1
كان نابوليون الأول عائدا من مدينة موسكو بعدما نشبت فيها نار الروسيين، وقد غرق نصف معسكره العظيم في مياه نهر بريزينا الثلجية، وكان السيل عرما والريح زعزعا تهب من جهة الشمال، والأفق مقتما متلبدا بالغيوم السوداء، والبرد قارصا، فكانت تلك الجنود التي ألقت الرعب في قلوب أوروبا المتحدة، تقاوم بقوة اليأس جواذب النعاس المميت، وتدافع بعامل الأنفة ألم الجوع القاتل، وكان بعض المشاة ينازعون العقبان جثث الخيول، ومنهم من كان يغلبه النوم فيرقد رقدة لا انتباه بعدها، وهم مع كل ذلك يلجئون إلى الفرار من حين إلى حين خشية مدافع الروسيين ومطاردة القوزاق، وإن بين أولئك المنكودين ثلاثة فرسان قد أووا إلى غابة صغيرة، وجعلوا يجردون الثلوج عن أغصان العليق، ثم أحرقوها وقعدوا حولها يصطلون.
وكان أحدهم في الخامسة والثلاثين من عمره مرتديا بملابس تدل على أن له في الجيش رتبة أميرالاي، وهو فوق الربعة في الرجال، أزرق العينين، قد ارتسمت على محياه النبيل علائم الشجاعة والصبر، وهو ملقى بين رفيقيه، وقد تكسرت ذراعه وأثخن بالجراح.
وكان الثاني قائد مائة، وهو في مقتبل الشباب أسمر لون الوجه، ذو نظر مضطرب لا يستقر، وقد جلس إلى جنب رئيسه يعينه على الاصطلاء، ولوائح الاضطراب ظاهرة على وجهه العبوس.
أما الثالث فكان من جنود الحرس، وقد طار فؤاده شعاعا لجراح مولاه، فكان جالسا بقربه، ودموع الحنو تنهمل من عينيه، فكان إذا سمع دوي مدافع أو أحس بوقع حوافر ينهض نهضة الليث، ويسير باحثا عن جهة المطاردين، ثم يعود إلى مولاه فيغسل جراحه الثخينة بمنهل الدموع.
وكان الظلام قد أقبل، وأخذ ضباب الشفق المقتم يمزج الأرض بالسماء، فنظر الأميرالاي إلى قائد المائة وقال له: ما ترتئي يا فيليبون، أنقيم الليلة في هذا المكان؟
فلم يدع الجندي مجالا للقائد، وأجاب بحماسة: مولاي، إن البرد قارص، وليس من الحكمة أن نبيت في هذه الغابة؛ فإن القوزاق قريبون منا .
فجعل الأميرالاي ينظر إليهما، ثم سأل فيليبون ثانية عن رأيه، فأجاب: لقد أصاب بستيان فيما ارتآه من وجوب الرحيل؛ لأننا إذا اختفينا في هذا المكان الخطر فلا نفيق، ومتى خمدت النار نموت من البرد، وفوق ذلك فإن دوي مدافع الروسيين ينذرنا بقربهم منا، فلا نجاة لنا إلا بالفرار.
فتنهد الأميرالاي وقال: يا للشقاء ويا للعار! أنهرب من وجه فرقة من القوزاق، وما يتحدث الناس عنا ومن عرف ما لنا من الإقدام، ولكن ويلاه من يستطيع أن يغلب الطبيعة، ومن يطيق ثباتا أمام هذا البرد الهائل؟ بل كيف أقدر على الرحيل وقد وهنت قواي لفرط ما نزف من دمائي؟ بالله دعوني أموت قرب هذه النار، فإن رجلي قد ضعفتا عن حملي.
قال هذا وقد صاح صيحة الألم، وانطرح أمام النار وهو على وشك الموت.
Bilinmeyen sayfa