أما هرمين فإنها أخذت الرسالة وقرأتها إلى آخرها بغاية السكينة والهدوء، وبعد أن أتمت تلاوتها جعلت تنظر إلى أمها وإلى بيرابو نظرة يأس وهي لا تنبس ببنت شفة ولا تذرف دمعة، إلى أن أفاقت أمها من إغمائها، فعانقتها عناقا طويلا والدموع تنهل من عينيها كالمطر، ثم نظرت هرمين إلى بيرابو وقالت له بصوت متهدج كمن يجهش للبكاء: إنك سترجو ولا ريب المسيو فرناند أن ينسى ارتباطنا السابق.
فأجابها بيرابو وهو يتصنع الغضب: إذا جسر هذا التعس على الرجوع إلى هنا تلقى ما هو أهل له. - سكن جأشك يا أبي، فإن المسيو روشي لن يكون بعلا لي.
ثم مشت بعظمة إلى المنضة وكتبت ما يأتي:
سيدي
لقد طرأت حادثة لا أجد حاجة إلى ذكرها ألجأتني إلى العدول عن اتفاقنا السابق، وإنني سأدخل الدير بأقرب حين، فأرجو أن تنقطع عن زيارتنا فإنها ستكون بغير فائدة.
وبعد أن وقعت على هذه الرسالة، أعطتها لبيرابو فقرأها وقال: لقد أحسنت، وأنا سأرسلها إليه في حينه. ثم قال في نفسه وقد كاد يطير من الفرح: بشراي، فإن سريز هي لي. وبعد ذلك خرج من المنزل والرسالة في جيبه، فركب مركبة وقال للسائق: أسرع بي إلى شارع مونستي - أي منزل باكارا. (13) فاني
بينما كان بيرابو قادما إلى منزل باكارا، كانت باكارا مختلية مع أندريا في غرفة صغيرة كانت تعدها لمقابلة أصدقائها المخلصين، وهي فيها بمأمن من أن تسمع حديثها فاني، التي كان من عادتها أن تسمع كل محادثات سيدتها بوقوفها على أبواب الغرفة التي تقابل فيها زوارها.
وكانت باكارا ساعتئذ مضطربة الفكر صفراء الوجه، والدمع يترقرق في عينيها. أما أندريا فكان هادئا ساكنا، يبسم من حين إلى حين ابتسام الهزء والسخرية، وقد دار بينهما الحديث الآتي:
قالت باكارا: أيبلغ بي الحب إلى هذا الحد من الدناءة، فأبيع أختي بيع السلع؟ - لا يغرب عنك أيتها العزيزة أن الإنسان في هذا العالم لا يربح شيئا دون أن يخسر ما يقابل ذاك الربح، وأن بيرابو سيفرق بين ابنته وبين فرناند لأجلك، أليس من العدالة أن يناله ما نالك من الفائدة؟ - ولكنها أختي التي سأضحيها. - إنك لا تضحينها، بل تعملين لسعادتها ونعيمها. - إنها نقية طاهرة لا ترغب في معيشة البغي والفساد، فهي تريد أن تتزوج. - لا بأس، فإنها ستكون بعد حين من الزمان من أسعد النساء، وسيكون لها قصور وخيول ومركبات كما لك الآن، أليس ذاك خيرا لها من أن تشتغل الليل والنهار لسد عوزها، وأن تتزوج برجل عامل قذر الملابس، خشن اليدين، يسومها الخسف والعذاب وهوان العيش؟ ثم إنها بعد أن تقيم زمنا يسيرا مع بيرابو ريثما يتم مأربك من فرناند تنفصل عنه، وتعاشر شابا غنيا ذا ثروة واسعة ينفق عليها بكرم وسخاء، فلا يمضي عليها العام حتى تغدو في أحسن حال. والآن فإن الساعة بلغت الثامنة والنصف، وإن بيرابو يكون ولا ريب قد تمم حيلته، فاثبتي الآن في عزمك، وإلا فإني أذهب إلى هرمين وألقي الحجب بينك وبين فرناند، فلا ترينه إلى الأبد.
فأحنت باكارا رأسها ولم تجب بكلمة.
Bilinmeyen sayfa