Risalat Ibn Ghursiya fi al-Sha'ubiyyah wa al-Rudud Alayha - within Rare Manuscripts
رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها - ضمن نوادر المخطوطات
Araştırmacı
عبد السلام هارون
Yayıncı
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٣٩٣ هـ - ١٩٧٢ م
Türler
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
تقديم
هذه هي المجموعة الثالثة من (نوادر المخطوطات)، وهي وثيقة هامة تقدم إلى خاصة الأدباء والباحثين مادة غزيرة في ناحية مغلقة من نواحي الأدب العربي، وتعرض لونا من ألوان الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية في بلاد الأندلس في القرنين الخامس والسادس.
وقد كان للصديق الفاضل «الدكتور شوقى ضيف» فضل تعريفى برسالة ابن غرسية التي لم أكن أعرف عنها إلا الاسم فحسب، وقد عثر عليها في أثناء تفتيشه لذخيرة ابن بسام (^١).
وعندما رجعت إلى الذخيرة وجدت النص، فيها مضطربا شديد التحريف، فبحثت عن مرجع آخر يسعف في تحقيق هذا النص، فساقني المطاف إلى فقر متناثرة نشرها المستشرق الألماني الكبير إجنتز جولدتسيهر lgnaz Goldziher في أثناء بحثه في (الشعوبية عند مسلمى الأندلس) الذي قدمه إلى مؤتمر المستشرقين الثاني عشر بمدينة روما في أكتوبر سنة ١٨٩٩ ونشره في مجلة الجمعية الألمانية الشرقية (^٢).
وقد رأيت أن أطلع على البحث المكتوب باللغة الألمانية، فاتصلت بالصديق الفاضل «الدكتور عبد الحليم النجار» الأستاذ المساعد بكلية الآداب بجامعة القاهرة، الذي كان له فضل إمدادى بترجمة دقيقة لهذا البحث استوجبت جزيل شكري وعظيم التقدير.
_________
(^١) القسم الثالث من مخطوطة جامعة القاهرة رقم ٢٦٠٢٢ ص ٢١٩ - ٢٣١.
(^٢)
Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft
المجلد ٥٣ ص ٦٠١ - ٦٢٠ ليبسك ١٨٩٩.
1 / 229
وكان في النية أن أنشر هذه الترجمة النفيسة في هذه المجموعة، ولكني وجدت فيما بعد أن نطاق المجموعة يضيق عن استيعاب نص هذا البحت المسهب، فآثرت أن أوجزها إيجازا، وأن ألحقها بنهاية هذا التقديم.
وقد دلنا جولدتسيهر على مخطوط في مكتبة الإسكوريال برقم (٥٣٨) يتضمن هذه الرسالة وبعض الردود عليها. وهو مخطوط نادر مكتوب بخط مغربى مجهول التاريخ وإن كان يبدو عليه سمة القدم، كتب في صدره:
«الحمد للّه. مجموع فيه مبايعة علي بن أبي طالب أبا بكر الصديق رضى اللّه عنه وتفسير ألفاظها لغة، ومكاتبات الأمير علي بن يوسف بن تاشفين، ومخاطبة الراهب الفرنسي وجوابه للإمام أبى الوليد الباجي، ومكاتبات أهل سبتة لأهل الجزيرة الخضراء، ومضحكات وغرائب. باللّه يثق وعليه يتوكل ويعتمد مالكه محمد ابن يوسف بن محمد. وفيه المراسم الجدلية ومسائل من أصول الفقه. والحمد للّه وحده».
وهذه العنوانات هي بعض ما ورد في مجموعة الإسكوريال، وهناك عنوانات أخر لرسائل كثيرة تضمنها هذا المجموع النادر.
وبذلك اجتمع لنا نصان يسعفان في نشر هذه الرسائل النادرة.
نص الذخيرة ونص مجموعة الإسكوريال أما نص الذخيرة (^١) فإنه يشتمل على رسالة ابن غرسية، ورسالتين أخريين هما:
١ - رد أبى جعفر أحمد بن الدودين.
٢ - ثم رد أبى الطيب بن من اللّه القروي.
وأما نص المجموعة فإنه يشتمل على الرسالة وعلى ردود أربعة، وهي:
١ - رسالة أبى يحيى بن مسعدة.
٢ - ثم رسالة لم يصرح باسم كاتبها، وأرجح أنه أبو يحيى.
٣ - ثم رسالة أبى جعفر بن الدودين.
_________
(^١) مما يجدر ذكره أن جولدتسيهر لم يطلع على هذا النص، ولم يشر إليه في بحثه.
وكان ذلك سببا في عثرته التي أشرت إليها في ص ٢٤٢.
1 / 230
٤ - ثم رسالة أبى الطيب بن من اللّه القروي.
ومما هو جدير بالذكر أن صاحب مجموعة الإسكوريال قد نقل الرسالتين الأخيرتين من الذخيرة ولم يصرح بذلك، فإننا نجد نص رسالة أبى جعفر بن الدودين هو نص الذخيرة، لا يفترقان إلا في القليل.
ونلفى صدر رسالة أبى الطيب في المجموعة هو عبارة ابن بسام وسجعه في الذخيرة بالحرف الواحد: «وممن رد عليه وأجاد، ما أراد، أبو الطيب بن منِّ الله القروي برسالة طويلة أثبت منها بعض الفصول، تخفيفا للتثقيل».
ثم نرى توافقا تاما في تقسيم فصول الرسالة وفقرها، إذ يبدو لنا أن هذا النص مؤلف من فصول مختارة من الرسالة، وليس نصّا كاملا.
ثم نطالع هذه العبارة في الورقة (٥١ ا): «قال صاحب الكتاب: وبين أبو الطيب بطلان كلامهم في احتجاج طويل، تركته تخفيفًا للتثقيل». وهذه هي عبارة الذخيرة بنصها. وصاحب الكتاب هو ابن بسام صاحب الذخيرة بلا ريب.
فلأن نص مجموعة الإسكوريال أعظم قيمة من حيث هي أقدم خطّا، وأصح متنا، وأكثر استيعابا في النص، واشتمالا للردود - جعلتها أصلا في نشر هذه المجموعة، وجعلت نص الذخيرة للمقابلة والاستعانة في التحقيق.
أبو عامر بن غرسية:
أفرد له علي بن سعيد صاحب المغرب المتوفى سنة ٦٨٥ ترجمة خاصة (^١) قال فيها:
«أبو عامر بن غرسية (^٢) من عجائب دهره، وغرائب عصره، إن كان نصابه
_________
(^١) المغرب ٤: ٢٣٦ مخطوطة دار الكتب ٢٧١٢ تاريخ.
(^٢) غرسية تعريب «جارسيا»: Garcia ومعناه في الأسبانية ذو الحيلة، أو الثعلب أو الماكر، كما ورد في معجم المجمع العلمي الأسبانى (Dicionario de la LinguaEspanola) وهو علم شائع في بلاد الأندلس تسمى به كثير من ملوكهم وأمرائهم وفرسانهم. وذكر ابن حزم في جمهرة الأنساب ٤٦٧ تحقيق پروفنسال: «غرسية» ملك البشاكسة الذي زفت إليه أورية بنت قسى، فولدت له «موسى بن غرسية». ومن أبرز علماء المشرقيات الأسبانيين المعاصرين صديقنا الأستاذ «إميليو جارسيا جوميز»: Emilio Garcia Gomez الأستاذ
1 / 231
في العجمية، فقد شهدت له رسالته المشهورة بالتمكن من أعنة العربية، وهو من أبناء نصارى البشكنس (^١)، سبى صغيرا وأدبه مجاهد مولاه، ملك الجزر ودانية.
وكان بينه وبين أبى جعفر بن الخراز صحبة أوجبت أن استدعاه من خدمة المعتصم ابن صمادح ملك المرية، ناقدا عليه ملازمة مدحه وتركه ملك بلاده».
ثم قال: ومن شعره:
إن أصلى كما علمت ولك … ن لساني أعز من سحبان
وأنا من خير الملوك بصدر … هل ترى بالقناة صدر السنان
ويحمل هذا النص:
١ - أن مولد أبى عامر كان ببلاد البشكنس. وبفهم ذلك أيضا من نصوص البلوى في كتابه ألف باء ١: ٣٥٠.
٢ - وأنه انتقل إلى دانية من أعمال بلنسية في سباء وقع عليه وهو صغير، حيث ربى في كنف أبى الجيش مجاهد العامري (^٢).
_________
بجامعة مدريد. ومما يجدر ذكره أن هناك عالما جليلا من علماء الأندلس يشترك مع أبي عامر في الكنية، وهو أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن محمد بن بشر بن غرسية القرطبي المالكي، ويعرف أيضا بمولى بنى فطيس، ولاه متولى قرطبة علي بن محمود الحسنى القضاء سنة ٤٠٧ وتوفى في شعبان سنة ٤٢٢ وله ثمان وخمسون. ذكره الذهبي في سير النبلاء (القسم الأول من الجزء ١١ مصورة دار الكتب رقم ١٢١٩٥ ح). قال الذهبي: «ولم يجيء بعده قاض مثله».
(^١) البشكنس أو البسك: Basgues ويسميهم المسعودي «الوشكنس» هم قوم يسكنون ما بين جنوب فرنسا والشمال الشرقي من أسبانيا مما يجاور خليج «بسكاى». ويتميزون عن جيرانهم بلغتهم غير الآرية، ولهم ميل إلى الأخذ بالخرافات والمحافظة على القديم، وهم ذوو حماسة وكبر وتمسك بالمعتقدات الدينية والمبادئ الأخلاقية، تبلغ عدتهم نحو ٦٠٠ ألف منهم ١٢٠ ألفا في الأقاليم الفرنسية. انظر المعلمة البريطانية، وكذا:
Great encyclopedia of univeal Krsnowlages
(^٢) هو أبو الجيش، الموفق مجاهد بن عبد اللّه العامري، مولى عبد الرحمن الناصر ابن المنصور محمد بن أبي عامر. نشأ بقرطبة، ولما جاءت الفتنة وتغلبت العساكر على النواحي بذهاب دولة بنى أبى عامر، قصد إلى الجزائر التي في شرق الأندلس فغلب عليها وحماها، ثم حاول الاستيلاء على سردانية فنجح ثم صدته الروم، ثم استولى على دانية وما يليها، وتوفى سنة ٤٣٦. جذوة المقتبس ٣٣١ - ٣٣٢ تحقيق محمد بن تاويت.
وفي المغرب ٤: ٢٢٦: «وكان جليل القدر، له غزوات في النصارى في البحر -
1 / 232
٣ - ويبدو أن أبا عامر كان له شأن عظيم في دولة مجاهد، الأمر الذي حمله على أن يستدعى صديقه أبا جعفر بن الخراز لينضم إليه في خدمة مولاه مجاهد. كما يفهم من نص لابن الأبار (^١) أنه كان لابن غرسية ولد سماه «أبا جعفر أحمد» كان له مؤدب خاص من بين العلماء، وهو «أبو العباس الجريري». قال: «وسكن دانية وكان بها يؤدب أبا جعفر أحمد بن أبي عامر بن غرسية الكاتب». فهذا دليل على أنه كان من خواص الدولة، ودليل أن عمله الرسمي كان الكتابة.
٤ - ويفهم أيضا من هذا النص ومن ترجمة مجاهد التي سقتها من قبل أن ابن غرسية وجد في كنف مجاهد مرعى صالحا لشعوبيته، إذ أن مجاهدا كان مولى من موالى الروم، وهم مظنة البعد عن العصبية العربية.
وفي ذلك يقول أبو يحيى بن مسعدة في أواخر رسالته:
أيا عبد عبدٍ ألا تستحي … ولا لك دون النهى زاجر
فهو يعيره بأنه مولى مولى.
بل يبدو أن «مجاهدا العامري» كان مأوى وملاذا للشعوبيين، فكما نشأ ابن غرسية في بلاطه، نجد عالما آخر لائذا بكنفه، وهو اللغوي ابن سيدة صاحب المخصص. جاء في سير النبلاء (^٢) في ترجمته: «كان شعوبيا يفضل العجم على العرب» ثم قال: «وكان منقطعا إلى الأمير مجاهد العامري».
٥ - وهو يحاول أن يجتذب صديقه أبا جعفر بن الخراز من كنف ملك عربى، هو المعتصم باللّه أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح التجيبى (^٣)، وكان المعتصم
_________
- مشهورة، ومن أعظم ما فتحه جزيرة سردانية الكبيرة، وكان محبا للعلماء محسنا لهم، كثير التولع بالمقرئين للكتاب العزيز حتى عرف بذلك في بلده، وقصد من كل مكان، وشكر في الأقطار بكل لسان، وقد أثنى عليه ابن حيان في كتاب المتين بهذا الشأن. وقد وفد عليه أفذاذ الشعراء كإدريس بن اليمان، وجلة العلماء كابن سيدة».
ومما يجدر ذكره أن مجاهدا كان «رومى» الأصل. انظر المعجب للمراكشى ص ٤٨ طبع السعادة. وانظر أخبارا أخرى لمجاهد مع العلماء في جذوة المقتبس ١٧٢، ١٧٣، ٢٩٣
(^١) في المعجم ص ٢٩٩.
(^٢) سير النبلاء ج ١١ القسم الثاني ص ١٨٠ مصورة دار الكتب.
(^٣) انظر ترجمته في قلائد العقيان ٤٧، ووفيات الأعيان، والحلة السيراء ١٧٢.
وكانت وفاته سنة ٤٨٤. وتجيب: بطن من كندة.
1 / 233
ملكا على المرية، وهي مدينة كبيرة من كورة ألبيرة من أعمال الأندلس، وكانت هي وبجانة بابى الشرق.
٦ - وهو في ذلك يعتب عليه، لتركه مدح مجاهد واقتصاره على مدح ابن صمادح، كما يفهم من نص المغرب مقرونا إلى نص ابن بسام التالي.
تاريخ الرسالة:
مما لا يتطرق إليه الشك أن الرسالة كتبت في حياة مجاهد، مولى أبى عامر ابن غرسية، بعد استيلائه على «دانية». وتمتد حياة مجاهد السياسية ما بين سنتي ٤٠٦ و٤٣٦. وكانت دانية آخر ما استولى عليه من البلاد، وفيها وطد ملكه (^١).
أبو جعفر بن الخراز:
نص المغرب في ترجمته لأبى عامر بن غرسية (^٢) يعين أن الذي أرسل إليه أبو عامر رسالته هو «أبو جعفر بن الخراز».
وكذلك نص ابن بسام في الذخيرة يقول إن أبا جعفر بن الخراز هو الذي أرسلت إليه الرسالة. قال ابن بسام في صدر ترجمته لأبى جعفر أحمد بن الدودين البلنسى (^٣):
«وأخبرني برسالته التي رد فيها على أبى عامر بن غرسية، وكان - لحاه اللّه وأبعده - قد استقر بمدينة دانية في كنف مجاهد، فخاطب الأديب أبا جعفر بن الخراز معاتبا له لتركه مدح مجاهد، واقتصاره على مدح ابن صمادح التجيبى ....».
ثم قال: «وهذه نسخة رسالة ابن غرسية يخاطب الشاعر ابن الخراز».
ونص ثالث في التكملة (^٤) في ترجمة أبى عبد اللّه محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد
_________
(^١) جذوة المقتبس ٣٣١ - ٣٣٢.
(^٢) انظر ما سبق في ص ٢٣١ - ٢٣٢.
(^٣) القسم بالثالث من الذخيرة ص ٢١٩ مخطوطة جامعة القاهرة رقم ٢٦٠٢٢.
(^٤) التكملة ١: ١٥٧.
1 / 234
ابن سهل الأنصاري المعروف بابن الخراز، قال: «وكان أبوه أبو جعفر أيضا شاعرا (^١)، وهو الذي خاطبه أبو عامر بن غرسية بالرسالة المشهورة».
فهذه المراجع جميعها تنص نصا واحدا، أن الذي كاتبه أبو عامر بن غرسية إنما هو «أبو جعفر بن الخراز».
ولكنا نجد في صدر هذا النص من مجموعة الإسكوريال أن الذي كاتبه أبو عامر إنما هو «أبو عبد اللّه بن الحداد».
ويزيد في هذه الشبهة أننا نجد شاعرا كان يلزم ابن صمادح ويمدحه، وهو «أبو عبد اللّه بن الحداد» واسمه محمد بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم القيسي، كما ذكر ابن خلكان (^٢).
ويقويها أيضا ما ورد في سير النبلاء للذهبي (^٣) في ترجمة ابن صمادح: «ومن وزرائه أبو بكر بن الحداد الأديب».
والقول في ذلك أنهما - كما يبدو - شخصان مختلفان في الاسم والنسب والانتساب، اتصل كل منهما بابن صمادح ومدحاه، ولكن الذي أرسل إليه ابن غرسية الرسالة إنما هو «أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن سهل الأنصاري» المعروف بابن الخراز.
ومما يعزز ذلك أن صاحب المغرب نص عليه في ترجمته لأبى عامر بن غرسية.
وصاحب المغرب يعرف ابن الحداد أيضا ويترجم له في موضع آخر من المغرب (^٤)، قال: «أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن الحداد القيسي … وصفه الحجارى وابن بسام
_________
(^١) من شعره ما أنشده المقرى في نفح الطيب ٥: ٤٣:
وما زلت أجنى منك والدهر ممحل … ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد
ثمار أياد دانيات قطونها … لأوراقها ظل على ممد
يرى جاريا ماء المكارم تحتها … وأطيار شكري فوقهن تغرد
(^٢) وفيات الأعيان ٢: ٣٥ في ترجمة محمد بن معن بن أحمد بن صمادح. وأنشد ابن خلكان وكذا المقرى في نفح الطيب ٤: ٢٤٦/ ٥: ٢٤٠ مدائح لأبى عبد اللّه بن الحداد في المعتصم ابن صمادح.
(^٣) القسم الثاني من الجزء ١١ ص ٢٨٤ مصورة دار الكتب.
(^٤) المغرب ٥: ٢٣٥ من النسخة ١٠٣ تاريخ م.
1 / 235
بالتفنن في العلوم ولا سيما القديمة. وديوان شعره كبير جليل، وكان أكثر عمره عند المعتصم بن صمادح ملك المرية، ثم فرعنه إلى ابن هود صاحب سرقسطة».
فهو يعرف الرجلين ويميز بينهما.
وأما ما ورد في صدر مجموعة الإسكوريال فلا يبعد أن يكون من تصرف أديب أو ناسخ، ساقته معرفته لصاحب العلاقة المشهورة يا ابن صمادح أن يجعله هو أيضا صاحب أبى عامر بن غرسية الذي ساق إليه الرسالة، ومما أسعف في ذلك قرب إحدى الكلمتين في الرسم من الأخرى، أعنى «الخراز» و«الحداد».
أصحاب الردود على رسالة ابن غرسية:
كان أجدر بأبى جعفر بن الخراز أن يرد على صديقه أبى عامر بن غرسية موافقا أو مخالفا، ولكن لم تذكر لنا المصادر التي نعرفها أنه كتب ردا، فضلا عن أن تحمل إلينا ذلك الرد. بيد أن هذه المجموعة التي حفظتها مكتبة الإسكوريال قد نقلت إلينا ردودا أربعة (^١):
(أولها) رد أبى يحيى بن مسعدة. ويبدو أنه كان شيخا جليلا في حضرة ملوك المغرب. ونجد في هذا الرد ذكر الإمام المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد اللّه القرشي العلوي. ومحمد هذا هو المعروف بمحمد بن تومرت (^٢)، وكان قيامه بالأمر سنة ٥١٥ ووفاته سنة ٥٣٤. ونجد في الرد أيضا ذكر عبد المؤمن بن علي (^٣)، وكانت ولادته سنة ٤٨٧ ووفاته سنة ٥٥٨. وهذه التواريخ تبعد كثيرا عن التاريخ الذي كتبت فيه رسالة ابن غرسية، هذا التاريخ الذي لا يصح أن يتجاوز سنة ٤٣٦ وهي سنة وفاة مجاهد ملك دانية.
_________
(^١) يبدو أن جولدتسيهر لم يقع إليه إلا رسالة ابن غرسية فقط كما يفهم من كلامه في بحثه إذ ذكر أن صديقه Louis Barran قد أمده بصورة شمسية من الرسالة عن مخطوطة الإسكوريال.
(^٢) المعجب ١١٥ - ١٢٥.
(^٣) المعجب ١٢٥ - ١٥٣.
1 / 236
ويستغرق هذا الرد من مجموعة الإسكوريال الورقات من ٢٩ - ٤١.
وهذا الرد هو أكبر الردود وأحفلها.
(ثانيها) رد لمجهول، وعنوانه في الأصل «رسالة ثانية في الرد على ابن غرسية».
فمن المحتمل أن يكون رسالة ثانية لأبى يحيى بن مسعدة، أو تكون لأحد الذين قد جرى لهم ذكر في التاريخ أنهم تناولوا الرسالة بالرد، وسأذكرهم فيما بعد.
وإني أرجح الاحتمال الأول ترجيحا، لسببين.
١ - التشابه الشديد بين أسلوبى الرسالتين، ويبدو ذلك واضحا لمن درس الرسالتين ولمس الروح السارية في تضاعيف كل منهما.
٢ - التقارب الشديد بين بعض العبارات، مما ينطق بأن صاحبهما واحد.
ومن أمثلة ذلك:
١ - ما جاء في الرد الأول في الورقة ٣٢ ا: «لقد ذهبتم من العار بحمه ورمه، والفحل السوء يبدأ بأمه» وفي الرد الثاني ٤٢ ا: «ذهبوا والله من العار بثمه ورمه، وفحل السوء يبدأ بأمه».
ب - ٣٣ ا «الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل» وفي الثاني ٤٢ ا «ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل».
ح - ٤٠ ا «وتجعل الخصل كله للعرب، والفضل للنبع على الغرب» وفي الثاني ٤١ ا «فتعلم أن البأس للعرب، وأن النبع ليس من الغرب».
د - ٣٦ ا «وأبرهة ذي المنار، وعمرو ذي الأذعار» هو بنفسه في الثاني ٤١ ا.
هـ - ٣٦ ا «يزدجردكم وشهرياركم» هو بنفسه في الثاني ٤١ ا.
و- ٣٦ ب، ٤١ ا اتفق اقتباس هذا البيت:
ولم أر أمثال الرجال تهافتوا … على المجد حتى عد ألف بواحد
ز - ٣٨ ا، ٤١ ا تطابق اقتباس هذا البيت:
والليث حيث ألب من … أرض فذاك له عرين
1 / 237
إلى غير ذلك كثير، مما يقرب القطع بأن صاحب الرسالتين كاتب واحد.
وهذا الرد يستغرق من مجموعة الإسكوريال الورقات من ٤١ - ٤٣.
ولم يذكر جولدتسيهر هذا الرد ولا أشار إليه.
(ثالثها) رد أبى جعفر أحمد بن الدودين (^١) البلنسى، وكان هذا معاصرا لابن بسام صاحب الذخيرة (^٢)، قال في صدر ترجمته: «هو أحد من لاقيته وشافهته، وأملى على نظمه ونثره [بأشبونة (^٣)] سنة سبع وسبعين (^٤) وأخبرني برسالته التي رد فيها على أبى عامر بن غرسية».
وقد فات «جولدتسيهر» أن يذكر هذا الأديب في ثبت من ردوا على ابن غرسية. انظر الحاشية (١) من ص ٢٣٦. مع أن هذه الرسالة في ضمن مجموعة الإسكوريال من الورقة ٥٣ - ٥٤.
وهذه الرسالة لم يذكرها البلوى ولا صاحب كشف الظنون.
(رابعها) رد أبى الطيب بن من اللّه القروي، وهو الفقيه الأديب أبو الطيب عبد المنعم بن من اللّه الهوارى القيرواني، كما في الصلة لابن بشكوال (^٥). ونسبة «القروي» هي الثابتة في نص مجموعة الإسكوريال، وأما كتاب ابن بشكوال فيجعلها «القيرواني».
_________
(^١) في الذخيرة (القسم الثالث الورقة ٢١٩ مخطوطة جامعة القاهرة): «الدودى» وفي مسالك الأبصار (القسم الثاني ج ١١ الورقة ٤٤٩ من النسخة رقم ٢٥٦٧) وكذا نفح الطيب (٥: ٢٩٠): «الدودى».
(^٢) يخلط بعض المؤرخين بين ابن سام صاحب الذخيرة وبين البسامى الشاعر الهجاء، ومنهم صاحب كشف الظنون، وصانعو فهرس دار الكتب، جعلوا وفاة ابن بسام (سنة ٣٠٢) وهذه الوفاة إنما تصدق على البسامى، واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن منصور بن بسام.
وأما ابن بسام صاحب الذخيرة فهو أبو الحسن علي بن بسام التغلبي الشنترينى، ترجم له ابن سعيد في المغرب ١: ٤١٧ تحقيق الدكتور شوقى ضيف، وياقوت في معجم الأدباء ١٢: ٢٧٥ والمقرى في نفح الطيب ٥: ٩. وأرح المقرى وفاته (سنة ٥٤٢).
(^٣) التكملة من المسالك عن الذخيرة.
(^٤) أي وأربعمائة.
(^٥) الصلة رقم ٨٣٥.
1 / 238
قال (^١): «قدم الأندلس وحدث بشرقيها عن أبي بكر محمد بن علي بن الحسن بن البر التميمي، وكان أديبا شاعرا، وتوفى يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر سنة ٤٩٣».
وقد حفظ لنا البلوى في كتابه (^٢) عنوان رسالته، وهو «حديقة البلاغة، ودوحة البراعة، المورقة أفنانها، المثمرة أغصانها، بذكر المآثر العربية، ونشر المفاخر الإسلامية، والرد على ابن غرسية فيما ادعاه للأمم العجمية». وعرف هذا العنوان أيضا صاحب كشف الظنون.
ردود تاريخية:
وأعنى بها الردود التي حفظ التاريخ أسماءها ولم نصل بعد إليها.
١ - رد الفقيه أبى مروان عبد الملك بن محمد الأوسي. ذكره البلوى وصاحب كشف الظنون، وعنوانه «رسالة الاستدلال بالحق، في تفضيل العرب على جميع الخلق، والذب والانتصار، لصفوة اللّه المهاجرين والأنصار».
٢ - رد الكاتب ذي الوزارتين أبى عبد اللّه محمد بن أبي الخصال الغافقي المتوفى سنة ٥٤٠ سمى رسالته «خطف البارق وقذف المارق، في الرد على ابن غرسية الفاسق، في تفضيله العجم على العرب، وقرعه النبع بالغرب». ذكرها البلوى وصاحب كشف الظنون، وقد رآها البلوى (^٣) وقال: «فأما ابن أبي الخصال، فأخنى عليه وصال، بحجاج أمضى من النصال، ما له عنها انفصال».
وقال ابن الأبار (^٤) في ترجمة ابنه عبد الملك: «ووجدت سماعه من أبيه في نسخة من رسالته التي رد فيها على ابن غرسية في جمادى الآخرة سنة ٥٢٨».
٣ - رد أبى محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي الغرناطي، وكان
_________
(^١) الصلة رقم ٨٣٥.
(^٢) ألف باء ١: ٣٥٠.
(^٣) ألف باء ١: ٣٥١.
(^٤) تكملة الصلة رقم ١٧٠٠.
1 / 239
يعرف بابن الفرس، ذكر ابن الأبار (^١) جده وقال: «وكان هو وابنه محمد وابن ابنه عبد المنعم بن محمد فقهاء ثلاثة في نسق».
وذكر النباهى في تاريخ قضاة الأندلس (^٢) عبد المنعم هذا في قضاة غرناطة، وذكر وفاته في سنة ٥٩٧. وترجم له أيضا ابن الأبار (^٣).
وقد عرف هذه الرسالة البلوى وصاحب كشف الظنون ولم يذكرا لها عنوانا.
٤ - رد عبد الحق بن خلف بن مفرج، ذكر في تكملة التكملة (^٤).
رد أبى الحجاج البلوى:
وهو أبو الحجاج يوسف بن محمد المالكي الأندلسي، المعروف بابن الشيخ، من أدباء القرن السادس. وقد وقعت إليه رسالة ابن غرسية مع طائفة من ردود الأدباء، وفي ذلك يقول (^٥) بعد أن ساق ثبت ردود الأدباء على ابن غرسية:
«وقد أراني جميع ذلك بعض الأصحاب، ممن هو في العلم كالسحاب، وفي جملتها كلام ابن غرسية المذكور في رسالته الدالة على فساد القول وفسألته، التي فضل فيها على العرب العجم، وأراد أن يعرب فأعجم، فقلت وقد غاظنى ما رأيت لهذا الجاهل من الاقتراف، وأنا بالعجز عن معارضة من سبقني من العلماء ذو اعتراف» ..... ثم أنشأ في ذلك ما يشبه المقامة الهزلية التي يختلط فيها الشعر بالنثر.
ويعد هذا الأثر الأدبي أول رسالة أظهرتها المطبعة مما يمت بصلة ظاهرة إلى رسالة ابن غرسية.
_________
(^١) في المعجم رقم ٢٢٣.
(^٢) ص ١١٠ بتحقيق پروفنسال، طبع دار الكاتب المصري.
(^٣) في تكملة الصلة ١٨١٤.
(^٤) انظر تكملة التكملة ص ٤٢٢ مع فهرسها ص ٦٦٢.
(^٥) ألف باء ١: ٣٥١.
1 / 240
موجز بحث جولدتسيهر الشعوبية عند مسلمى أسبانيا
قسم جولدتسيهر بحثه فصولا ثلاثة:
الأول في الشعوبية الأسبانية - والثاني في تحليل رسالة ابن غرسية - والثالث في الكلام على صدى هذه الرسالة.
الشعوبية الإسبانية:
اتصل بالعناصر العربية والبربرية في أسبانيا عنصران آخران هما:
١ - المولدون، وهم نصارى أسبانيا الذين اعتنقوا الإسلام.
ب - الصقالبة، ويراد بهم السلافيون بوجه خاص، وأسارى الحزب والأرقاء من مختلف الشعوب الشمالية بمعنى عام.
ومن المولدين من اندمج في الكيان العربي اندماجا جعل بعضهم يبتدعون أنسابا عربية، ومن هؤلاء أسرة بنى مغيث الرومي الأصل.
وكما كان للمولدين فضل كبير في خدمة الثقافة العربية - ومنهم بقي بن مخلد القرطبي، وأبو محمد بن حزم، وعبد الملك بن سراج القرطبي - كان للصقالبة أيضا فضل لا ينكر، ومنهم جؤذر مولى الحكم الثاني، وفاتن مولى المنصور بن أبي عامر الذي اشتبك مع صاعد الأندلسي في جدل علمي فخرج منصورا عليه مظفرا.
وقد كان العرب يتعالون على هؤلاء القوم مما دعا بعضهم أن ألف كتابا سماه «كتاب الاستظهار والمغالبة، على من أنكر فضل الصقالبة» أشاد فيه بذكر مشاهير الصقالبة في شتى فروع الثقافة العربية. ولعل هذا الكتاب أول محاولة للكتابة في دائرة الشعوبية وإن لم تكن في صميمها، لأن مؤلفه دافع عن عنصره ولم يهاجم غيرهم.
أما الميل الحقيقي إلى الشعوبية فقد أخذ طابعه الكامل في محيط المولدين،
1 / 241
ويمتاز هذا الميل في أسبانيا بحرصه على أن ينسجم مع العقيدة الإسلامية، على حين نجد شعوبية المشرق على النقيض من ذلك، إذ نرى ممثلى الشعوبية فيه من الملاحدة والزنادقة في أكثر الأمر.
ومن أقطاب شعوبية الأندلس محمد بن سليمان المعافري، وكان شديد العصبية للمولدين. ومنهم أبو محمد عبد اللّه بن الحسن المتوفى سنة ٣٣٥ وكان معروفا بشدة تعصبه للعجم، ومحاولته الغض من شأن العرب.
ويبدو أنه لم يتح للنزعة الشعوبية الأندلسية أن تستعلن في إنتاج أدبى إلا بعد أن انقسمت الدولة إلى دويلات صغيرة تناهب الحكم فيها صقالبة ومولدون، فتسمع حينئذ من أبى عامر بن غرسية صوتا شعوبيا قويا يحاول إثبات فضل العجم على العرب.
ثم ساق «جولدتسيهر» ترجمة استنتاجية لابن غرسية لم يحالفه الصواب في بعض زواياها، فهو يظن أنه كان في خدمة المعتصم بن صمادح. على حين تشير المصادر التاريخية إلى أنه كان في خدمة مجاهد ملك دانية، وأنه كان يريد تعفير صديقه أبى عبد اللّه من خدمة ابن صمادح، ويحثه على ترك خدمته. وبنى «جولدتسيهر» على هذا الظن ظنا آخر، أن ابن غرسية عاش زمانا في المرية حيث المعتصم بن صمادح. وهو افتراض لا يصح.
ثم يعلل جولدتسيهر النشاط الشعوبى لابن غرسية بأنه كان يعيش في صقع ضعف فيه النفوذ العربي وتغلب عنصر الصقالبة، ويقول: «وما كان لعامل من العمال الرسميين في مجتمع تنحصر مقاليد السلطان به في أيد عربية أن يحدث نفسه بإثارة مثل هذا الهجوم الجرئ على العرب ثم يترك وشأنه دون عقاب أو قصاص».
تحليل الرسالة:
لم يأت ابن غرسية بجديد من وجهة النظر الموضوعية، ويبدو أنه أطلع على كتابات الشعوبية بالمشرقية واستقى منها أهم الحقائق ولم يبتدع هو إلا الملابسات والدواعي الخاصة. وكان جدل الشعوبية بالمشرق من جهة الأسلوب أبعد عن
1 / 242
الصناعة الفنية، ومن جهة المبدأ أقرب إلى الموضوعية العلمية منه إلى الذاتية الشخصية، على حين نجد كتابة ابن غرسية رسالة شخصية يستعمل فيها كل التعبيرات الفنية من ترادف وطباق، وتلاعب بالألفاظ، وتعريض، وتضمين واقتباس، ورمز إلى حوادث أدبية وحقائق تاريخية، مما يطبع الرسالة الفنية بالطابع المطلوب. كما أن نمو وسائل الأسلوب الفنى وتنوعها على الصورة التي يستخدمها كتاب القرن الخامس قد أعارت قلمه أحيانا لون التهكم والفكاهة الذي استغنى عنه جدل الشعوبية بالمشرق.
ومما يجدر ذكره أن المشرقيين حين يقولون «العجم» فإنهم يعنون الفرس، على حين يتسع مدلول هذه الكلمة عند الأسبانيين فيشمل الروم وبنى الأصفر.
وقد وازن ابن غرسية بين المميزات الطبيعية والخصال الخلقية بين عنصرى العرب والعجم ففخر ببياض العجم على سمرة العرب. ثم هو يقابل بين حياة العرب القدامى بين الإبل والشاء، وحياة الأكاسرة والقياصرة في ظلال السيوف والرماح، ويعقد مقايسة بين هاجر أم العرب، وسيدتها سارة أم العجم، ويتكلم في قناعة العرب بالشهوات الدنيا، كالطبل والزمر، ومعاقرة الخمر، ويذكر أن العجم يمتازون في لباسهم وطعامهم وشرابهم، ثم يفخر بأمجاد العرب السياسية والحربية والعلمية.
وأما أن محمدا ﷺ كان عربيا فلا فخر في ذلك للعرب، فإن التبر من الترب، والمسك بعض دم الغزال، والماء العذب يستودع جلد المزادة البالي.
ثم ختم ابن غرسية رسالته بعبارات يستظهر بها التقوى، توهينا لما قد يشتم من كلامه مما قد يمس العقيدة الدينية، وهو في ذلك لا ينسى أن يتملق أميره بمدح، ويخلط باللين عنفا في مخاطبة صديقه.
ثم يتحدث جولدتسيهر عن مدى سرعة انتشار شعر أبى العلاء المعرى في الأندلس إذ تمكن ابن غرسية من الاستشهاد به. ويذكر من نماذج تأثير المعرى في الأدب الأندلسي تأليف ابن أبي الخصال رسالة عارض بها «ملقى السبيل»، ومعارضة رسالة «الصاهل والشاحج» لأحد شعراء الأندلس، وتأليف ابن السيد البطليوسى شرحا كبيرا لديوان أبى العلاء ولما يكد يمضى نصف قرن على وفاته.
1 / 243
صدى رسالة ابن غرسية:
ذكر جولدتسيهر في هذا الصدد خمسة ردود، هي رد أبى يحيى بن مسعدة، وعبد الملك بن محمد الأنصاري، وأبى الطيب عبد المنعم بن من اللّه القيرواني، وعبد المنعم بن محمد الخزرجي، ثم مقامة البلوى التي نجدها في كتابه ألف باء.
وقد تناولت الكلام على هذه الردود فيما سبق، وزدت عليه ردودا ثلاثة أخرى تهديت إليها.
وكنت على أن أتناول هذه الرسائل بالشرح بعد تحقيقها، ثم رأيت أنى لو فعلت ذلك لأربى حجمها على الأضعاف، وخرجت بذلك عن المنهج المرسوم لهذه المجموعات، لذلك لم أفسر إلا ما يقتضيه التحقيق وموازنة النصوص، أو ما يشكل على بعض الخاصة أن يتبينوه في مظانه، من الإشارات الأدبية والتاريخية وغيرها، أو ما يلقى شيئا من الضوء على جوانب بعض المبهمات، حتى ينفذ النور إليها جميعا.
والحمد للّه الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا اللّه.
مصر الجديدة في ربيع الأول سنة ١٣٧٣
عبد السلام محمد هارون
1 / 244
رسالة ابن غرسية
1 / 245
بسم الله الرحمن الرحيم رسالة خاطب بها أبو عامر بن غرسية أبا عبد الله بن الحداد (^١) يعاتبه فيها ويفضل العجم على العرب، وكتب بها من لارة
سلام عليك ذا الروى، المروى، الموقوف قريضه على حللة بجانة (^٢) أرش اليمن (^٣)، بزهيد الثمن، كأن ما في الأرض إنسان، إلا من غسّان، أو من آل ذي حسان. وإن كان القوم أقنوك، وعن العالم أغنوك، على حسب المذكور، فما هذا الإعمال للكور، وترك الوكور. وقل ما تأخذ الشعرة (^٤) في الرحيل، إلا عن الربع المحيل! ولو أن القوم خلطوك بالآل، لما أحوجك إلى الخبط في الآل (^٥). مه مه، من أحوجك إلى ركوب المهمة، وثقف (^٦)، وودك لا تقف، على من اضطرك إلى الإيغال، وباعك بيع المسامح بك لا المغال، وعوضك من الأندية (^٧)، بجوب الأودية، ومن المآلف، بقطع المتالف، وحملك على مخالفة الحصان، ومحالفة الحصان، ووكلك بمسح الأرض، ذات الطول والعرض، فإذا يمّمت تبالة، تباله (^٨)، وصرت ضغثا على إبالة، تتعلل باليمين، ضنا بالعلق الثّمين
_________
(^١) كذا في نسخة الأصل. والصواب أنه «أبو جعفر بن الخراز». انظر ما سبق في ص ٢٣٤ - ٢٣٦ من التقديم.
(^٢) حللة: جمع حال بمعنى نازل في المكان. وبجانة، قال ياقوت: مدينة بالأندلس من أعمال كورة ألبيرة، خربت، وقد انتقل أهلها إلى المرية، وبينها وبين المرية فرسخان.
(^٣) أصل معنى الأرش العيب في السلعة.
(^٤) جمع شاعر. ولابن غرسية ولوع بهذه الصيغة من الجموع.
(^٥) الآل الأولى بمعنى الأهل، وهذه بمعنى السراب.
(^٦) يقال ثقف، إذا صار حاذقا فطنا. انظر ما سيأتي في ٤٤ ب.
(^٧) الأندية: جمع الندى، وهو مجلس القوم يجتمعون فيه. الخريدة: «من قطع الأندية».
(^٨) تبالة: بلدة مشهورة من أرض تهامة في طريق اليمن. وتباله: تصنع البلاهة.
1 / 246
أحسبك (^١) أزريت، وبهذا الجيل البجيل ازدريت، وما دريت، أنهم الصهب الشهب، ليسوا بعرب، ذوي أينق جرب، أساورة، أكاسرة، مجد، نجد، بهم (^٢)، لا رعاة شويهات ولا بهم (^٣)، شغلوا بالماذى والمران، عن رعي البعران، وبجلب العز، عن حلب المعز، جبابرة، قياصرة، ذوو المغافر والدروع، للتنفيس عن روع المروع، حماة السروح، نماة الصروح (^٤)، صقورة، غلبت عليهم شقورة (^٥)، وشقورة الخرصان، لكنهم خطبة بالخرصان (^٦).
ما ضرَّهم أن شهدوا مجادا (^٧) … أو كافحوا يومَ الوغى الأندادا
ألاَّ يكون لونهم سوادا
أرومة روميّة، وجرثومة أصفريّة (^٨).
فمتهم ذوو الأحساب والمجد والعلى … من الصُّهب لا راعو غضًا وأفانِ (^٩)
من القدم، الماس الأدم، لم تعرق فيهم الأقباط، ولا الأنباط، حسب حري، ونسب سري، أمكم لأمنا كانت أمة، إن تنكروا ذلك تلفوا ظلمة، ولا تهابل (^١٠)، في التكايل، فما سسنا قط قرودا، ولا حكنا برودا (^١١)،
_________
(^١) في الأصل: «أأحسبك»، صوابه في الخريدة.
(^٢) بضم ففتح، جمع بهمة بالضم، وهو الفارس لا يدرى من أين يؤتى، لشدة بأسه.
(^٣) البهم، بالتحريك، وبالفتح أيضا: جمع بهمة، وهي الصغير من أولاد الغنم.
(^٤) السروح: جمع سرح، وهو المال يسام في المرعى. والصروح: القصور.
(^٥) عنى بالشقورة الشقرة، وهي الحمرة. أي حمرتهم كحمرة الأسنة تعلوها الدماء.
(^٦) الخرصان: جمع خرص، وهو سنان الرمح، وهو الرمح أيضا. عنى أنهم يخطبون النساء وينكحونهن بالحروب. ومثله قول الفرزدق في ديوانه ٧٣٧:
وبنت كرام قد نكحنا ولم يكن … لنا خاطب إلا السنان وعامله
(^٧) المجاد: مصدر ماجدة، إذا عارضه بالمجد.
(^٨) يقال للروم بنو الأصفر.
انظر نهاية الأرب ٢: ٣٢٢. وقد أورد ابن خلكان في ترجمة ياقوت بن عبد اللّه الرومي تعليلا خرافيا لتسمية الروم ببنى الأصفر.
(^٩) الأفانى: جمع أفنية، وهو ما يسمى «عنب الذئب».
(^١٠) هال الدقيق ونحوه: صبه من غير كيل.
(^١١) الحوك: النسج. والبرود: جمع برد، وهو ثوب فيه خطوط.
1 / 247
ولا لكنا عرودا (^١)، فلا تهاجر، بني هاجر، أنتم أرقاؤنا وعبدتنا، وعتقاؤنا وحفدتنا (^٢)، مننا عليكم بالعتق، وأخرجناكم من ربق الرق (^٣)، وألحقناكم بالأحرار، فغمطتم النعمة، فصفعناكم صفعا، يشارك سفعا (^٤) اضطركم إلى سكنى الحجاز، وألجأكم إلى ذات المجاز. رزن، رصن.
جمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياة وهمْ … بعد المماتِ جمال الكتب والسِّيرِ (^٥)
إذا قامت الحرب على ساق، وأخذت في اتساق، وقرعت الظنابيب، وأشرعت الأنابيب، وقلصت الشفاه، وفغر الهدان فاه (^٦)، وولي قفاه، ألفيتهم ذمرة الناس (^٧)، عند احمرار الباس، الطعن بالأسل، أحلى عندهم من العسل.
مستسلمين إلى الحتوف كأنما … بينَ الحتوف وبينهم أرحامُ (^٨)
من أمنياتهم، حلول ميتاتهم، لهم على القدمة اليدان (^٩)، على التنائي والتدان.
من الألي غيرَ زجرِ الخيل ما عرفوا … إذ تعرفُ العرب زجرَ الشَّاء والعكرِ (^١٠)
بصر، صبر، تزدان بهم المحافل، والجحافل، قيول على خيول، كأنها فيول، كواكب، المواكب، نجوم، الرجوم، من العجم، ضراغمة الأجم، بنو غاب،
_________
(^١) اللوك: المضغ. والعرود: جمع عرد وهو الشديد الصلب من كل شيء. انظر هذه الكناية في ٤٤ ا من الأصل.
(^٢) الحفدة: الأعوان والخدمة، واحدهم حافد.
(^٣) إشارة إلى أن هاجر كانت جارية سارة ثم عتقت وتزوجها إبراهيم.
(^٤) السفع: اللطم.
(^٥) البيت لأبى العلاء المعرى. شروح سقط الزند ١٤١.
(^٦) الهدان، بالكسر: الوخم الثقيل في الحرب.
(^٧) ذمرة: جمع ذامر، وهو الذي يذمر القوم، أي يحضهم ويحثهم.
(^٨) البيت لأبى تمام في ديوانه ص ٢٨١.
(^٩) القدمة: الاسم من الإقدام. قال:
تراه على الخيل ذا قدمة … إذا سربل الدم أكفاها
(^١٠) لأبى العلاء المعرى. شروح سقط الزند ١٤٠. وقد غير إنشاد البيت ليتساوق مع الكلام. وإنما أوله: «يا ابن الألى»، والعكر: القطعة من الإبل ما بين الخمسين إلى المائة.
1 / 248