اقترب منها وأمسك بيدها، حوطها بذراعيه، تركت له جسدها مثل وسادة يضع عليها رأسه وينام، لم تشعر بشيء إلا أن الجسد شيء ما تملكه مصنوع من الوهم، وتذكرت كارمن، كانت تراقبهما من بعيد، استأجرت جاسوسا يتبع زوجها أينما يذهب، يرقبهما من منظار في السقف له عدسة سحرية، كان يعانقها وهي تفكر في كارمن، يصرفها التفكير عن الإحساس باللحظة الحاضرة، صوته مشروخ متحشرج تخنقه دموع، كلماته مبتورة:
أخيرا ... فكرت ... الحل الوحيد ... نقطع العلاقة ... تمادينا فيها ... أكثر من اللازم ... دي كلمتي الأخيرة ... الأخيرة ...
كلمة الأخيرة مثل السوط يضرب به وجهها المرة بعد المرة، تلتقي الضربات بشيء من الألم لا يخلو من اللذة، تدرك عن يقين أنها لن تكون الأخيرة، وإن رددها مئات المرات، آلاف المرات، لن تكون أبدا الأخيرة. وتهمس بصوت غير مسموع: أنت تتلاعب بالكلمات لتنال ما تشتهي، ويغمرها بقبلات محمومة، فوق رأسها وشعرها وعنقها، يزحف بشفتيه الساخنتين فوق جسدها، والدموع في عينيه، مسحتها بكف يدها، قبلته بحنان الأم، ابتعد عنها وهو يساوي شعره ويعدل قميصه الأبيض: آسف، أنا مجنون، وأنت عاقلة جدا، عاقلة زيادة عن اللزوم، أنت كاتبة فعلا.
وقال لنفسه بلا صوت: هي باردة مثل كارمن، أو فاترة، كانت المرة الأولى التي يقبلها فوق الشفتين، ربما هو الخجل مثل العذراوات، أو الخوف، أو شيء آخر تراه في عينيه وعيناها مغمضتان، أصابعه ترتعش زاحفة فوق جسدها، عيناه مغمضتان وذاكرته مفتوحة على الماضي، يقبلها بحرارة الذكرى الطفولية، ابتعدت عنه قليلا وهي تساوي شعرها المنكوش، صوتها لا يكاد يسمع: نسيت اللي قلته؟ - قلت إيه؟ - قلت لازم نقطع علاقتنا. - آه صحيح.
اعتدل في جلسته وابتسم، ذاكرتك قوية تحسدين عليها، وهي موهبة تساعدك على الكتابة. - آه صحيح، لازم نقطع هذه العلاقة، لا يمكن أن نخون ثقة كارمن وسميح، دي أنانية مطلقة خالية من الضمير! - الضمير؟ - أيوه الضمير! - الحب لا يعرف شيء اسمه الضمير، الحب هو الضمير نفسه. - أرجوك كفاية تلاعب بالكلمات. •••
قبل أن تدخل كارمن المستشفى قررت أن تنهي الرواية، بدت لها رواية خالية من الأحداث العظيمة، الحرب في العراق والمذابح في فلسطين، المظاهرات الشعبية في بلاد العالم، حركات المقاومة ضد الحرب، وضد الفقر والعولمة، رواية تافهة غارقة في حياة أفراد لاهين بالحب والنبيذ والخيانات، أمسكت الرواية لتلقي بها في صحيفة القمامة، ثم تذكرت أن رستم كان يخوض معركة الانتخابات، وهي معركة حامية تشبه الحرب في ساحة القتال، زمن الحرب عند رستم هو زمن الحب، في طفولته يغمره الحنين إلى أمه وهو يهتف في المظاهرات: لا للحرب لا للاستبداد. •••
استيقظت الفتاة من النوم على صوت المفتاح يدور في الباب، كعب جمالات العالي يدق بلاط الصالة، تهمس بصوت خافت وهي تدخل الحمام، بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تطرد الأرواح الشريرة القابعة في جدران المرحاض، تتشمم الإثم في هواء الشقة الراكد، ترتدي شبشبها البلاستيك، تزحف قدماها فوق البلاط، تبسمل وتحوقل، تمط أنفها هنا وهناك تتشمم الهواء. - رستم كان هنا؟
تتفادى الفتاة النظر في عينيها، تهز رأسها علامة النفي أو الإيجاب، سيان، لم تعد جمالات تحتل في عقلها مساحة كبيرة، لم تفهمها على حقيقتها أبدا، تتربع في سريرها في ليالي الشتاء متدثرة بلحافها الأحمر، إلى جوارها فوق الكوميدينو طفاية السجاير، مليئة بالأعقاب حتى الحافة، تدس السيجارة بين شفتيها الحمراوين، تتمتم بآيات القرآن، ترشف النبيذ الرخيص يلسع الحلق كالسبيرتو، تتبع كل رشفة بشفطة دخان، تكيل الحمد لله على ما أعطاها من نعم الدنيا، وما يغفر لها في الآخرة من ذنوب، تفسح للفتاة مكانا إلى جوارها في السرير، وتحكي عن المرحومة أمها وزوجها المجحوم. - كان جوزي راجل حمش، في ليلة سمعني بتكلم وأنا نايمة، كان المسدس تحت مخدته من أيام ما كان في الجيش، يظهر سمعني بحلم بواحد غيره، الدم غلي في راسه وضربني بالنار، ربنا ستر والطلقة طلعت أوت، قال لهم في التحقيق إنه عمره ما سمع مراته بتتأوه معاه زي ما سمعها بتتأوه مع الراجل الثاني، ودمهم غلي زي دمه وطلعوه براءة، قوليلي إنتي بتكتبي رواية؟ - رواية؟
تتفادى الفتاة النظر في عينيها، تهز رأسها علامة النفي، لم تفكر أبدا في كتابة رواية، تحذرها جمالات من الكتابة، الله يلعن الكتابة واللي عمل الكتابة، ممكن أشيل الحجر على ضهري أسهل من الكتابة، لولا الواد بهي برغل ما كانش الباب بتاعي يطلع كل أسبوع، طول عمري أكره القراية والكتابة، لكن أعمل إيه؟ ربنا كتب علي إني أكون جمالات الكاتبة الكبيرة ... وتطلق جمالات ضحكتها العالية المرحة، تبدو جذابة في عين الفتاة حين تضحك، يكسو البريق عينيها حين تتحدث عن الحب، تهوى قصائد العقاد وشوقي ورامي، تدندن بأشعار مريم وهي في الحمام.
ذات ليلة والفتاة جالسة إلى جوارها في السرير، امتدت يدها إلى جسدها، أرادت أن تدربها على ما تسميه فنون الحب، حوطتها بذراعيها وقبلتها فوق الشفتين قبلة حارة طويلة، ثم زحفت يدها إلى صدرها وبطنها، حتى المنطقة المحرمة.
Bilinmeyen sayfa