر تيبالت
لم يسمع بل هجم بسيف نفاذ يقصد صدر المغوار! (150)
لم يك مركوشيو أدنى منه حماسا أو ثورة
بل رد الضرب بضرب والطعن بألوان طعان
وبثقة كمي ذي جلد كان يزيح الموت البارد بيد
ويعيد الموت إليه بالأخرى، ومهارة تيبالت ترده!
أما روميو فهو ينادي بل يصرخ «يكفي يا أصحاب! افترقوا» (155)
ويمد ذراعا ماضية أسرع مما قال لسانه
مندفعا بينهما أملا في كبح جماح السيفين الفتاكين!
وانتهز الفرصة تيبالت فأسرع من تحت ذراعه
ليغافل مركوشيو المقدام ويطعنه طعنته القاتلة ويهرب، (160)
لكن القاتل يرجع بعد قليل ليواجه روميو
وهنا فكر روميو في الثأر لمقتل مركوشيو
فالتحما في لمح البرق! إذ قبل بلوغي السيف
لأفصل بينهما يقتل تيبالت الصنديد
ويهرب روميو عند وقوعه. (165)
هذا هو عين الصدق وإلا قدمت حياتي ثمنا.
زوجة كابيوليت :
هذا يربطه النسب بأسرة مونتاجيو
والحب يؤدي لتعصب! ولذلك يكذب!
قد شارك نحو العشرين بتلك المعركة السوداء
لكن ما اسطاعوا إلا قتل فتى واحد. (170)
إني أرجو أن تحكم بالعدل أمير الدولة!
لا بد من الإعدام لروميو قاتل تيبالت!
الأمير :
إن يك روميو قاتله فهو كذلك قاتل مركوشيو!
من يتحمل دين دماه الغالية إذن؟
مونتاجيو :
لا يتحملها روميو يا حاكمنا إذ كان لمركوشيو خلا! (175)
أما ما أخطأ فيه من قتل القاتل فهو قصاص مشروع!
الأمير :
وعقابا للخطأ المذكور أمرنا أن ينفى فورا
إن مشاعركم قد مستني أنا أيضا
إذ إن دماء قريبي سفكت في تلك الأحداث الفظة (180)
وسأثقل كاهلكم بعقاب يتمثل في دفع غرامة
كي يندم كل منكم بل كي يأسى لفقيدي!
سأصم الأذن لأي مناشدة أو أعذار
لن تفلح عبرات أو آيات رجاء في مسح الأوزار
فاجتنبوها وليخرج روميو فورا وبلا إبطاء (185)
أما إن ظل ببلدتنا فقراري هو إهدار دمه
فليحمل هذا الجثمان ويدفن، ولينفذ أمري في الحال.
لا تأخذكم بالقاتل رحمة ... من يعفو عن الجاني جان مثله! (يخرجون.)
المشهد الثاني (تدخل جوليت وحدها.)
جوليت :
هيا اركضي خيل الزمان! وبالحوافر التي كالنار أسرعي
لمنزل الشمس البعيد! إذ يلهب الظهور بالسياط سائق همام
يحثكن نحو الغرب كي تأتين فورا بالمساء ذي الغمام
4
أسبل إذن أستارك الدكناء يا ليل الغرام (5)
حتى ينام كل عاذل أو شارد حيران
وكي أضم روميو بين أحضاني هنا
فلا ترانا عين إنسان ولا يغتابنا لسان
شعائر الغرام لا تحتاج في أدائها إلا لأنوار الجمال
أما إذا كان الهوى أعمى فإن الليل خير ما يناسب الوصال
هيا إذن يا أيها الليل الرزين (10)
يا ذا العباءة التي تلف بالسواد حكمة السنين
قل كيف أخسر المباراة التي ربحتها
ما بين عذراء وبكر طاهرين!
واحجب دما في وجنتي يدف كالصقر السجين
بوشاحك الأسود حتى يستمد فؤادي الوجل الشجاعة والأمان (15)
ويرى العفاف الغر في ضم الأحبة والحنان
يا أيها الليل تعال ويا روميو إليا
كي يشرق النهار وسط الليل وضاح المحيا
إذ سوف تسطع فوق أجنحة الظلام
أصفى بياضا من ثلوج رقشت ريش غراب
أقبل إذن يا أسمر الجبهة يا ليلي ويا ولهان يا غض الإهاب (20)
فلتعطني روميو حبيبي! أما إذا متنا فخذه واصطنع
منه نجيمات صغارا كي نرى
وجه السماء وقد تجلى وازدهى
والناس عافت بهرج الشمس وباتت تعشق الليل سهارى
5 (25)
إني اشتريت اليوم قصرا من غرام ليس في يدي
بل واشتراني اليوم من لم يرتشف من متعتي
ما أثقل الساعات عندي
لكأنها ليلة عيد! وكأنني طفل سعيد
لا يستطيع الصبر إذ يشتاق أن يفرح بالثوب الجديد! (30)
ها قد أتت تلك المربية! (تدخل ومعها سلم من الحبال.)
لا شك عندها من الأنباء ما يسرني! إذ ما على اللسان إلا
أن يردد اسم روميو كي يجاري في بلاغته السماء
قولي إذن يا دادتي هل عندك الأخبار؟ ماذا في يدك؟
هل ذاك سلم الحبال؟ السلم الذي يريده روميو؟
المربية :
نعم نعم ... سلم الحبال. (35) (تلقي الحبال على الأرض.)
جوليت :
يا ويلي ما الأخبار؟ لم تعصرين يديك؟
المربية :
وا أسفاه! لقد مات ... مات ... مات!
قد انتهينا يا فتاتي ... وانتهينا.
يا لليوم الأسود! لقد مضى ... قتل ... مات! (40)
جوليت :
أتستطيع السماء أن تضمر كل هذا الحقد؟
المربية :
روميو يستطيع ... وإن لم تستطع السماء! روميو! روميو!
من كان يتصور؟ روميو!
جوليت :
أي شيطان أصبحت حتى تعذبيني هكذا؟
إنه العذاب الذي يزأر في الدرك الأسفل من النار!
هل انتحر روميو؟ لو قلت «نعم»
6 (45)
سترين أن السم الكامن في هذه الكلمة أشد فتكا
من نظرة الأفعوان المهلكة
7
لسوف أنتهي إذا نطقت بهذه الكلمة
أو كانت عيناه قد أغلقتا إلى الأبد فأجبتني بهذه الكلمة
إذا كان قد قتل فقولي «نعم»، وإن كان حيا فقولي «لا» (50)
فهذه الألفاظ الصغيرة تتحكم في سعادتي وشقائي.
المربية :
إني رأيت الجرح ... رأيته بعيني هاتين (نجانا الله من المهالك) هنا على صدره العريض
جثة مسكينة! جثة مسكينة! جثة مسكينة دامية!
شاحب ... شاحب في لون الرماد وملطخ بالدم (55)
بل يكسوه الدم البارد فوقعت مغشيا علي.
جوليت :
انفطر يا قلب! انفطر أيها القلب المفلس فورا
وادخلي السجن يا عيوني! ودعي الحرية إلى الأبد!
أيها الجسد! أيها التراب الحقير! تقبل التراب والخمود
وليحملك مع روميو نعش واحد ثقيل! (60)
المربية :
أواه يا تيبالت! تيبالت يا أفضل أصدقائي
أيها المهذب ... أيها الأمين الكريم!
ليتني ما عشت حتى أراك ميتا!
جوليت :
ما هذه العاصفة التي تهب دون رحمة؟ (65)
هل قتل روميو ؟ هل مات تيبالت؟
ابن عمي العزيز وزوجي الحبيب؟
انفخوا في الصور إذن ليعلن هلاك الجميع
فلم يعد يحيا أحد بعد أن مات هذان!
المربية :
لقد مات تيبالت وحكم على روميو بالنفي.
روميو هو الذي قتله وصدر الحكم بنفيه. (70)
جوليت :
يا لله! هل سفكت يد روميو دم تيبالت؟
المربية :
نعم ... سفكته ويا للأسف! سفكته!
جوليت :
يا قلبا كالأفعى يتخفى في وجه كالزهر الأزهر!
8
يا أجمل كهف يسكنه تنين أكبر!
يا طاغية ذا حسن وملاكا شيطاني الجوهر! (75)
أغرابا في ريش حمام ! يا حملا يخفي جوع الذئب!
يا معدن خبث في أقدس مظهر!
ما أعجب ما يتناقض فيك المظهر والمخبر!
قديس ملعون ... وغد وشريف ... خير هو شر!
ماذا ستكون جهنم إن كنا في الفردوس الفاني (80)
نشهد في ذاك الجسم الباهر روح الشيطان؟
هل ثم كتاب يتضمن نصا من بطلان
9
ويحليه غلاف ذو حسن فتان؟
بل كيف يعيش خداع رث في قصر زاهي البنيان؟
المربية :
لا تثقي ولا تأمني للرجال فلا شرف لهم ... (85)
كلهم كذابون خائنون خداعون! أين خادمي؟
أحضر قليلا من ماء الحياة ... فهذه الأحزان والآلام
تضيف أعواما إلى عمري! فليصحب روميو العار!
جوليت :
قطع الله لسانك! لم يولد روميو للعار
10 (90)
والعار على العار إذا مس جبينه
بل هو عرش يتبوأ فيه الشرف التاج
ملكا أوحد للأرض جميعا
ما أحقرني إذ لمته! (95)
المربية :
أفلست تلومين يدا قتلت تيبالت ابن العم؟
جوليت :
بل كيف ألوم إذن زوجي؟ آه يا زوجي المسكين!
من سيعيد إليك اسم الشرف صحيحا إن كنت أنا قد قطعته -
وأنا لم يمض على عقد قراني إلا ساعات؟!
لكن لم يا وغد قتلت ابن العم؟ (100)
كان الوغد ابن العم سيقتل زوجي!
فلتعد العبرات الحمقاء إذن لمنابعها الأولى
تلك القطرات هي الجزية ندفعها للحزن
لكنا أخطأنا اليوم وندفعها للفرح! (105)
زوجي حي وابن العم أراد له الموت
وابن العم قضى ... من كان سيقتل زوجي!
في ذاك جميعا تسرية وعزاء ... وإذن لم أبكي؟
قد فهت بكلمات قتلتني ... أسوأ من مقتل تيبالت
كم أتمنى أن أنساها
لكن ما أعجب ما تنخر في ذاكرتي مثل ذنوب ملعونة (110)
تنخر في أذهان من ارتكبوها: «تيبالت قتيل وحبيبي روميو في المنفى» «المنفى» لفظ مفرد ... يقتل عشرة آلاف من معدن تيبالت!
أفما يكفي أن أحزن لوفاة ابن العم؟ (115)
لكن إن كان الحزن المر - كما يحكي المثل - يحب الصحبة
ويصر على رفقة أحزان أخرى مثله
فلماذا لم تصحب نعي ابن العم
أنباء وفاة أبي أو أمي
حتى أبكي فقدهما طبقا لأصول النعي المتبعة؟ (120)
لكن هجومك بعبارة «في المنفى» بعد وفاة ابن العم
11
فاجأني واغتال الأب والأم وتيبالت وجوليت وروميو
الكل قضى والكل مضى إذ أصبح «روميو في المنفى»
تلك الكلمة تحمل موتا لا حد له ... لا غاية
هيهات لنا أن نسبر أغواره (125)
أن نعرب عن ذاك الحزن ونكشف أسراره
12
أرأيت أبي أو أمي يا داده؟
المربية :
إنهما يبكيان وينوحان على جثمان تيبالت.
أتريدين اللحاق بهما؟ هيا ... سأدلك على الطريق.
جوليت :
هل يغسلان جراحه بالدر من دمع المآق؟ (130)
إن جف دمعهما سأبكي نفي روميو والفراق!
هيا احملي تلك الحبال من هنا
مسكينة يا من خدعت كما خدعت أنا
إذ قد مضى روميو إلى المنفى وأبقى سرنا
قد كان يعتزم الصعود عليك كي يغشى فراشا لي أثير
لكنني سأموت أرملة وعذراء الضمير (135)
هيا مربيتي إذن - ولتصحبيني يا حبال إلى فراش زفافنا
إذ سوف يأتي الموت لا روميو
ليقطف زهرة العذراء عندي ها هنا!
المربية :
أسرعي إلى غرفتك! سأحضر لك روميو
حتى يسري عنك وأنا أعرف أين يكون!
اسمعي! سوف يأتي إليك روميو هنا بالليل! (140)
سأذهب إليه حيث يختبئ في صومعة القس لورنس.
جوليت :
ليتك تجدينه! وقدمي هذا الخاتم إلى فارسي المخلص
واطلبي منه أن يأتي ليودعني الوداع الأخير. (تخرجان.)
المشهد الثالث (صومعة القس لورنس.) (يدخل القس.)
القس لورنس :
أقبل يا روميو أقبل!
يا خائف يا من تلقي في القلب الرعب
13
من يهوى الألم سجاياه
واقترن بكارثة حياة. (يدخل روميو.)
روميو :
قل لي يا أبت الصالح ما الأنباء؟ بم حكم أمير الدولة؟
ما ذاك الحزن الطامح في أن يتعرف بي ويصافحني
14 (5)
وأنا لا أعرفه بعد؟
القس لورنس :
إنك تعرف هذا الصاحب يا ولدي الغالي خير المعرفة وتألف
طلعته الجهمة! إني أحمل لك ما حكم به الحاكم.
روميو :
أتراه أخف من الإعدام؟
القس لورنس :
فاهت شفتاه بحكم ألطف
15 (10)
لم يحكم بالموت على الجسد ولكن بالنفي فقط!
روميو :
بالنفي تقول؟ «الموت» إذن أرحم!
فالنفي مخيف الطلعة ذو هول أكبر
من هول الموت! لا تقل النفي إذن!
القس لورنس :
قد صدر الحكم بنفيك من فيرونا فاصبر (15)
الدنيا واسعة ورحيبة.
روميو :
لا توجد دنيا إلا داخل أسوار مدينتنا
أما خارجها فعذاب المطهر ولهيب جهنم
النفي إذن نفي من هذا العالم - والنفي من العالم موت!
وإذن فالنفي هو الموت ولكن يحمل الاسم الخاطئ (20)
فإذا أطلقت على الموت اسم المنفى
كنت كمن يقطع رأسي بسلاح ذهبي
أو من يبتسم لضربته الفتاكة!
القس لورنس :
يا لخطيبتك المهلكة الكبرى! بل يا للنكران الفظ!
قانون البلد يعاقب جرمك بالإعدام! لكن أمير البلد الطيب (25)
أبدى الرحمة والشفقة بل عطل تطبيق القانون
واستبدل بالموت الأسود حكم النفي.
ما أثمن تلك الرحمة! حتى إن لم تبصرها!
روميو :
ذاك عذاب لا رحمة! فالجنة في فيرونا
حيث أرى جوليت! إن القط أو الكلب أو الفأر (30)
وإن كان ضئيلا بل أتفه مخلوقات الله
تحيا في الجنة إذ تقدر أن تبصر جوليت
لكن روميو لا يقدر! وذباب الجيفة
يتمتع بجدارة نفس وأصالة
وبمنزلة أشرف من محتد روميو؛ إذ يقدر أن يلمس (35)
تلك المعجزة البيضاء ... يد فاتنتي جوليت
أو أن يختلس الشهد الخالد من شفتيها
وهما في طهر عذري وصفاء طوية
تحمران من الخجل كأن القبلة بين الشفتين خطية
16
لكن روميو لا يقدر! إذ هو يحيا في المنفى (40)
كيف تسنى لذباب ذلك وعلى روميو أن يهرب منه؟
إنهمو أحرار وأنا منفي
أوما زلت على إنكارك أن النفي هو الموت؟
أوما تملك سما فتاكا أو سكينا حادة
أو آلة قتل ناجزة مهما كان تواضعها (45)
حتى تقتلني بحديث «المنفى»؟ المنفى؟
اسمع يا قسيس! «المنفى » لفظ يستخدمه الملعونون
في نار جهنم! من يسمعها يسمع أصداء عواء
كيف تأتى يا رجل الدين الروحاني
يا من تسمع ما نعترف به كي تمسح عنا الأوزار
بل يا من تزعم أنك بعد صديقي (50)
أن تجلدني بسياط من كلمة «منفى»؟
القس لورنس :
يا أبله يا مجنون اسمعني لحظة!
روميو :
ستعود إلى ذكر المنفى!
القس لورنس :
سأقدم لك درعا تحمي من تلك الكلمة
ترياق المحن السائغ: جرعة فلسفة (55)
لتسري عنك برغم «المنفى»
روميو : «المنفى» ثانية؟ سحقا للفلسفة إذن!
17
هل تقدر فلسفتك أن تخلق جوليت جديدة
أو أن تنقل بلدا من موقعه أو تلغي حكما لأمير؟
ما دامت تعجز عن ذلك فهي بلا نفع وكفاك حديثا عنها (60)
القس لورنس :
يبدو أن المجنون يعيش بلا آذان.
روميو :
كيف تكون له آذان والعاقل يحيا دون عيون؟
القس لورنس :
اسمح لي بمناقشة الأمر معك.
روميو :
كيف تناقش ما لا تشعر به؟
لو كنت - كما هو حالي - شابا يعشق جوليت (65)
وقتلت فتى يدعى تيبالت بعيد زواجك منها
لو كنت، كما هو حالي، ولهانا منفيا من بلده
لغدا من حقك أن تتكلم بل أن تنزع شعرك
أن ترقد فوق الأرض كما أفعل
لتحدد حجم القبر المنشود. (70) (تدخل المربية في الخلف وتطرق الباب.)
18
القس لورنس :
انهض يا روميو! أسمع طرقا! أرجو أن تختبئ هنا!
روميو :
لا مخبأ لي إلا إن غدت الزفرات الصادرة عن القلب المكلوم
ضبابا يحجبني عن أبصار الرقباء! (يعود الطرق.)
القس لورنس :
هل تسمع هذا الطرق؟ - من بالباب؟ - انهض يا روميو!
أنا أخشى القبض عليك، اصبر لحظة! قف يا روميو! (75) (يعلو صوت الطرق.)
ادخل مكتبتي - أنا قادم! - ذاك قضاء الله
ما أحمقه من مأفون! أنا قادم ... قادم! (صوت الطرق)
من صاحب ذاك الطرق العالي؟ من أرسلك هنا؟ ماذا تبغي؟
المربية (من خارج المسرح) :
دعني أدخل حتى تعرف ما أبغي
أنا مرسال من جوليت. (تدخل المربية.)
القس لورنس :
أهلا بك! (80) (يفتح مزلاج الباب.) (تدخل المربية.)
المربية :
أيها القس المبارك! أخبرني أيها القس المبارك!
أين زوج سيدتي ؟ أين روميو؟
القس لورنس :
يرقد فوق الأرض هناك ... تسكره عبراته!
المربية :
إذن فهو مثل سيدتي، في مثل حالها تماما
ما أعجب ما يشتركان في الإحساس بالألم! (85)
وكم أرثي لهما في هذه المحنة! إنها ترقد مثله
تبكي وتنهنه، تنهنه وتبكي!
انهض يا سيدي! قف تصبح رجلا
من أجل جوليت. من أجلها انهض وانتصب!
لماذا تقع في هذه الهوة العميقة من الآهات؟ (90)
روميو :
أيتها المربية! (ينهض)
المربية :
أواه يا سيدي! الموت نهاية كل شيء.
روميو :
هل كان حديثك عن جوليت؟ قولي ما حال فتاتي؟
أتظن بأني من أعتى القتلة
إذ لوثت سعادتنا في المهد (95)
بدماء قريب لا تبعد عن دمها نفسه؟
أين وما أحوال حبيبة قلبي؟ ما قول قرينتي السرية
في ذاك الحب الضائع؟
المربية :
إنها لا تقول شيئا يا سيدي ... بل تبكي وتبكي
تارة تقع على سريرها ثم تهب فزعة (100)
وتنادي تيبالت، ثم تنادي على روميو
ثم تقع على السرير ثانيا.
روميو :
وكأن اسمي طلق ناري أحكم تسديده
فقضى في الحال عليها بعد أن امتدت يد صاحب ذاك
الاسم الملعونة فاغتالت تيبالت. أخبرني يا قس وقل لي (105)
في أي مكان مذموم من جسدي يسكن ذاك الاسم؟
أخبرني حتى أقطع مسكنه الممقوت! (يحاول أن يطعن نفسه ولكن المربية تختطف الخنجر من يده.)
القس لورنس :
ارفع يد يأسك! هل أنت رجل؟
شكلك يشهد لك! لكن دموعك مثل دموع المرأة
وفعالك وحشية ... توحي بالغضب المحموم لوحش ما! (110)
امرأة ذات دمامة ... في رجل زانته وسامة ...
يجمع بينهما وحش مقبوح الهامة!
إنك تدهشني! أقسمت بطائفتي القدسية
إني كنت أظن طباعك أهدأ أو أعقل! (115)
أتراك قتلت تيبالت؟ وتود لذلك أن تقتل نفسك؟
وبهذا تقتل زوجتك ومن تحيا بحياتك؟
هل تبغي أن تنتحر لتنزل في روحك لعنة؟
ولماذا تلعن ميلادك وتسب المعمورة والخضراء؟
19
اعلم أن المولد وسماء الكون وأرضه (120)
تتلاقى في نفسك: إن تقتل نفسك ضاعت منك!
تبا لك! أتجلل صورتك وحبك وذكاءك بالعار
كمراب يملك مالا جما لكن لا يستثمر أيا منه
في أوجه الاستثمار الحقة!
إن تستثمرها فلسوف تزيد جمالا وغراما وذكاء! (125)
مخلوق في أحسن تقويم لكن تمثال من شمع
منحرف عن طبع الرجل المقدام!
أما ذاك الحب الغالي فستقتله حتما! أولم تقسم أن تحفظه
دوما ثم حنثت به حنثا أجوف؟ (130)
وذكاؤك، زينة صورتك وحبك،
قد شاه بما تفعل في صورتك وحبك
مثل البارود بصندوق الجندي الخائب
20
هبت فيه النار نتيجة جهلك
فانفجر سلاحك ليمزق أوصالك!
يا عجبا لك! انهض يا رجل أقول! فحبيبة قلبك حية (135)
أوما كنت ستقتل نفسك من أجل هواها الغالي؟
في هذا ما يشرح صدرك. أما تيبالت فكان يحاول قتلك
لكنك بادرت بقتله. في هذا ما يشرح صدرك. (140)
أما القانون فكان يهددك بحكم الإعدام ولكن أبدى العطف
وخففه للنفي. في هذا ما يشرح صدرك.
حشد من نعم حط على ظهرك
قد جاء السعد بأبهى الحلل ليخطب ودك
لكنك تبدو مثل فتاة عابسة سيئة الطبع
إذ تتجهم وتمط الشفتين لسعدك وغرامك.
خذ حذرك فأولئك يلقون الموت وهم تعساء (145)
هيا فلتذهب لحبيبتك كما قررنا
اصعد للغرفة لتسري عنها
لكن لا تمكث حتى يأتي الحراس لتغيير النوبة
كي لا تمنع من ترك البلدة والسفر إلى منفاك
ولسوف تظل به حتى تأتي فرصة إعلان زواجك (150)
والتوفيق الكامل بين أحبائك من أبناء البيتين
ولطلب العفو من الحاكم كي ندعوك لترجع
بهناء أكبر آلاف المرات
من أحزان رحيلك عنا! انطلقي أنت الآن إذن يا داده!
هلا أبلغت سلامي للسيدة الحلوة؟ وطلبت إليها (155)
أن تقنع أهل المنزل بالنوم الباكر؟
فالحزن الرازح يثقل أجفان الإنسان.
روميو قادم!
المربية :
آه يا ربي! ليتني أظل هنا طول الليل
لأستمع إلى هذه الآراء الرائعة. آه ما أجمل العلم! (160)
سيدي! سأقول لسيدتي إنك قادم!
روميو :
قولي لها أن تستعد لكي تلوم حبيبها وتعاتبه. (تتجه المربية للخروج ثم تعود من جديد.)
المربية :
تفضل يا سيدي! خاتم أمرتني أن أعطيه إليك
أسرع أسرع! لقد تأخرنا كثيرا.
روميو :
كم أحيا هذا الخاتم آمالي! (165) (تخرج المربية.)
القس لورنس :
هيا انطلق! تصبح على خير إذن! وإليك تلخيص لحالك:
لا بد من ترك المدينة قبل تغيير الحرس
أما إذا طلع النهار عليك فالجأ للتخفي وانطلق!
وعليك أن تبقى ببلدة «مانتوا»
أما أنا فلسوف أطلب خادمك ... ولسوف أرسله إليك (170)
ما بين آونة وأخرى ... ببشائر الخير الذي يجري هنا
والآن أعطني يدك ... إنا تأخرنا ... وداعا ... عم مساء!
روميو :
لولا أني أسمع دعوة فرح فوق الأفراح
لغدا حزني لفراقك ترح الأتراح! وداعا! (175) (يخرجان.)
المشهد الرابع (غرفة في منزل أسرة كابيوليت.) (يدخل كابيوليت، وزوجته، وباريس.)
كابيوليت :
إن الأحداث المؤسفة يا سيدي
قد شغلتنا عن أخذ رأي ابنتنا
فأنت تعرف أنها كانت تحب قريبها تيبالت حبا جما
وكذاك أنا ... هه! الموت نهاية كل حي!
لقد تأخرنا ولن تترك فراشها هذه الليلة (5)
وأقسم أنه لولا وجودك معي
لكنت قد أويت أنا إلى الفراش من ساعة كاملة!
باريس :
لا يبيح لي الحزن أن أفكر في الخطبة الآن!
تصبحين على خير يا سيدتي وأبلغي تحيتي لابنتك.
زوجة كابيوليت :
سأبلغها ... وسوف أعرف رأيها في الصباح (10)
أما الليلة فإن حزنها يغلق فمها. (يتجه باريس إلى باب الخروج ولكن كابيوليت يستدعيه.)
كابيوليت :
باريس! سأتقدم إليك يا سيدي بعرض جريء!
فأنا واثق من حب ابنتي لك ... وأعتقد أنها
سوف تطيع آرائي في كل شيء، بل أنا متأكد من ذلك
أيتها الزوجة اذهبي إليها قبل أن تذهبي إلى فراشك (15)
واذكري لها أن ابني باريس يحبها.
واطلبي منها - انتبهي لي جيدا - الأربعاء القادم
ولكن مهلا! في أي يوم نحن؟
باريس :
الاثنين يا سيدي.
كابيوليت :
الاثنين! ها! ها! وإذن فالأربعاء أقرب مما ينبغي!
فليكن ذلك يوم الخميس القادم أخبريها (20)
أنها سوف تتزوج يوم الخميس من هذا اللورد النبيل!
أتستطيعين الاستعداد في هذا الوقت القصير؟
وما رأيك في هذه السرعة؟
لن نقيم حفلا كبيرا ... سندعو صديقا أو صديقين
فأنت تعرفين أنه لم يمر الكثير على مقتل تيبالت
فإذا أقمنا حفلا ضخما ... قال الناس إننا لم نحزن لوفاته (25)
وإذن فسوف ندعو نصف «دستة» من الأصدقاء
لا أكثر ولكن ما رأيك في يوم الخميس؟
باريس :
سيدي ... ليت غدا يوم الخميس؟
كابيوليت :
إذن تفضل أنت، مع السلامة ... موعدنا يوم الخميس (30)
واذهبي أنت إلى جوليت قبل أن تنامي
ولا بد ... أيتها الزوجة ... أن تجعليها مستعدة ليوم الزفاف
وداعا يا مولاي أضيئوا الردهة حتى غرفتي!
أنتم يا من هناك! هيا ... أمامي ... أمامي ...
أقسم أننا تأخرنا جدا ... ونستطيع بعد قليل
أن نقول إننا مبكرون جدا ... تصبحون على خير! (35) (يخرج الجميع.)
المشهد الخامس (يدخل روميو وجوليت من مكان مرتفع كأنما في النافذة.)
جوليت :
ماذا؟ أتعتزم الرحيل؟ لم يقترب بعد النهار!
قد كان ذاك صوت بلبل وليس قبرة
لكن أذنك التي تخاف كل صوت أخطأت!
بل إنه يغني كل ليلة على شجيرة الرمان
في آخر البستان
21
قد كان ذاك بلبلا وثق بما أقول يا حبيبي! (5)
روميو :
كانت بشيرة الصباح القبرة - لا ليس ذاك بلبلا!
هيا انظري حبيبتي: تلك الخيوط من نور النهار من غرامنا تغار
بل إنها قد طرزت أطراف مزن الشرق كي تفرق الأحبة!
ذابت شموع الليل واشرأب وجه الصبح بساما
22 (10)
على ذرا الجبال وسط مهمه الضباب
لا بد أن أنجو بنفسي أو أموت لو بقيت!
جوليت :
ذاك الضياء ليس من النهار! بل إنني لواثقة!
قل إنه شهاب أرسلته الشمس كي يضيء شعلتك
في ليلة كهذه وأنت ذاهب لمانتوا
23
فلتنتظر حتى يحين موعد الرحيل!
روميو :
فليقبضوا علي بل وليقتلونيه
فسوف أغدو راضيا ما دمت أنت راضية
وهكذا أقول هذا الضوء ليس عين الصبح
بل انعكاس شاحب لطلعة البدر المنير
ولا اللحون الخافقات في أرجاء قبة السماء
من فوق رأسينا غناء القبرة
إذ إن حبي للبقاء أقوى من إرادة الرحيل
أقبل إذن ومرحبا يا أيها الهلاك هذه إرادة الحبيب
روحي! نعود للحديث؟ لم يأت النهار بعد!
جوليت :
لا بل أتى! هيا ... لترحل من هنا ... توا!
أما الذي يشدو بألحان نشاز فهو قبرة
تستخرج الأنغام أنشازا قبيحة منفرة
24
ومن يقول إن لحنها فواصل مستعذبة
أقول إنها قد فصلت بيننا
25
ومن يقول إنها تبادلت مع الضفادع الكريهة العيون
أقول ليتها تبادلت بعض النقيق والغناء
إذ إن ذاك الصوت مفزع يشتت الأحبة
بل إنه الصوت الذي يطاردك ... كأنه اللحن الذي
تصحو على أنغامه في غداة ليلة الزفاف.
26
هيا إلى الرحيل فالضياء في السما في كل لحظة يزداد! (35)
روميو :
وكلما زاد الضياء زادت الأحزان ظلمة! (تدخل المربية على عجل.)
المربية :
سيدتي!
جوليت :
مربيتي؟
المربية :
خذي الحذر فوالدتك مقبلة إلى غرفتك
وقد طلع النهار! احترسي واحذري! (40) (تخرج.)
جوليت :
هيا إذن يا شرفتي!
فلتدخلي ضوء النهار ولتغادر الحياة منك!
روميو :
الوداع والوداع! قبلة لي ثم أهبط. (يهبط على السلم .)
جوليت :
أهكذا رحلت أيها الحبيب؟ يا سيدي وعاشقي وزوجي!
لا بد أن أعرف أخبارك! في كل يوم ... من كل ساعة
27 (45)
إذ الدقيقة التي تمر مثل أيام عديدة.
وذاك يعني أنني أكون قد بلغت من عمري عتيا
عندما ألقى حبيبي من جديد.
روميو (من تحت) :
إلى اللقاء!
ولن تمر فرصة سانحة
إلا وأهديت تحياتي إلى حبيبتي! (50)
جوليت :
أتظن أنا نلتقي في قابل الأيام؟
روميو :
لا شك في هذا لدي! وعندها ستصبح الأحزان ذكريات
ونستعيدها بألفاظ عذاب!
جوليت :
رباه كم أخشى وأستريب
كأنما وأنت تهبط الدرج (55)
تغوص بعد الموت في قبر غريب
لربما قد خانني البصر
أو أنك اكتسيت مسحة من الشحوب.
روميو :
ثقي بما أقول يا حبيبتي! فإنني أراك أيضا شاحبة
والسر أن الحزن يشرب من دمانا فالوداع والوداع!
28 (يخرج روميو.)
جوليت :
يا ربة الأقدار يروي الناس عنك شيمة التقلب! (60)
إن كنت قلبا فما عساك تفعلين بالذي ذاعت
فضيلة الإخلاص فيه للحبيب؟
تقلبي يا ربة الأقدار كي يحيا الأمل
في أن يعود دون أن يغيب! (تدخل زوجة كابيوليت على المستوى الأرضي.)
زوجة كابيوليت :
ابنتي؟ هل صحوت؟ (65)
جوليت :
من ينادي علي؟ إنها والدتي!
هل سهرت حتى هذا الوقت المتأخر؟
أم استيقظت في هذا الوقت المبكر؟
وما الذي يدعوها إلى المجيء هكذا على غير عادة؟ (تدخل جوليت على المستوى الأرضي.)
زوجة كابيوليت :
كيف حالك الآن يا جوليت؟
جوليت :
لست على ما يرام ... يا سيدتي!
زوجة كابيوليت :
ما زلت تبكين حزنا على ابن عمك؟
عجبا ! تريدين أن تخرجيه من قبره بدموعك؟ (70)
وإذا خرج - فهل ستردين إليه الحياة؟
مستحيل! وإذن ... كفى هذا كله ...
فإن الحزن المعتدل يدل على حب كبير
والحزن الشديد يدل على ضعف في التفكير.
جوليت :
دعيني أبكي عزيزا فقدته؟
زوجة كابيوليت :
أنت تبكين لإحساسك بالفقد لا لشعورك نحو الفقيد! (75)
جوليت :
ما دمت أحس فقده ... فلن أستطيع إلا البكاء دائما عليه!
زوجة كابيوليت :
فليكن يا فتاتي ... ولكنك لا تبكين لموته
قدر ما تبكين لأن قاتله الوغد ما زال حيا!
جوليت :
أي وغد يا سيدتي؟
زوجة كابيوليت :
ذلك الروميو - من غيره؟ (80)
جوليت (جانبا) :
شتان بينه وبين الأوغاد!
عفا الله عنه فلقد عفوت عنه من كل قلبي!
ومع ذلك فلم أحزن بسبب رجل مثلما حزنت بسببه!
زوجة كابيوليت :
ذلك لأن القاتل الغادر ما زال حيا.
جوليت :
نعم يا سيدتي ... لأنه بعيد عن متناول يدي (85)
ليتني أتولى بنفسي الانتقام لموت ابن عمي!
زوجة كابيوليت :
سوف ننتقم له ... لا تخافي وكفاك بكاء!
سوف أرسل رسالة إلى صديق لنا في «مانتوا»
حيث يقيم هذا المنفي الشريد
أطلب إليه أن يسقيه جرعة غريبة (90)
تجعله يرحل على الفور إلى صحبة «تيبالت»
وعندئذ ... أرجو أن تهنئي وتسعدي.
جوليت :
حقا! لن أرضى أبدا.
حتى أرى روميو هذا حتى أراه - ميتا -
فحزني على ابن عمي لم يعد يرضى بغير هذا! (95)
سيدتي ... إذا استطعت أن تجدي رسولا
يحمل السم إليه، فسوف أتولى إعداده أنا ...
بحيث ما إن يذوقه روميو ... حتى ينام في هدوء!
لكم يكره قلبي أن يسمع اسمه (100)
فلا يستطيع الذهاب إليه حتى أصب الحب
الذي كنت أحمله لابن عمي فوق جسد الذي قتله.
زوجة كابيوليت :
أعدي ذلك السم وسوف أحضر أنا الرسول
أما الآن يا فتاتي فلدي أنباء سارة لك!
جوليت :
ونحن في أمس الحاجة إلى هذا السرور؟ (105)
وما هي الأنباء ... لو سمحت سيادتك؟
زوجة كابيوليت :
تعلمين أن والدك حريص على سعادتك
ولذلك أراد أن يزيل عنك الحزن بمفاجأة سارة
في يوم قريب لم تكوني تتوقعينه
ولم أكن أحلم به! (110)
جوليت :
هذا من حظي السعيد يا سيدتي ... فأي يوم ذاك؟
زوجة كابيوليت :
إنه يا طفلتي ... في الصباح الباكر من الخميس القادم!
فإن الشاب الشهم ... المهذب النبيل ... الكونت باريس ...
سوف يصحبك إلى كنيسة القديس بطرس
ويسعد حين يجعلك عروسا هانئة! (115)
جوليت :
أقسم بكنيسة القديس بطرس ... والقديس بطرس أيضا
إنني لن أكون عروسا هانئة معه
لماذا هذه السرعة؟
هل أتزوج رجلا قبل أن يخطبني على الأقل؟
أرجوك يا سيدتي ... قولي لوالدي وسيدي ... (120)
إنني لن أتزوج الآن ... وإذا تزوجت يوما ما
فأقسم أنني سأتزوج روميو - رغم كراهيتي له -
وليس باريس! هذه هي الأنباء حقا!
زوجة كابيوليت :
ها قد أتى أبوك ... قولي له ذلك بنفسك
وسوف ترين كيف يتقبل هذا الكلام. (125) (يدخل كابيوليت والمربية.)
كابيوليت :
عند غروب الشمس الوهاجة
تذرف هذي الأرض دموع الأنداء رذاذا
لكن غروب ضياء ابن أخي
يجعل هذي الأمطار المنهمرة لا تتوقف!
عجبا لك من بنت ... نافورة؟ ما زال الدمع يسيل؟
ما زال المطر الهاطل مدرارا؟ إني لأرى (130)
في هذا الجسم الضامر بحرا ورياحا وسفينة!
عيناك هما البحر الزاخر بدموعك
يعلو بالمد ويهبط بالجزر! والجسد هو الفلك
الماخرة عباب البحر المالح! والزفرات رياح (135)
ما فتئت ثائرة بدموعك ودموعك ثائرة فيها!
إن لم تسكن فجأة ... فلسوف تحطم جسدا
تتقاذفه أيدي العاصفة هنا! ماذا فعلت زوجتي؟
هل أعلنت لها ما قررناه؟
زوجة كابيوليت :
أجل يا سيدي ولكنها لم توافق. وتشكرك (140)
ليت الحمقاء تتزوج قبرها.
كابيوليت :
مهلا مهلا! أريد أن أفهم أيتها الزوجة أريد أن أفهم
عجبا لها! لم توافق؟ ألم تقدم لنا الشكر؟
أليست فخورة. ألا تعتبر نفسها حسنة الحظ -
رغم حالها المؤسف - لأننا استطعنا أن نجعل من ذلك السيد النبيل عروسا لها؟ (145)
جوليت :
لست فخورة بهذا ومع ذلك فأنا ممتنة لكما!
فأنا لا أفخر بمن أكرهه.
لكنه إذا أراد مني أن أحبه ... فلا بد أن أشكره.
كابيوليت :
عجيب عجيب! يا للجدل الفارغ يا للسفسطة الجوفاء!
ما معنى هذا؟ «فخورة»! - و«أشكرك» - و«لا أشكرك» «لست فخورة» اسمعي أيتها (150)
المدللة الصغيرة! لا أريد شكرا منك ولا تفاخرا من أي نوع ...
وإنما أريد أن تستعدي بأرجلك الرشيقة ليوم الخميس القادم
إذ ستذهبين مع باريس إلى كنيسة القديس بطرس (155)
وإلا نقلتك إلى هناك على نقالة
اخرجي من هنا أيتها الجثة الباردة
يا خرقاء! يا ذات الوجه الأصفر!
زوجة كابيوليت :
تبا لك! تبا لك! هل جننت؟
جوليت :
أتوسل إليك يا أبي الكريم ... وها أنا ذا أركع لك!
اصبر واسمع مني كلمة واحدة. (تركع على الأرض.)
كابيوليت :
إنك تستحقين الشنق أيتها الخرقاء الصغيرة لهذا العصيان! (160)
هاك حكمي في الأمر؛ إما أن تذهبي إلى الكنيسة يوم الخميس
أو لا تري وجهي بعد الآن!
لا تتكلمي ... لا تجيبي لا تردي
فإن أصابعي تتحرق لخنقك! زوجتي ... كنا نظن أن الله قد تجلى
علينا حين رزقنا بطفلة وحيدة. (165)
ولكنني أرى الآن أنها - وحدها - أكثر مما ينبغي
بل إنها نقمة حلت بنا! ... اخرجي من هنا أيتها التافهة!
المربية :
فليباركها الله في سمائه!
لا حق لك يا سيدي في معاملتها هكذا!
كابيوليت :
ولماذا أيتها الحكيمة الحصيفة؟ اخرسي (170)
لا أريد أن أسمع حكمتك! قدميها لصديقاتك الثرثارات!
مع السلامة!
المربية :
لم أقصد شرا ...
كابيوليت : «تصبحين على خير» قلت لك!
المربية :
هل الكلام حرام؟
كابيوليت :
كفى أيتها الحمقاء الثرثارة!
اذهبي إلى صديقة وثرثري معها
فنحن لا نريد هذا الهراء.
زوجة كابيوليت :
إن ثورتك زادت عن الحد. (175)
كابيوليت :
أقسم أنني أكاد أجن! لم أكن أفكر
إلا في زواج هذه الفتاة! ليلا ونهارا
وصبحا ومساء، أثناء العمل وأثناء اللهو، وحدي أو مع
أصدقائي
لم يكن يشغلني سوى هذا! وحينما أجد شابا مهذبا
كريم المحتد، ثريا، حسن التربية، (180)
بل ومفعم - كما يقولون - بالخصال المشرفة -
كامل من كل الوجوه التي نحلم بها ... أجدها تتحول إلى بكاءة خرقاء تعسة!
دمية تنوح وتئن حين أقدم لها حظها السعيد
ولا تجيب إلا ب «لن أتزوج» «لا أستطيع أن أحب» (185) «ما زلت صغيرة»، «أتوسل إليك أن تسامحني» ... حقا ... سأسامحك إذا لم تتزوجي
ولكنني لن أسمح لك بالبقاء في منزلي، فاذهبي حيث تشائين
فكري في الأمر - فكري جيدا - فلست أمزح معك!
لقد اقترب يوم الخميس ... فعالجي الأمر بحكمة وتعقل (190)
فإن كنت ابنتي كان من حقي أن أمنحك لصديقي
وإن لم تكوني ابنتي فاذهبي في داهية -
تسولي في الطرقات أو موتي جوعا - فقسما بنفسي
لن أعترف بك أبدا ولن ترثي شيئا مما أملك
ثقي بهذا وتدبري موقفك ... فلن أحنث في قسمي. (195) (يخرج.)
جوليت :
أليس في السحاب رحمة تمس أعماق الحزن؟
أواه يا أمي الحنون! لا تطرحيني للعدم!
إن لم تؤجلي هذا الزواج فترة
شهرا على الأقل أو أسبوعا
فلتجعلي فراش عرسي الوثير (200)
في ذلك الضريح الحالك الذي يضم تيبالت.
زوجة كابيوليت :
بالله لا توجهي الكلام لي فلن أقول أي شيء
ولتفعلي ما شئت إنني انتهيت منك.
جوليت :
رباه لطفا بي ... مربيتي! كيف نحول دون ذلك الزواج؟
لدي زوج ما يزال فوق الأرض (205)
وعهدي الذي أقسمت أن أصونه ما زال في السماء
لا يستطيع ذاك العهد أن يعود ثانيا للأرض ما لم يتجه
زوجي إلى السماء يبعث به!
أرجوك سري عن فؤادي ... قدمي لي النصح والمشورة
ما أرفع السماء عن تدبير هذه المؤامرات
إزاء مخلوق ضعيف من عباد الله مثلي! (210)
ماذا تقولين إذن؟ أما لديك ما يسرني؟
بعض العزاء يا مربية!
المربية :
حقا! إليك ما يحل المشكلة:
روميو في المنفى، وأراهن بكل شيء أنه لن يجرؤ
على العودة للمطالبة بحقه فيك.
وإذا فعل فلا بد أن يكون ذلك سرا. (215)
وما دام الحال كذلك فأعتقد أن أفضل حل
هو أن تتزوجي الكونت باريس.
ما أروعه من سيد مهذب!
ليس روميو إن قورن به إلا سقط المتاع! (220)
إن عينه يا سيدتي خضراء وجميلة وبراقة
مثل عين العقاب! يا ويحي! يا ويحي!
أعتقد أنك موفقة في هذا الزواج الثاني وستسعدين به
فهو أفضل من الأول - وحتى إذا لم يكن كذلك
فإن زوجك الأول ميت، أو هو في عداد الأموات
ما دام يعيش ولا فائدة منه. (225)
جوليت :
أتقولين ذلك من قلبك؟
المربية :
ومن روحي أيضا أو فلتحل اللعنة عليهما معا!
جوليت :
آمين!
المربية :
ماذا قلت؟
جوليت :
إن مواساتك لي مواساة عجيبة ورائعة! (230)
اذهبي إلى والدتي وأخبريها أنني أغضبت والدي
ومن ثم خرجت إلى صومعة القس لورنس
كي أعترف له وأستغفر لذنبي.
المربية :
قطعا ... سأفعل ذلك ... وهذا تصرف حكيم. (تخرج المربية.)
جوليت :
يا للشمطاء الملعونة! يا للشيطانة ذات الشر العاتي (235)
أي الإثمين أشد وأنكى: تحريضي كي أحنث بالعهد
أم ذم قريني بلسان غناه مدائح
ودعاه فتى فوق الوصف ألوف المرات
بعدا لك يا ناصحتي! لن أطلعك على أسراري بعد اليوم (240)
وسأذهب للقسيس لأعرف إن كان لديه علاج
أما إن عجزت كل الأدوية ففي الموت شفاء
ولدي القوة لتناول ذاك الترياق. (تخرج.)
الفصل الرابع
المشهد الأول (فيرونا - صومعة القس لورنس.) (يدخل القس لورنس وباريس.)
القس لورنس :
يوم الخميس سيدي؟ ما أقصر المهلة!
باريس :
ذاك الذي يريده أبي العزيز كابيوليت
ولست راغبا في الانتظار كي أعارض العجلة!
القس لورنس :
لكنك قلت بأنك لا تعرف رأي فتاتك؟
هذا أسلوب غير سوي ... وأنا لا أرتاح له! (5)
باريس :
ما زالت تذرف مر الدمع على مقتل تيبالت
ولذلك لم تحن الفرصة لي كي أتكلم عن حبي!
إذ لا تبسم فينوس لبيت تهطل فيه العبرات!
أما والدها فيرى في الحزن الجارف خطرا أي خطر (10)
ولذلك قرر في حكمته أن يسرع بزواجي منها
كي يوقف طوفان الدمع الدفاق
فالحزن يهد النفس إذا لزمت عزلتها
ويزول إذا اختلطت بالناس
ها أنت عرفت إذن ما يدعو للعجلة. (15)
القس لورنس (جانبا) :
ليتني لا أعرف السبب الذي يدعو إلى الإبطاء!
ها هي الآن الفتاة قادمة! (تدخل جوليت.)
باريس :
ما أسعد اللقاء يا حبيبتي وزوجتي.
جوليت :
لربما يكون هذا حين أغدو زوجة!
باريس :
لا بد أن يكون هذا يا حبيبتي ... يوم الخميس القادم (20)
جوليت :
لا بد مما ليس منه بد!
القس لورنس :
نص ثبتت صحته!
باريس :
فهل أتيت للأب القدسي كي تعترفي؟
جوليت :
إجابتي هذا السؤال تعني الاعتراف لك!
باريس :
لا تنكري أمامه حبك لي!
جوليت :
بل أعترف أمامك بالحب له (25)
باريس :
وبحبك لي دون جدال!
جوليت :
إن أفعل ذلك زادت قيمة أقوالي وارتفعت
إذ تصدر في غيبتك وليس أمامك.
باريس :
مسكينة كم آذت الدموع وجهك الجميل!
جوليت :
لم تحرز الدموع نصرا بارزا بذلك (30)
فلم يكن جميلا قبل أن تنال منه!
باريس :
لقد ظلمته بهذه الألفاظ ظلما فاق ظلم دمعك!
جوليت :
إن كان الانتقاد صادقا فليس غيبة ولا نميمة
ولم أقل ما قلته إلا صراحة عن وجهي!
باريس :
وجهك ملك يميني ... وأنت تغتابينه! (35)
جوليت :
لربما كنت مصيبا ... فليس هذا وجهي الحقيقي!
إن لم يكن لديك الوقت حاليا يا أيها الأب المقدس
فربما استطعت أن أعود عند قداس المساء؟
1
القس لورنس :
بل لدي الوقت يا فتاتي المكتئبة
ولي رجاء - سيدي - أن نختلي لكي نصلي (40)
باريس :
لا قدر البارئ أن أزعج من يصلي!
والآن جوليت وداعا! يوم الخميس سوف أوقظك!
في ساعة مبكرة! ولتحفظي لي قبلتي المقدسة! (يخرج.)
جوليت :
أغلق علينا الباب ثم تعال كي تبكي معي
إذ لم يعد لي من رجاء أو دواء أو علاج
2 (45)
القس لورنس :
أواه يا جوليت إني قد أحطت بسر حزنك
بل إن بي ألما يحار الذهن في إدراك كنهه
فلقد سمعت بأنهم سيزوجونك ذلك الكونت الذي كان هنا
يوم الخميس وأنه لا يمكن التأجيل في الموعد!
جوليت :
لا تذكر ما تسمع يا قس وتغفل سبل الحيلولة دون وقوعه! (50)
فإذا عجزت حكمتك المثلى عن رد الشر
فعليك مؤازرة قراري
ولسوف أنفذه في الحال بهذا الخنجر!
3
قد ربط الله فؤادينا، وضممت على الحب يدينا، (55)
فإذا كانت تلك اليد - صاحبة العقد بروميو
ستوقع عقدا آخر ... أو كان القلب المخلص
يمكن أن يتمرد ويخون فينشد قلبا آخر ...
فسيقتل هذا الخنجر قلبي ويدي جميعا!
وإذن قدم لي من حنكة سنوات مديد العمر (60)
الرأي الصائب فورا أو فلسوف يؤدي
هذا السكين الدامي دور الحكم العادل
وسيفصل بين شديد الآلام وبيني
وسيحكم فيما لم تقدر قوة سنك وقواك
أن تصدر فيه الحكم الناطق بالحق.
لا تتباطأ في الرد فإني أشتاق الموت إذا
4
لم يتضمن ردك وصفا لدوائي.
القس لورنس :
مهلا يا بنتي فأنا ألمح خيط رجاء
يتطلب منا أن نتفانى في التنفيذ
بقدر فداحة ما نبغي أن نتلافى (70)
إن كان لديك صلابة عزم تجعل قتلك نفسك
أهون من تزويجك من باريس
فالأيسر أن تحتملي شيئا مثل الموت
حتى تتحاشي ذاك العار
يا من تقوين على لقيا الموت لكي تتفاديه (75)
فإذا واتتك الجرأة فسأعطيك علاجي.
جوليت :
أنقذني من باريس ... واطلب مني أن أقفز من أعلى الأسوار
بأية قلعة ... أو أن أمشي في طرق يغشاها قطاع طرق،
أو أن أختبئ بجحر للحيات! أو أن أربط بسلاسل
في قفص دباب تزأر! أو أحبس ليلا (80)
في بيت عظام الموتى الحافل بهياكلها المصطكة
وعظام السيقان النتنة وجماجمها الصفر بلا فك أسفل!
أو فاطلب مني أن أهبط في قبر حفر لتوه
كي أخفي نفسي في الكفن مع الميت! (85)
إني أرتعد إذا ذكرت هذي الأشياء أمامي
لكني سوف أقوم بها دون وجل ... بل دون تردد
كي أبقى دوما زوجا طاهرة لحبيبي الرائع!
القس لورنس :
يكفي ذلك! عودي للمنزل واصطنعي المرح وقولي
إنك وافقت على تزويجك من باريس. فغدا يكون الأربعاء! (90)
اقضي ليل الغد وحدك
لا تدعي داداتك تشاركك الغرفة
وخذي هذي القارورة ... فإذا حان نعاسك ودخلت فراشك
فعليك بشرب رحيق قطرته
كي يسري في دمك على الفور
بمزيج من برد وخدر (95)
فإذا بالنبض الظاهر يخفت ثم يقف:
لن تشهد أنفاس أو يشهد دفء بوجود حياة فيك
بل إن الورد على شفتيك وخديك سيذوي
ويصير رمادا أغبر! وستغلق نافذتا عينيك (100)
فكأن الموت أتى بغروب نهار العمر
وستفقد أعضاؤك طاقات الحركة
كي تصبح جامدة باردة متصلبة كالموتى! (105)
ولسوف تظلين على هذي الحال من الموت الزائف
يومين عدا عدة ساعات
ثم تفيقين كأنك كنت بنوم هانئ
فإذا قدم عروسك في الصبح لإيقاظك
سيراك هنالك ميتة فوق فراشك
وكما تقضي أعراف البلدة فستزدانين بأفخر أثوابك
ثم يسجونك في تابوتك عارية الوجه (110)
كي يمضوا بك نحو المقبرة الكبرى
مدفن أبناء الأسرة من أقدم أزمان البلدة
5
وسأطلع روميو في هذي الأثناء على الخطة
إذ سأخط إليه رسائل أخبره فيها بالموضوع
حتى يحضر ويجيء معي نرقب لحظة صحوك (115)
وسيمضي في نفس الليلة معك إلى منفاه
هذا التدبير كفيل بتلافي العار المحدق بك
إلا إن حلت بك نزوة قلق عارض
أو مسك خوف الأنثى الفطري
فتراخى إقدامك في تنفيذ الخطة (120)
جوليت :
هات الدواء هاته! حدث سواي عن المخاوف!
القس لورنس :
يكفي ذلك فانطلقي! وليقو العزم لديك
ويحالفك التوفيق! وسأرسل قسيسا فورا
برسائل مني لحبيبك روميو في منفاه.
جوليت :
فليهبني الحب قوة! وليكن في القوة العون المكين! (125)
فوداعا يا أبي يا أيها الغالي العزيز! (يخرجان.)
المشهد الثاني (بهو في منزل أسرة كابيوليت.) (يدخل كابيوليت وزوجته والمربية وبعض الخدم.)
كابيوليت :
وجه الدعوة لهؤلاء الضيوف الذين كتبت أسماؤهم هنا (يخرج الخادم.)
وأنت ... اذهب فأحضر لي عشرين طباخا ماهرا.
الخادم :
لن أحضر سوى الممتازين يا سيدي، فسوف أرى إن كانوا
يلحسون أصابعهم.
كابيوليت :
وكيف يكون ذلك اختبارا لهم؟ (5)
الخادم :
الأمر يسير يا سيدي، فمن لا يلحس أصابعه طباخ فاشل!
الثاني :
وإذن فلن أنتقي إلا من يلحسون أصابعهم.
كابيوليت :
هيا ... امض من هنا. (يخرج الخادم الثاني)
سوف ينقصنا الكثير من لوازم الحفل
هل ذهبت ابنتي إلى القس لورنس؟ (10)
المربية :
بالتأكيد.
كابيوليت :
جميل ... ربما أفادها بعض الشيء.
طفلة بلهاء مدللة وتركب رأسها! (تدخل جوليت.)
المربية :
ألا ترى كيف عادت بعد الاعتراف مسرورة مرحة!
كابيوليت :
كيف أنت الآن أيتها العنيدة! أين كنت تتسكعين؟ (15)
جوليت :
كنت أتعلم كيف أندم على خطيئة عصيان والدي
ومعارضة أوامره ... ولقد أمرني لورنس المبارك
أن أجثو على قدميك ... وأطلب عفوك. (تركع)
أتوسل إليك أن تغفر لي (20)
إنني من الآن طوع يمينك!
كابيوليت :
أرسلوا إلى الكونت! اذهب أنت وأخبره بهذا
سأربط بينكما برباط الزواج صباح الغد!
جوليت :
إني قابلت هذا اللورد الشاب في صومعة القس لورنس
وعبرت له عن حبي بصورة معقولة (25)
دون أن أتخطى حدود الأدب.
كابيوليت :
جميل! إنني مسرور لذلك! هذا رائع قفي قفي!
هذا هو الواجب، أريد أن أرى الكونت
هيا ... اذهب أنت - قلت لك - أحضره هنا
أقسم أمام الله أن هذا القس الروحاني المقدس (30)
أقصد أن بلدنا كلها مدينة له بالكثير.
جوليت :
مربيتي أرجوك أن تأتي معي إلى غرفتي؟
أريدك أن تساعديني في اختيار أدوات الزينة
التي ترينها مناسبة لحفل الغد.
زوجة كابيوليت :
لا! انتظري حتى يوم الخميس ... لدينا وقت كاف. (35)
كابيوليت :
اذهبي معها أيتها المربية ... هيا ... سوف تذهب إلى الكنيسة غدا. (تخرج جوليت والمربية.)
زوجة كابيوليت :
سوف ينقصنا الكثير من الأطعمة وما إلى ذلك
وقد اقترب الليل
6
كابيوليت :
لا عليك ...
سوف أتجول في القصر قليلا فيكتمل كل شيء ...
ولا بد أن تذهبي إلى جوليت لمساعدتها في وضع زينتها (40)
أما أنا فلن أنام الليلة ولا أريد أن يزعجني أحد
سأكون ربة المنزل هذه المرة! أنت يا من هناك
لم يعد هناك أحد! فليكن! سأتجه بنفسي
إلى الكونت باريس، حتى أجعله يستعد للحفلة غدا
ما أخف قلبي الليلة وأسعده (45)
بعد أن صلح حال تلك الفتاة الطائشة! (يخرجان.)
المشهد الثالث (تدخل جوليت والمربية.)
جوليت :
نعم هذي الملابس خير ما عندي ولكن يا مربيتي الرقيقة
لا بد أن أخلو بنفسي هذه الليلة!
إذ إنني أحتاج للصلوات والدعوات كي ترضى السماء علي
فأنا كما قد تعلمين بحالة يرثى لها (5)
والنفس قد ملئت ذنوبا وخطايا. (تدخل زوجة كابيوليت.)
زوجة كابيوليت :
ألديكما عمل كثير؟ أو تطلبان معونتي؟
جوليت :
لا بل لدينا كل ما نحتاجه
كيما يلائم حفلنا في الغد
والآن أرجو أن أكون بلا رفيق
ولتصحبي هذي المربية الكريمة هذه الليلة (10) - فلديك عبء رازح لا شك مما يقتضيه
ذلك الحفل المفاجئ من عمل.
زوجة كابيوليت :
نامي إذن!
آوي إلى الفراش واستريحي ... فأنت تحتاجين للرقاد! (تخرج زوجة كابيوليت والمربية.)
جوليت :
الآن وداعا لكما!
لا يعلم إلا الله متى ألقاكم ثانية
أشعر بالخوف يهز عروقي بالبرد وبالخدر
7 (15)
ويكاد يجمد دفء حياتي! سأناديهم ليواسوني
يا دادة! ماذا يمكن أن تفعل لي؟
هذا مشهد قتل سأؤديه وحدي
8
فهلمي يا قارورة! (20)
ماذا يحدث لو أن دوائي لم يفعل فعله؟
أتزوج من باريس إذن في صبح الغد؟
كلا ذاك محال إذ سوف يحول الخنجر دون حدوثه
فلتبق معي. (تضع الخنجر على منضدة.)
أفلا يمكن أن تحوي القارورة سما جهزه القس (25)
بمكر كي يقتلني حتى لا يثلم شرفه
إن أنا زوجت بباريس
وقد زوجني هو من قبل بروميو؟
أخشى ذلك لكني حقا أستبعده
إذ ثبت على مر الأيام صلاح القس وورعه.
أفلا يمكن أن أصحو في القبر (30)
قبل وصول حبيبي ليخلصني؟
هذا مبعث خوف حقا!
أفلا يمكن أن تكتم أنفاسي في ذاك القبر
إذ لا يستنشق فمه المنتن أنفاس الصحة
وبذلك أختنق وأقضي قبل وصول حبيبي روميو؟ (35)
أما إن قدر لي أن أحيا أفلن يجعلني ذلك نهبا
لرهيب خيالات الموت وهول الليل
والرعب المبثوث بذاك المدفن -
فهو ضريح جد قديم أو مستودع
يحوي كل عظام جدودي المرصوصة (40)
عبر مئات السنوات وحيث ينام الدامي تيبالت
ما زال جديدا في التربة والعفن يفتته في كفنه!
بل حيث تعود الأرواح كما يحكون
في عدد من ساعات الليل
ويحي ويحي! أفليس من المحتمل إذن (45)
أن أصحو قبل الموعد لأشم روائح بشعة
أو أسمع صرخات مثل فحيح نبات اللفاح
9
إذ يقتلع من التربة ويصيب السامع باللوثة!
وإذا استيقظت - ألا يحتمل إذن أن تأخذني لوثة
حين تحاصرني تلك الأهوال المفزعة فألهو (50)
بجنون بعظام جدودي ومفاصلهم
أو أخرج جثة تيبالت من الأكفان
أو أمسك في لوثة خبلي وجنوني
عظما من هيكل أحد الأسلاف
وأصك به رأسي مثل هراوة
لأبعثر مخي في يأسي!
أواه انظر! لكأني أشهد شبح ابن العم (55)
يبحث عن روميو بعد أن اخترق السيف فؤاده
اهدأ يا تيبالت اهدأ! روميو روميو روميو!
ها أنا أشرب ... أشرب نخبك! (تسقط على سريرها داخل الستائر.)
المشهد الرابع (تدخل زوجة كابيوليت والمربية.)
زوجة كابيوليت :
أيتها المربية! خذي هذه المفاتيح وأحضري المزيد من البهارات.
المربية :
إنهم يريدون البلح والسفرجل في غرفة الفرن. (يدخل كابيوليت.)
كابيوليت :
هيا! هيا! اجتهدوا! لقد عاد الديك إلى الصياح!
ودقت الأجراس ... أي إننا في الثالثة صباحا
10
يا عزيزتي أنجليكا اهتمي بفطائر اللحم ولا تكترثي للتكاليف!
11 (5)
المربية :
تفضل من هنا أنت ... يا من تمثل دور ربة المنزل
اذهب إلى الفراش وإلا مرضت غدا
بسبب سهرك هذه الليلة!
كابيوليت :
أبدا ... لن أتعب أبدا! فلقد سهرت من قبل
ليالي طويلة لأسباب أهون دون أن أمرض! (10)
زوجة كابيوليت :
نعم! كنت تسهر في شبابك مع الفتيات
ولكنني سأسهر عليك حتى لا تعود للسهر معهن! (تخرج زوجة كابيوليت والمربية.)
كابيوليت :
إنها تغار! إنها تغار! (يدخل ثلاثة أو أربعة من الخدم يحملون أسياخا حديدية وقطعا من الخشب وبعض السلال .)
ماذا تفعلون بهذا؟ أنتم ... ما هذه؟
الخادم الأول :
أشياء طلبها الطباخ ... ولا أعرف يا سيدي شيئا عنها. (15)
كابيوليت :
إذن هيا ... أسرع ... أسرع! (يخرج الخادم الأول.)
وأنت أحضر خشبا جافا ... أفضل من هذا ...
واسأل بيتر ... فهو يعرف مكانه!
الخادم الثاني :
لدي رأس يا سيدي يستطيع أن يعرف مكان الخشب. :
كابيوليت :
قسما بالقداس! إنه رد ذكي يا ابن الفاعلة!
12 (20)
سوف يعرف عقلك الخشبي ... مكان الخشب! (يخرج الخادم الثاني وسواه.)
يا ألله! لقد طلع الصبح!
وسوف يصل الكونت في الحال مع الفرقة الموسيقية
فقد قال لنا ذلك! (تسمع الموسيقى في داخل البيت.)
لقد اقترب! أيتها المربية! أيتها الزوجة! أنتم يا من هناك!
أيتها المربية! إني أنادي عليك! (تدخل المربية.)
أيقظي جوليت! ألبسيها أفضل الثياب ... وضعي لها أفضل
زينتها! (25)
سأذهب وأتكلم مع باريس هيا ... أسرعي
أسرعي أسرعي لقد وصل العريس بالفعل
قلت لك أسرعي! هيا ... هيا من هنا! (يخرجان.)
المشهد الخامس (غرفة جوليت، تدخل المربية.)
المربية :
سيدتي! هيا يا سيدتي جوليت! أقسم أنها في أحلى نوم!
يا حملي! يا آنستي! تبا لك يا كسلانة!
ما هذا النوم يا حبيبتي؟ إنك تأخذين نصيبك الآن
نعم تنامين أسبوعا! فأقسم أن الليلة القادمة
لن تستريحي إلا قليلا ... (5)
لأن الكونت باريس مصمم على ذلك!
ماذا أقول؟ غفر الله لي! آمين!
إن نومها عميق جدا
لا بد أن أدخل لأوقظها
سيدتي ... سيدتي ... سيدتي
قومي وإلا أتى الكونت باريس وأخذك من فراشك (10)
وأقسم أنه سيخيفك جدا! ألن تخافي؟
هل ارتديت ثيابك ثم عدت إلى النوم (تزيح الستائر فترى جوليت.)
13
لا بد أن أوقظك بأي شكل! سيدتي! سيدتي! سيدتي!
ماذا حدث؟ وا أسفاه! وا أسفاه! النجدة ... النجدة! لقد ماتت
سيدتي
يا لليوم المشئوم! ليتني ما ولدت (15)
أريد ماء الحياة! أسرعوا ... سيدي ... سيدتي! (تدخل زوجة كابيوليت.)
زوجة كابيوليت :
ما هذا الصراخ؟
المربية :
يا لليوم المشئوم!
زوجة كابيوليت :
ماذا حدث؟
المربية :
انظري ... انظري! يا لليوم الحزين!
زوجة كابيوليت :
وا أسفي وا أسفاه! ابنتي! حياتي الوحيدة!
قومي! انظري إلي! وإلا مت معك! (20)
النجدة النجدة ! اطلبي النجدة. (يدخل كابيوليت.)
كابيوليت :
ألا تخجلون؟ أحضروا جوليت فورا ... فقد وصل العريس!
المربية :
لقد ماتت! انتهت! ماتت! يا لليوم المشئوم!
زوجة كابيوليت :
يا لليوم الملعون ... ماتت! ماتت! ماتت!
كابيوليت :
أريد أن أراها وا أسفاه فهي باردة (25)
لقد وقف نبضها وتصلبت أطرافها!
لقد فارقت الحياة هاتين الشفتين منذ وقت طويل!
لقد هبط الموت كأنه الصقيع الذي يهبط في غير أوانه
على أحلى زهور البستان!
المربية :
يا لليوم المشئوم!
زوجة كابيوليت :
يا للحزن الأليم! (30)
كابيوليت :
إن الموت الذي أخذها مني وجعلني أنوح عليها
يعقد لساني الآن ولا يجعلني أتكلم
14 (يدخل القس لورنس وباريس والموسيقيون.)
القس لورنس :
هل استعدت العروس للذهاب للكنيسة؟
كابيوليت :
قد استعدت للذهاب لكن لن تعود أبدا!
أواه يا بني! في الليلة التي حلت قبيل يوم عرسك (35)
جاء الحمام واختلى بزوجتك! وهاك إياها تنام
كزهرة وافتضها الحمام!
الموت صار صهري ثم صار وارثي
لقد تزوج ابنتي! لذا أموت تاركا
للموت كل شيء! فالعمر والحياة كل شيء ملكه! (40)
باريس :
أتراني اشتقت طويلا لأرى وجه الصبح
لكي أشهد هذا المشهد؟
زوجة كابيوليت :
يا لليوم الملعون التعس البائس والمبغض!
بل أتعس وقت شاهده الزمن الجاري
في رحلته المرهقة السرمد! (45)
لم يك عندي غير فتاة واحدة
بنت واحدة مسكينة
تضمر لي الحب وأنشد فرحي وعزائي فيها
لكن الموت القاسي ينتزع الطفلة من بصري!
المربية :
يا للحزن البالغ! ما أحزنه من يوم!
15
لم أر يوما أكثر منه آلاما أو أحزانا! (50)
أبدا أبدا أبدا!
يوم مكروه مبغوض ممقوت
لم نر يوما أسود مثل اليوم
يا لليوم المحزن يا لليوم المحزن!
16
باريس :
طلقني الموت ونكل بي فأنا مخدوع مظلوم مقتول! (55)
يا أبغض شيء نعرفه يا موت خدعت النفس
وأطحت بقلبي وكياني يا عاتي البأس!
يا حبي وحياتي لا بل يا حبي الباقي في الموت!
كابيوليت :
محتقر محزون مكروه مقتول مستشهد ...!
يا زمن الغم لماذا جئت الآن لتقتل حفلتنا؟ (60)
بنتي يا بنتي! لا بل يا روحي ميتة أنت
وا أسفا ماتت بنتي
وستدفن مع هذي الطفلة أفراحي !
القس لورنس :
فليصمت الجميع والعار عليكم! وهل علاج الحزن (65)
ذلك الصراخ والعويل؟ قد كان للسماء في الحسناء
مثلكم نصيب: فالآن تنتمي جميعها إلى السماء!
وذاك خير - لا جدال - للفتاة!
لم تستطيعوا أن تحافظوا على نصيبكم من الموت الكئود
لكنما السماء سوف تبقي ما لها من الحياة للخلود (70)
قد كان أقصى ما نشدتمو لها سمو قدرها
إذ كانت الجنات في عيونكم أن ترفعوا مكانها
لكنكم تبكون عندما ترونها تبوأت مكانة
فوق السحب! بل إنها في رفعة مثل السماء نفسها!
ما أسوأ الحب الذي أسبغتموه ها هنا على الفتاة (75)
فقد جننتم عندما نالت سعادة النجاة.
فأتعس الزوجات من يطول عهدها بزوجها
وأهنأ الزوجات من تموت في زواجها مبكرة
فجففوا دموعكم وزينوا بالورد حتى يحفظ الذكرى لنا
جثمانها الجميل! ومثلما تعود الجميع عندنا (80)
فلتحملوها في أتم زينة إلى الكنيسة.
إن الطبيعة ذات حمق يقتضي منا البكاء والنواح
لكن في دمع الطبيعة ما يثير العقل بالأفراح.
كابيوليت :
كل استعداد أجريناه لحفلتنا الحسناء
قد غير وجهته لجنازتنا السوداء (85)
قد غدت الآلات الموسيقية أجراسا للحزن
وولائم حفل العرس مآدب صامتة للدفن
وأغاني الفرح مراثي من أحزان
وزهور العرس زهورا للجثمان
أي إن جميع الأشياء انقلبت لنقائضها في آن! (90)
القس لورنس :
هيا تفضل بالدخول سيدي ... تفضلي سيدتي ...
ولتنصرف يا سيدي باريس! وليستعد كل واحد
للسير خلف هذا النعش للضريح
إن السماء قد تجهمت لبعض ذنب أو خطية
فلا تزد من سخطها وتنكر المشيئة السنية! (95) (يخرج الجميع ما عدا المربية والموسيقيين، وهم ينثرون الأزهار فوق جوليت ويسدلون الستائر.)
الموسيقي الأول :
حقا يجب أن نحمل مزاميرنا ونرحل.
المربية :
نعم ... نعم أيها المخلصون الطيبون ... احملوا المزامير ... فأنتم
تعرفون أن حالنا يرثى له! (تخرج.)
الموسيقي الأول :
نعم! وأقسم أنه يمكن إصلاح الحال. (يدخل بيتر.)
بيتر :
أيها الموسيقيون ... أيها الموسيقيون! اعزفوا أغنية «افرح
يا قلبي!» «افرح يا قلبي!» فلن أعيش إذا لم أسمع «افرح
يا قلبي!».
الموسيقي الأول :
ولماذا «افرح يا قلبي!»؟ (100)
بيتر :
لأن قلبي - أيها الموسيقيون - يعزف أغنية أخرى هي: «قلبي مملوء
بالأحزان» هيا اعزفوا لي لحنا حزينا مرحا ... حتى
يواسيني!
17
الموسيقي الأول :
لا ألحان حزينة! فليس هذا وقت العزف! (105)
بيتر :
لن تعزفوا إذن؟
الموسيقي الأول :
لا!
بيتر :
إذن فسوف أعطيكم ذلك!
الموسيقي الأول :
تعطينا؟ ماذا؟
بيتر :
لا نقود! بل أقسم أن أفضحكم! أيها الشحاذون! أيها
المتشردون! (110)
الموسيقي الأول :
ماذا تقول أيها الخادم الحقير؟
بيتر :
سوف أغرس خنجر الخادم الحقير في رءوسكم! لن أهتم بالإيقاع
في غنائي ... سأهوي عليكم بالأنغام ... سأحاربكم ب «ري» ... و«فا» وأضربكم بمفتاح «صول»! هل فهمتم هذه «النوتة».
الموسيقي الأول :
وهل لديك هذا المفتاح حتى تفهم أنت النوتة؟
18 (115)
الموسيقي الثاني :
الأفضل أن تبعد خنجرك ... وتبعد عنا سرعة بديهتك أيضا!
بيتر :
بل سأهجم عليكم بسرعة بديهتي! سأضربكم ببديهتي
الفولاذية ... وأعفيكم من خنجري الحديدي! كونوا جادين
وأجيبوني (يغني)
إذا كانت تشق القلب أحزان ممضة (120)
وتؤذي النفس ألحان حزينة
فإن اللحن ذو صوت كفضة ...»
لماذا صوت الفضة؟ لماذا الموسيقى بصوت الفضة؟ ما رأيك في
هذا يا سيمون العواد؟
19
الموسيقي الأول :
رأيي يا سيدي ... أن الفضة لها صوت عذب! (125)
بيتر :
جميل! وما رأيك يا عازف الكمان ... «هيو»!
الموسيقي الثاني :
لأن الموسيقيين يعزفون من أجل الفضة!
بيتر :
جميل أيضا ... وما رأيك أنت يا جيمز ... يا عمود الكمان؟
20
الموسيقي الثالث :
الحق ... الحق أنني لا أعرف رأيي! (130)
بيتر :
إذن ... فأدعو الله أن يرحمك ... فأنت المغني ... وسأتولى إجابة
السؤال بنفسي ... اسمع ... إننا نقول: «اللحن ذو صوت
كفضة»؛ لأن الموسيقيين لا يتناولون الذهب لقاء عزفهم! (يعود للغناء )
فإن اللحن ذو صوت كفضة
فتسرع بالعزاء وبالسكينة (135) (يخرج.)
الموسيقي الأول :
يا له من وغد مزعج!
الموسيقي الثاني :
يستحق الشنق يا أخي! ... هيا بنا ... سندخل هنا وننتظر حتى
ينتهي العزاء ... ثم نتناول الغداء. (يخرجون.)
الفصل الخامس
المشهد الأول (يدخل روميو.)
روميو :
إذا وثقت في صدق الرؤى الجميلة التي تطوف بالنيام
فعن قريب سوف تأتيني بشائر الأنباء
ورب صدري جالس في عرشه في خفة الهواء
1
روح غريب ما يزال يطير بي فوق الثرى
2
طول النهار بكل فكر سار (5)
فقد رأيت في منامي أن زوجتي أتت
لكنني كنت قضيت! (حلم غريب يدفع الموتى على التفكير!)
لكنها ظلت تبث الروح في شفتي بالقبلات
3
فإذا أنا أعود للحياة شامخا وكالأباطرة!
لا بد أن يكون الحب حافلا بالفرح والحبور (10)
ما دامت الأطياف باعثة لذياك السرور!
4 (يدخل بلتزار خادم روميو مرتديا زي السفر وحذاء برقية.)
روميو :
قد جاءت الأخبار من فيرونا! ماذا وراءك بلتزار؟
أتراك أحضرت الرسائل من صديقي ذلك القس الكريم؟
قل كيف حال زوجتي؟ هل والدي بخير؟
قل كيف حال جوليت؟ وأنا أعيد ذلك السؤال (15)
إذ لن يكون في الحياة شر إن غدت جوليت بخير.
بلتزار :
إذن نقول إنها بخير ... ولن يكون في الحياة شر!
ينام جسمها في قبر أهلها
وروحها المخلدة ... تحيا مع الملائكة
رأيتهم يسجون الفتاة في ضريح الأسرة (20)
فجئت فورا فوق أجياد البريد كي أقول لك
أرجوك سامحني لحملي ذلك النبأ الرهيب
إذ أنت قد كلفتني بذاك يا مولاي.
روميو :
أهكذا قضى القدر؟ إني إذن رهن التحدي يا نجوم!
قم أحضر الأوراق والأحبار هيا ... أنت تعرف منزلي. (25)
واستأجر الخيول؛ أجياد البريد المسرعة
إذ إنني لا بد أن أمضي إليها هذه الليلة.
بلتزار :
أرجوك يا مولاي أن تصبر
فأنت شاحب وغاضب ومنذر بالشر!
روميو :
صه صه! أخطأت فهمي فانطلق وافعل كما قلت لكا (30)
أوما حملت رسائل القس الكريم؟
بلتزار :
لا لست أحمل أي شيء سيدي!
روميو :
غير مهم انصرف واستأجر الخيول ... وسوف أدركك (يخرج بلتزار.)
والآن يا جوليت سوف أنام في هذا المساء معك
فلندرس الوسائل التي نحتاجها. أواه أيها الأذى! (35)
سرعان ما تلوح في فكر اليئوس
إني لأذكر صيدلانيا وأذكر أين يسكن
رأيته منذ قليل ... كان يرتدي ثيابه الممزقة
وشعر حاجبيه كث متهدل
ويجمع الأعشاب للتداوي والهزال واضح عليه (40)
أبلى الشقاء المر هيكله وأبرز فيه عظمه
دكانه الفقير لم يكن فيه الكثير؛ فهنا سلحفاة معلقة
وهناك تمساح محنط! وجلود أسماك قبيح شكلها!
وعلى الرفوف تناثرت بعض الصناديق الفوارغ (45)
وقدور صلصال بلون ضارب للخضرة
وحويصلات أو بذور عفنة! قطع من الأحبال في كل مكان
وعجائن الورد القديمة يا له من دكان!
لما رأيت الفقر قلت إذن «من يطلب السم هنا (50)
وعقاب من يشريه موت حاضر في مانتوا
فعليه أن يبتاعه من مثل ذاك المعوز.»
5
جالت بذهني هذه الأفكار من قبل احتياجي له
وهكذا فذلك الفقير نفسه لا بد أن يبيعه لي!
هذا هو المنزل حسبما أذكر (55)
لكنما الدكان مغلق لأن اليوم عطلة!
6
يا صيدلاني! أنت يا من هنا. (يدخل الصيدلاني.)
الصيدلاني :
من ذا ينادي عاليا؟
روميو :
أقبل أقبل يا صاح! الواضح أنك معوز
خذ هذي الدوقيات! أربع عشرات! بعني درهم سم واحد
7 (60)
أبغي سما فعالا ذا بطش ومضاء
يسري في كل عروق الجسم بحيث يموت الشارب له (من أضنته الدنيا وحياة الدنيا)
وبذا يفرغ ما في الجسد اللاغب من أنفاس
أسرع من إطلاق البارود الملتهب بعنف
من رحم المدفع ذي الأثر الفتاك! (65)
الصيدلاني :
لدي مثل هذه العقاقير المدمرة
لكن قانون البلد ... يقضي بإعدام الذي يبيعه!
روميو :
وهل تخاف أن تموت رغم فقرك الشديد
والتعاسة التي تكتنفك؟ الجوع في خديك
والفاقة المهينة التي تضورت جوعا بعينك! (70)
وفوق ظهرك الإملاق في أحط صورة أراه يركبك
إذ ليست الدنيا ولا قانونها من أصدقائك
وليس في العالم قانون يحقق الغنى لك
قم ودع الفقر إذن! حطمه خذ هذي النقود!
الصيدلاني :
الفقر يقبلها وترفضها الإرادة! (75)
روميو :
إني أدفع للفقر وليس لأي إرادة!
الصيدلاني :
ضع هذا في أي شراب ترضاه
ثم اشربه كله! إن كانت لك قوة عشرين رجل
فستهوي بك في الحال.
روميو :
خذ هذا ذهبك! سم أكبر فتكا بنفوس الناس! (80)
وضحاياه في هذي الدنيا الممقوتة أكثر
من قتلي وصفاتك تلك المتواضعة المحظورة!
إني بعت إليك السم ولم أشتر منك سموما
فوداعا لك! ابتع بعض طعام كي تكسو عظمك لحما! (يخرج الصيدلاني)
أقبل يا ترياق القلب (فلست بسم) وامض معي (85)
لضريح الزوجة جوليت كي أشربك هناك. (يخرج.)
المشهد الثاني (فيرونا، صومعة القس لورنس.) (يدخل القس جون.)
القس جون :
يا أيها القس المبارك أين أنت يا أخي ؟ (يدخل القس لورنس.)
القس لورنس :
الصوت صوت القس جون! لقد أتى من مانتوا
أهلا بعودتك! ماذا يقول روميو؟
إن كان قد خط خطابا ... أعطه لي!
القس جون :
كنت خرجت لأبحث عن قس من نفس الطائفة ليصحبني
8 (5)
أثناء زيارته للمرضى في هذي البلدة
لكني حين عثرت عليه انقض علينا بعض رجال الطب الشرعي
إذ ظنوا أن المنزل قد حل به الطاعون المعدي (10)
فغلقت الأبواب علينا ومنعنا من أن نمضي
وبذلك لم أقدر أن أرحل في الموعد وتأخرت.
القس لورنس :
من الذي مضى إذن برسالتي لروميو؟
القس جون :
لم أستطع إرسالها - هذي هيه -
بل لم أجد رجلا يعود بها إليك (15)
لخوفهم من الوباء وانتشاره.
القس لورنس :
حظ تعس! قسما بطائفتي لقد كانت رسالة مهمة
ولم تكن من الرسائل الهزيلة
بل إنها ترمي لأهداف جليلة! وربما أدى تجاهلها
إلى خطر كبير! اذهب إذن يا أيها القسيس (20)
يا جون وأحضر لي قضيبا من حديد
أو عتلة! وعد إلى صومعتي!
القس جون :
سمعا يا أخي! لسوف آتيك بها إلى هنا. (يخرج.)
القس لورنس :
لا بد أن أمضي إلى مبنى الضريح بلا رفيق
إذ سوف تصحو الغادة الحسناء جوليت (25)
في ظرف ساعات ثلاث.
وربما تلومني لأنني لم أبلغ الحبيب روميو
سلفا بما دار هنا! لكنني سأرسل الرسول ثانيا لمانتوا
وذاك بينما تظل ضيفة في الصومعة حتى يعود روميو!
مسكينة يا جثة بها حياة! إذ أغلقوا عليك قبر ميت! (30) (يخرج.)
المشهد الثالث (فيرونا؛ فناء كنيسة في وسطه قبر ضخم ينتمي لأسرة كابيولويت.) (يدخل باريس وخادمه حاملا الزهور والماء المعطر والشعلة.)
باريس :
هات إذن تلك الشعلة! ابتعد الآن وقف!
لا بل أطفئها ... لا أرغب أن يبصرني مخلوق.
اذهب حتى أشجار السرو هنالك واستلق على التربة
ألصق أذنك بالأرض الجوفاء لكي تسمع أي خطى تأتي
فالتربة ليست متماسكة من كثرة ما حفر بها (5)
من أجداث! فإذا سمعت أذنك صوت دبيب
صفر لي بفمك! ولتك تلك إشارتك إلي بأنك تسمع
من يتقدم منا. هات زهوري تلك
اذهب وافعل ما آمرك به ... هيا!
الخادم (جانبا) :
أكاد أخشى من وقوفي دون صاحب هنا (10)
بين القبور! لكنه لا بأس من مغامرة! (يتراجع.) (باريس ينثر الزهور على القبر.)
باريس :
يا زهرتي على فراش عرسك الجميل أنثر الزهر
ويحي لقد صار الغطاء من تراب والفراش من حجر
سأنثر الأنداء كل ليلة عليه من مائي العطر
إن لم أجد فسأنثر الدمع المقطر في لظى الأنات (15)
شعائر العزاء كل ليلة إذن أن أذرف العبرات
وأنثر الورود فوقه هنا وعاطر الزهرات (الخادم يصفر.)
هذا صفير الخادم ... ثم شخص قادم!
من يا ترى يأتي المكان بهذه القدم اللعينة
كي يقاطع الشعائر الحزينة؟ من شتت الإعراب عن
آيات إخلاصي لحبي في حمى ليل السكينة؟ (20)
القادم الغريب يحمل شعلة؟ فلأختبئ في حلكة الليلة! (يتراجع، يدخل روميو مع بلتزار الذي يحمل شعلة وفأسا وعتلة حديدية.)
روميو :
هات الفأس وهات العتلة!
أمسك بخطابي هذا ... مع أول خيط في صبح الغد
سلمه إلى الوالد والسيد.
هات الشعلة! نفذ ما سأقول وإلا كان الموت عقابك (25)
مهما تسمع أو تشهد فابق هنالك
لا تتدخل فيما أفعل.
أما سبب نزولي لمهاد الموت الأسفل
فهو الشوق إلى رؤية وجه المحبوبة. لكن السبب الأول
أن أخلع من أصبعها بعد الموت (30)
خاتمي الغالي كي أستخدمه
في أمر ذي خطر بالغ! هيا امض إذن!
أما إن ساورك الشك فعدت لكي تنظر
ما أنوي أن أفعله فيما بعد
فأقسم أني سوف أمزق أوصالك (35)
وسأنثر في هذي المقبرة الجوعى أطرافك
هذي الساعة ونواياي الوحشية ذات ضراوة
بل أقسى وأشد شراسة
من ببر جائع ... أو بحر هادر!
بلتزار :
لا بل سأمضي سيدي ولن أضايقك. (40)
روميو :
وبذلك تبدي الود! خذ هذا! (يعطيه كيسا من النقود.)
اهنأ وتمتع بحياتك! ووداعا يا خلي الطيب!
بلتزار (جانبا) :
لكن مع ذلك كله ... سأظل هنا مختبئا
فأنا لا أثق بمنظره وأخاف نواياه كثيرا. (يتراجع.)
روميو :
يا فاه الوحش المبغض! يا بطن الموت المتخم (45)
بألذ وأشهى وأعز طعام في الأرض!
إني أفتح فمك المنتن عنوة
لأدس خلال الفكين برغم التخمة أطعمة أخرى! (يبدأ روميو في فتح القبر.)
باريس :
هذا ابن مونتاجيو الذي نفي ... هو ذلك المزهو
من قتل ابن عم حبيبتي، وأصابها بالحزن حتى (50)
ماتت المسكينة الحسناء - فيما يذكرون - كمدا!
وها هو الشقي قد أتى كيما يدنس الجسوم الميتة
لا بد أن أعتقله! (يتقدم منه)
قف يا ابن مونتاجيو الأثيم وكف عن هذا الدنس!
هل يستمر الثأر حتى بعد لحظة الوفاة؟ (55)
يا أيها المدان إنني ألقي عليك القبض!
هيا أطعني وانطلق معي ... لا بد أن تموت!
روميو :
لا بد أن أموت حقا! ولذا فقد جئت هنا!
يا أيها الشاب الرقيق الطيب! لا تستفز شخصا يائسا
ارحل ودعني! انظر تأمل هؤلاء الراحلين (60)
أفلا تخاف مصيرهم؟ أرجوك يا شاب أطعني!
أنا لا أريد خطيئة أخرى على رأسي هنا!
لا تدفعن بي للغضب! ارحل إذن أرجوك
بالله إن الحب في قلبي إليك يزيد عن حبي لذاتي
فلقد أتيت وفي يدي ما سوف يجتث حياتي (65)
ارحل، أقول ارحل وعش ثم أجب من يسألك:
إني نجوت لأن مجنونا رجاني أن أفر بدافع من شفقة!
باريس :
إني أرفض ما تطلب وسألقي القبض عليك
لأنك مجرم.
روميو :
هل تستفزني إذن؟ إليك ضربتي الموفقة! (70) (يتقاتلان.)
الخادم :
آه يا ربي إنهما مشتبكان! سأنادي الحراس! (يخرج.)
باريس :
أواه قد قتلت! (يسقط) إن كنت بي رحيما
فافتح القبر وأرقدني هنا بجوار جوليت. (يموت.)
روميو :
سأقوم بذلك حقا! فلأبصر وجهه! هذا
من أسرة مركوشيو! ونبيل يدعى باريس (75)
ماذا قال الخادم لي وأنا لا أصغي أثناء الرحلة
إذ كانت نفسي تتقاذفها الأفكار؟ ظني أن الخادم قال
بأن الكونت سيتزوج من جوليت!
هل قال كذلك حقا أم كان مجرد حلم؟
أم أني مجنون أصغيت إلى من يتحدث عن جوليت (80)
فظننت الخادم يذكر ذلك؟ هات يدك!
اسمك قد كتب مع اسمي ... في سفر البؤس المر!
سأواريك الترب بأعظم قبر! في قبر ... كلا!
بل في خير منار يا من راح شهيدا في ريعانه!
فهنا ترقد جوليت، ومفاتنها تجعل هذا القبر (85)
قاعة عرش زاخرة بالأضواء لتستقبلنا فيها!
ارقد يا ميت تدفنه يد ميت! (يدفن باريس في المقبرة.)
ما أكثر ما تنتاب المرضى عند الموت
لحظات مرح! ويسميها الحراس البرق السابق للموت!
آه كيف أسمي هذي اللحظة برقا؟ (90)
يا حبي يا زوجي لم يقدر ذاك الموت
بعد أن امتص الشهد بأنفاسك
أن يصرع حسنك وجمالك!
لم يهزمك الموت! ما زالت راية حسنك خفاقة
في حمرة شفتيك وخديك (95)
بينا لم تتقدم ألوية الموت الشاحب منك!
هل ترقد يا تيبالت هنالك في أكفان خضبها الدم؟
هل ثم جميل أسديه إليك سوى أن أبسط هذي اليد
وهي يد شطرت ثوب شبابك
كي تشطر ثوب شباب فتى كان عدوا لك؟ (100)
اغفر لي يا ابن العم! آه يا حبي جوليت!
إني أسألك لماذا ما زلت بهذا الحسن؟
هل أتصور أن الموت
وهو كيان لا جسم له، يهواك؟
وبأن الوحش الممقوت الناحل يبقيك هنا
في هذي الظلمة لتكوني معشوقته؟ (105)
كيما نتفادى ذلك سأظل إلى الأبد جوارك!
لن أرحل أبدا من قصر الليل الدامس هذا.
سأظل هنا مع ديدان غدت اليوم وصيفاتك
وهنا أرسي أسس مقامي الأبدي (110)
وأخلص نفسي
وأخلص نفسي من نير طوالعي المشئومة
وأحرر منه جسدا أنهكه هذا العالم!
دعني ألق عليها آخر نظرة
وأطوقها بذراعي لآخر مرة
يا شفتي أيا أبواب الأنفاس لنعقد هاتيك الصفقة
ذات الأجل الدائم ... مع موت غاشم ... بطهارة قبلة! (115)
هيا يا حادي القافلة المر ... ودليلي ذا الطعم الممقوت!
يا مرشد يأس وقنوط!
وجه مركبك المنهك من لطم البحر
كي يرتطم بأقسى أضراب الصخر!
هذا نخب حبيبي! (يشرب) ما أخلص صانع هذا السم!
ما أسرع ما يفعل فعله ... وبذاك أموت على قبلة! (120) (يلفظ أنفاسه.) (يدخل القس لورنس وبيده مصباح وعتلة وجاروف.)
القس لورنس :
خذ بيدي يا قديس! ما أكثر ما اصطدمت أقدامي الهرمة بقبوة في
تلك الساحة. من ذاك هناك؟
بلتزار :
شخص وصديق يعرفك المعرفة الحقة!
القس لورنس :
أدخلك الله نعيمه! أخبرني يا صاحبي الطيب
ما هذي الشعلة في البعد؟ عبثا ستنير القبر أمام الديدان (125)
وأمام جماجم لا أبصار لها ! يبدو لي أن الشعلة
تومض في مقبرة الكابيوليت.
بلتزار :
أنت مصيب يا مولاي الرباني! وهناك ترى مولاي ...
رجلا أنت تحبه.
القس لورنس :
من هو؟
بلتزار :
روميو.
القس لورنس :
كم مر عليه هناك؟
بلتزار :
نصف الساعة. (130)
القس لورنس :
هيا إذن إلى الضريح.
بلتزار :
لست أجرؤ سيدي! مولاي لا يدري سوى أني مضيت!
بل إنه هددني، وأخاف من تهديده بالموت
إن بقيت كي أرى ما ينتوي أن يفعله.
القس لورنس :
فلتبق إذن. وسأمضي دون رفيق. إني أوجس خوفا (135)
كم أخشى أن يقع الليلة مكروه ينبئ عن سوء الطالع!
بلتزار :
أثناء رقادي تحت الشجرة خلت بأني أحلم بقتال
بين اثنين ... أحدهما مولاي ...
وبقتل الشخص الآخر! (يتراجع.)
القس لورنس :
روميو! (ينحني القس ليفحص الدم والسيفين.)
ويحي ويحي! ما تلك القطرات من الدم (140)
في فتحة هذي المقبرة الحجرية؟
ولماذا يرقد هذان السيفان المعتديان بلا صاحب
والدم قد غير لونهما في ذاك البيت الآمن؟ (يدخل المقبرة.)
روميو؟ ما أشحبه! من معه؟ عجبا! باريس كذلك؟
في دمه غارق؟ ما أقسى هذي الساعة ... (145)
إذ حملت أوزار الحادثة المفجعة هنا. (تنهض جوليت.)
السيدة أفاقت ...
جوليت :
يا مبعث فرحي يا قسيس! أين إذن زوجي؟
أذكر بوضوح أني كنت سأرقد في هذا القبر
وها أنا ذا أرقد فيه! أين حبيبي روميو؟ (150) (ضجة خارج المسرح.)
القس لورنس :
أسمع بعض الجلبة! يا سيدتي! فلنخرج من ذاك الوكر
الحافل بالموت وبالأمراض ... وبنوم غير طبيعي!
قد أفسد ما دبرناه وأعددناه تدخل قوة
لا قبل لنا بتحديها . هيا هيا نخرج.
زوجك في أحضانك يرقد بعد وفاته. (155)
وكذلك باريس. هيا. سوف أخلصك أنا
لتعيشي بين الأخوات كراهبة قدسية.
لا تنتظري كي تلقي بالأسئلة علي!
فأنا أخشى أن يصل الحراس! هيا يا جوليت ...
هيا نخرج فأنا لا أجرؤ أن أبقى! (يخرج.)
جوليت :
اذهب أنت إذن! فأنا لن أمضي الآن! (160)
ما هذا؟ هذي كأس في يد زوجي المخلص!
يبدو أن السم مضى بحبيبي قبل أوانه!
ما أبخلك جرعت السم ولم تترك لي قطرة
لم تترك ما أشربه كي ألحق بك؟ سأقبل شفتيك
فلعل بقايا سمك عالقة بهما (165)
كيما ألقى الموت بما يحيي النفس.
ما زال الدفء بشفتيك.
رئيس الحرس (من خارج المسرح) :
أين الطريق يا غلام ... سر بنا!
جوليت :
أسمع ضجة! لا بد إذن أن أسرع!
يا خنجري الهانئ (تأخذ خنجر روميو) هذا غمدك! (تطعن نفسها.)
فلتصدأ فيه إذن ... ولأمت الآن! (170) (تسقط فوق جثة روميو وتموت.) (يدخل خادم باريس مع الحرس.)
خادم :
هذا هو المكان حيث الشعلة المضيئة.
رئيس الحرس :
في الأرض آثار دماء ... فتش فناء المقبرة
هيا ليذهب بعضكم ... إذا وجدتم أي شخص فاقبضوا عليه! (يخرج بعض الحراس.)
أواه يا للمشهد الأليم ... هذا هو الكونت القتيل
وكذاك جوليت التي ماتت لتوها وما تزال دافئة (175)
بل تنزف الدماء بعد أن دفناها هنا من يومين.
اذهب فأخبر الأمير ... اهرع إلى أسرة كابيوليت
واذهب فأيقظ بيت مونتاجيو ... وليشترك في البحث سائر الحرس! (يخرج عدد من الحراس.)
إنا نشاهد الأرض التي جرت عليها هذه المصائب
لكننا لن نستطيع رصد التربة الأولى لهذه المصائب الأليمة (180)
إلا إذا عرفنا كل تفصيلات ما حدث. (يدخل عدد من الحراس ومعهم بلتزار خادم روميو.)
الحارس الثاني :
هذا خادم روميو ... في خارج هذي المقبرة وجدناه!
رئيس الحرس :
تحفظوا عليه حتى يحضر الأمير. (يدخل القس لورنس مع حارس آخر.)
الحارس الثالث :
هذا قس يرتعد ويتأوه أو يبكي
وأخذنا منه المعول والفأس - وهاكهما - (185)
أثناء محاولة الهرب من المقبرة من الناحية الأخرى.
رئيس الحرس :
ذلك جد مريب! اعتقلوا القس كذلك. (يدخل الأمير وآخرون.)
الأمير :
أي كوارث وقعت في هذا الوقت الباكر
فأقضت مضجعنا في نوم الصبح الهانئ؟ (يدخل كابيوليت وزوجته.)
كابيوليت :
ماذا حدث فجعل الناس تولول في الطرقات؟ (190)
زوجة كابيوليت :
البعض يشير إلى روميو والبعض يشير إلى جوليت
والبعض يشير إلى باريس والكل يهرول نحو ضريح الأسرة
بصراخ وعويل في الطرقات.
الأمير :
ما ذاك الخوف الهادر في آذانكمو قولوا!
رئيس الحرس :
مولاي هذي جثة الكونت القتيل ... باريس! (195)
وهناك روميو ميت وكذاك جوليت ...
توفيت من قبل لكن ما تزال دافئة ... ومن جديد قتلت!
الأمير :
هيا ابحثوا ونقبوا حتى نفسر ارتكاب هذه الجريمة النكراء.
رئيس الحرس :
هذا قسيس يا مولاي وهذا خادم روميو المقتول
كل يحمل آلات يمكنها فتح قبور الموتى. (200) (يدخل كابيوليت وزوجته إلى المقبرة.)
كابيوليت :
انظري يا زوجتي! يا للسماء! إن بنتنا يسيل منها الدم!
قد أخطأ الخنجر موقعه!
فغمده خاو على ظهر ابن مونتاجيو
وأمسى مغمدا في صدر بنتي! (205)
زوجة كابيوليت :
ويلي! مشهد هذا الموت يدق الجرس ليدعوني
في زمن الشيخوخة للقبر! (يعودان من القبر.) (يدخل مونتاجيو.)
الأمير :
أقدم يا مونتاجيو فلقد بكرت بترك النوم
لترى أن ابنك ووريثك قد بكر بالنوم.
مونتاجيو :
وا أسفا يا مولاي! ماتت زوجتي الليلة (210)
إذ إن الحزن على نفي فتاها قد أخمد فيها الأنفاس.
هل ثم مزيد من تلك الآلام المتآمرة على عهد الشيخوخة؟
الأمير :
انظر كي تدرك ما أعني. (مونتاجيو يدخل القبر ويخرج.)
مونتاجيو :
يا من ساءت تربيته! ما هذي الأخلاق؟
كيف سبقت أباك إلى القبر؟ (215)
الأمير :
فلتمسك الأفواه عن هذي المشاعر ريثما
نجلو الغموض عن الحوادث كلها
ونحيط بالأسباب والأصل الحقيقي لها.
سأكون رائدكم بساحة حزنكم
حتى وإن أدى إلى الموت الزؤام! والآن فلتتحملوا (220)
ولتخضعوا الآلام للصبر الجميل
فلتحضروا كل الذين تحوطهم شبهاتكم.
القس لورنس :
ما أكثر الشبهات حولي ... وأقل ما أملك فعله!
إني لأكثر من يثير الريبة الحقة فيهم إذ يدينني المكان
والزمان بارتكاب هذه الجريمة المستنكرة! (225)
لذا فإني أبسط اتهامي ونقاء ساحتي
شارحا إدانتي ومثبتا براءتي!
الأمير :
قل على الفور إذن ... كل ما تعرف عن هذا.
القس لورنس :
لا أنوي أن أسهب يا مولاي ... إذ لم يبق من العمر
زمان يسمح لي أن أروي ما يضجر!
9 (230)
ذاك الراحل روميو ... كان قرينا لحبيبته جوليت
وكذلك كانت جوليت - تلك الراحلة هناك ... زوجته المخلصة
العصماء!
إني زوجتهما ... لكن زواجهما السري تلاه مقتل تيبالت
وكذلك كان رحيل اليافع قبل أوانه
سببا في نفي الزوج بعيد العرس من البلدة (235)
ولهذا كانت تبكي جوليت ... كانت تذوي حزنا
لرحيل الزوج وليس لمقتل تيبالت.
أما حين أردت إزالة أسباب الأحزان فقد
أعلنت خطوبتها للكونت وتزويجهما عنوة! وهنا جاءتني
ورجتني في حيرتها الكبرى أن أجد سبيلا (240)
ينقذها من ذاك الزوج الثاني
أو أن تنتحر هنالك في صومعتي.
إذ ذاك دفعت إليها بشراب (قد مزج على علم عندي)
ليخدرها خدرا كالموت وقد نجح وحقق (245)
ما أبغي فكساها شكل الموت! وكتبت إلى روميو
في تلك الأثناء بأن يأتي للبلدة في ليلتنا الليلاء
كيما نتعاون في إخراج قرينته من هذا القبر الزائف
عند نهاية مفعول شراب التخدير.
لكن القس الحامل لرسالة روميو - وهو أخي جون - (250)
لم يتمكن من أن يرحل
وأعاد البارحة رسالتي إلي
إذ ذاك قدمت وحيدا لضريح الأسرة
في الوقت المتوقع لاستيقاظ عروستنا
كي أصحبها لتقيم معي سرا في صومعتي (255)
حتى وقت استدعاء صديقي روميو دون حرج
لكني حين أتيت قبيل اليقظة بدقائق
كان كريم المحتد باريس ... والمخلص روميو
قد رحلا من هذي الدنيا قبل الموعد!
ولدى صحوة جوليت توسلت إليها أن تصحبني (260)
وبأن تتحلى بالصبر إزاء إرادة رب الكون.
لكن سماعي بعض الضوضاء حداني لمغادرة القبر
بينا رفضت هي في غمرة ذاك اليأس مغادرته
والظاهر أن المسكينة فيما يبدو انتحرت
هذا ما أعلمه حق العلم! ومربية البنت (265)
ستشهد بزواجهما في السر! فإذا كنت تسببت بخطئي
في أي من تلك الأحداث المؤسفة فإني
لأقدم شخصي الطاعن في السن فداء - قبل الموعد بقليل -
لصرامة أقسى قانون في الدولة.
الأمير :
لطالما عرفنا عنكم الصلاح والورع (270)
فأين خادم القتيل روميو؟ ماذا لديه من أقوال ؟
بلتزار :
أنا الذي أخبرته بموت زوجته
فجاء مسرعا من مانتوا إلى هذا المكان
إلى هذا الضريح نفسه وآمرا إياي أن أعطي
رسالة لوالده - في مطلع النهار - (275)
مهددا إياي - وهو يدخل الضريح -
بالقتل إن لم أبتعد وأمتنع عن التدخل.
الأمير :
هات أعطني هذا الخطاب ... سوف أفحصه.
وأين خادم الكونت الذي استغاث بالحرس؟
قل ما الذي أتى بمولاك هنا وماذا كان يفعل؟ (280)
الخادم :
لقد أتى كي ينثر الزهور فوق قبرها
وقال لي أن أبتعد! وقد تركته لكنني سرعان ما رأيت
شخصا قادما بشعلة ليفتح الضريح
فانقض سيدي عليه شاهرا سلاحه
وعندها هرعت كي أنادي الحرس. (285)
الأمير :
يؤكد الخطاب ما أدلى به القسيس من أقوال:
وفيه يحكي قصة الحب وأنباء وفاة زوجته
يقول إن صيدلانيا فقيرا باعه السم الزعاف
وقد أتى به إلى هذا الضريح كي يموت في أحضان زوجته. (290)
أين هذان العدوان؟ أين كابيوليت ومونتاجيو؟
انظرا عواقب العداوة التي حلت بنا
إذ شاءت السماء أن تقضي على أفراحكم بالحب!
كذا أراني قد فقدت اثنين من أقاربي
لأنني أغضيت عن أحقادكم. قد عوقب الجميع. (295)
كابيوليت :
هيا أخي مونتاجيو ... هات يدك ...
قل إنه مهر ابنتي ولست أطلب المزيد.
مونتاجيو :
لكني أمنحك مزيدا إذ سأقيم لها
تمثالا من ذهب خالص
وإذن ما دامت فيرونا تحمل هذا الاسم (300)
لن يعلو تمثال في قيمته مهما كان عليه
إذ سوف يخلد جوليت المخلصة العصماء.
كابيوليت :
ولسوف أقيم لروميو تمثالا مثله
كي ينهض بجوار حبيبته جوليت
فلقد كانا من بين ضحايا إثم عداوتنا.
الأمير :
لقد أتى هذا الصباح بالسلام غائما (305)
ولن ترينا الشمس وجهها من حزنها
هيا لنرحل كي نعالج الأتراح في أناة
وسوف نعفو عن فريق ونعاقب العصاة
إذ ما عرفت قصة تزيد في آلامها
عن حب جوليت هنا وحب روميو زوجها! (يخرج الجميع.)
Bilinmeyen sayfa