فأجاب روكامبول: طب نفسا أيها الأخ المشفق، فقد وجدت أخا مشفقا مثلك، إلا أنه كيف السبيل إلى إنقاذك؛ فإني لا أستطيع أن أنزل إليك، وليس لدي حبل أرفعك به؟ - إنك تجد على مسافة عشرين خطوة من هذه الحفرة قرب المكان الذي كنت نائما فيه، غدارتي وحقيبة أوراقي ومنطقة من جلد، وهي طويلة كنت ألف بها وسطي خمس مرات، فاذهب وأت بها فإنها كافية لإنقاذي، فإنك ترسل إلي أحد طرفيها لأتعلق به وتسحبني بالطرف الثاني. - ليطمئن بالك، وها أنا ذاهب حالا.
ثم ذهب روكامبول يمشي الهويناء وهو يخاطب نفسه: إن هذا الصخر مقفر قد لا يمر به الصيادون مرة في العام، وإذا لم أنقذه من الحفرة فلا يجد من ينقذه، وعلى ذلك فإذا أخذت أوراقه وسبحت إلى هذا البر القريب أصبح مركيزا غنيا لا ريب فيه، وبعد هل أنا رميته في الحفرة لأنقذه منها؟ إن الصدفة قد عرضت لي فلأتمسك بأهدابها؛ لأنها لا تعرض في كل حين، وفي كل حال فإنه إن كان قد أحسن إلي في هذه الحياة وأنقذني من الموت وأعطاني لقبه وماله، فسأنفعه في الآخرة؛ لأن الله سيسجل اسمه في دفتر الشهداء.
وبعد أن قال هذا القول ذهب إلى المكان الذي دله عليه، فوجد الحقيبة والمنطقة والغدارة، فجلس على الرمال وبدأ يفتح الحقيبة وأخذ يفحص ما فيها من الأوراق مطمئنا، فكانت أول ورقة عرضت عليه شهادة مركيز من شركة سفن الهند، وهي مكتوبة باسم فريدريك ألبرت دي شمري، ولد في باريس في 25 يوليو سنة 1800، وله من العمر 28 عاما.
فخاطب روكامبول نفسه: لقد علمت الآن أني صرت أدعى فريدريك دي شمري، وأني اشتغلت في سفن الهند، فلأنظر في بقية الأوراق.
ثم أخذ رسالة طويلة مكتوبة بخط رفيع متطاول، فعلم أنه خط امرأة، وكان عنوان هذا الكتاب «ولدي العزيز» والتوقيع عليه «المركيزة دي شمري»، فقال روكامبول: الحق يقال، إن السير فيليام قد خدمني في حياته وفي مماته، ولولا أوراقه لما غدوت الآن مركيزا في مقام النبلاء. ثم قرأ تحت التوقيع «شارع فانو نمرة 17 في القصر»، وبعد ذلك أخذ في تلاوة هذه الرسالة وهذا نصها:
أرسل هذا الكتاب إلى وزارة البحرية الإنكليزية، ورجائي أن يصل إليك ولو بعد حين، وأن تسرع بعد تلاوته إلى أمك وأختك، كما يرجو أبوك الذي ندم عند احتضاره لسوء ظنه، وإني لم أعلم يا ولدي العزيز إلا الآن بذلك السر الذي دفع أباك إلى الإساءة إلي وإبعادك عني، وإليك الحديث: كان المركيز دي شمري يقيم منذ 16 عاما بعيدا عني لا يكلمني، وكان يرسل إلي راتبا في كل شهر أنفقه علي وعلى أختك، وقد طالما بكيت أمامه وتوسلت إليه أن يطلعني على سر هذا الجفاء، فلم أفز منه بمراد، على أننا كنا في عيون الناس نتشارك بالسعادة والهناء، وفي الحقيقة كنا من أشد الناس نكدا، حتى حسبنا أن أباك أصيب بضرب من الجنون. أما سر هذا الجفاء فهو أن أباك لم يكن منذ ثلاثين عاما على شيء من الثروة، سوى أنه كان كولونيلا في الجيش، وكنت أنا فقيرة مثله، فتزوج بي زواج غرام، وكنت أول ثمرة من ثمرات هذا الزواج، وعندما بلغت الخامسة من عمرك، تغيرت حالة أبيك فجأة، فإن ابن عمه كبير هذه الأسرة كان أغنى الأغنياء فقتل في مبارزة.
وقبل أن يموت هذا المركيز ببضعة أعوام، اضطر أبوك إلى السفر في حملة الجرائر، فأقامني عند قريبته المركيزة دي شمري في قصره خارج باريس، ولما عاد أبوك اضطر إلى الاستقالة، بحيث بلغنا بعد استقالته إلى أقصى درجات الفقر، فخدم في إحدى المناجم بصفة كاتب، ولكن عهد شقائنا لم يطل؛ فإن المركيز هكتور شمري جرح جرحا خطيرا في مبارزة ضمان بعد أن كتب وصيته، وقد أوصى بجميع ماله إلى أبيك، وحرم أختا له وهي ابنة المركيز دي شمري من غير زوجه، فحقدت هذه المركيز حقدا عظيما علي، ووشت بي وشاية هائلة لم أعلم بها إلا أمس.
وحكاية هذه المركيزة أنها ترملت وهي في عنفوان الشباب، وكان ابنها هكتور لا يزال طفلا فلم تستطع الزواج؛ لأن زوجها اشترط عليها في وصيته أن لا تتزوج بعده أو هي تحرم من حق الإرث، إلا أنها ارتكبت هفوة ولدت بعدها بنتا وأخفتها في البدء عن العيون ، ثم جاءت بها إلى قصرها، وكانت تقول إنها يتيمة وقريبة لها. أما أخيها المركيز فقد علم سرها، ولهذا فإنه حرم أخته من الإرث وأورث ماله لأبيك، ومن ذلك العهد بدأ انتقام تلك المرأة.
وقد اتفق أنه بعد قتل هذا المركيز بثلاثة أشهر ولدت أنا أختك، وكان عمرك خمسة أعوام، أيضا ماتت هذه المركيزة فذهب أبوك إليها وحضر ساعة احتضارها، فقالت له أقوالا أملاها عليها الحقد الدفين، وكانت علة شقائي أعواما طوالا؛ لأنها كانت السبب في إبعادك عني.
فقال روكامبول في نفسه: ما هذا الكتاب؟ إنه يشبه الحكايات الموضوعة، فلأتم قراءة هذه الحكايات. واندفع في قراءة تتمة الرسالة، فقرأ ما يأتي:
Bilinmeyen sayfa