رسالة في تفسير قوله تعالى
إن إبراهيم كان أمة
تأليف
شمس الدين محمد بن علي بن طولون الصالحي
المتوفى سنة (٩٥٣ هـ)
تحقيق
محمد خير رمضان يوسف
دار ابن حزم
١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م
Bilinmeyen sayfa
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
﴿إن إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين. شاكرًا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ. وآتيناه في الدنيا حسنةً وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين.﴾ .
1 / 13
[النبي الأمة]
قال الراغب: الأمة: كل جماعةٍ يجمعهم أمرٌ ما: إما دينٌ واحد، أو زمانٌ واحد، أو مكان [واحد] . سواءٌ كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا، أو اختيارًا.
ثم قال بعد ذلك: وقوله: ﴿إن إبراهيم كان أمةً﴾ أي: قائمًا مقام جماعةٍ في عبادة الله، نحو قولهم: فلانٌ في نفسه قبيلةٌ. وكما روي أنه «يحشر زيد بن عمرو أمةً وحده» .
1 / 14
وذكر صاحب الكشاف في معنى قوله تعالى: ﴿إن إبراهيم كان أمةً﴾ وجهين:
أحدهما نحو الذي أشار إليه الراغب، أي: كان وحده أمةً من الأمم، لكماله في جميع صفات الخير، كقول بعضهم:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
قال مجاهد: كان مؤمنًا وحده، والناس كلهم كفار.
والوجه الثاني: أن يكون أمةً بمعنى مأموم، أي: يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، أبو بمعنى مؤتم به، كالرحلة وما أشبهها، مما جاء من «فعلة» بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله تعالى: ﴿قال إني جاعلك للناس إمامًا﴾ .
وقال ابن مسعود عند ذكر معاذ – ﵄: «إن معاذًا كان أمةً قانتًا لله» . ثم قال: «الأمة» معلم الخير.
1 / 15
[القانت]
والقانت: المطيع لله ورسوله، وأصل القنوت: لزوم الطاعة والخضوع. وفسر بكل منهما قوله تعالى: ﴿وقوموا لله قانتين﴾ .
وقيل: القنوت: القيام، وبه فسر قوله ﷺ لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» . لكنه ليس مطلق القيام، بل القيام مع الخضوع. فيكون هنا معنى القانت: القائم بما أمره الله به.
1 / 16
[الحنيف]
والحنيف: المائل إلى ملة الإسلام، غير الزائل عنه.
والحنف: هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة.
.. ..: تحنف الرجل: إذا تحرى طريق الاستقامة.
وكانت العرب تسمي كل من اختتن أو حج: حنيفًا، تنبيهًا على أنه على دين إبراهيم ﵊.
ومنه ما جاء في بعض روايات بدء الوحي: «كان رسول الله ﷺ يجاور في حراء، في كل سنة شهرًا» .
وكان ذلك ما تحنف به قريش في الجاهلية. والتحنف: التبرر.
1 / 17
قال السهيلي: لأنه من الحنيفية، دين إبراهيم ﵇.
ثم أكد ﷾ ذلك بنفي الشرك عنه، ردًا على قريش في زعمهم أنهم على ملة إبراهيم ﵇، وهم مشركون، وهو ﵊، لم يكن مشركًا، بل كان حنيفًا على دين الإسلام.
أخبرنا شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة، وعيسى بن عبد الرحمن المقدسيان، بقراءتي على كل منهما، قالا: أخبرنا جعفر بن علي المقرئ، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ، أخبرنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، حدثنا محمد بن علي الحافظ، أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الفقيه، حدثنا القاسم بن زكريا، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأحمد بن سفيان، وفياض بن
1 / 18
زهير، قالوا: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر.
ح: وأخبرنا أعلى من هذا بدرجة: البرهاني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري بقراءتي عليه بمنى شرفها الله تعالى، أخبرنا علي بن هبة الله بن سلامة الفقيه، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد الإبري، أخبرنا الحسين بن أحمد بن طلحة، أخبرنا علي بن محمد بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس –﵄:
أن النبي ﷺ لما رأى الصور في البيت –يعني الكعبة- لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام، فقال:
«قاتلهم الله! والله ما استقسما بالأزلام قط» .
هذا لفظ الرواية الثانية.
1 / 19
[ولفظ] الرواية الأولى: «قاتلهم الله! أم والله لقد علموا أنهما لم يستقسما قط» .
أخرجه البخاري في صحيحه، عن إبراهيم بن موسى، عن هشام بن يوسف، عن معمر به.
ورواه أيضًا بنحوه من حديث كريب، عن ابن عباس.
وهو في صحيح مسلم من هذا الوجه.
وتحتمل الآية هنا الرد أيضًا على اليهود والنصارى، في دعوى كل طائفة منهم أن إبراهيم ﵇ كان منهم، كما في قوله تعالى: ﴿ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين﴾ . لأن كلًا من ملة اليهود والنصارى مشتملةٌ على الشرك، كما أخبر الله سبحانه عنهم.
قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، وغيرهم من أهل التفسير: اجتمع يهود المدينة ونصارى نجران عند رسول الله ﷺ، فتنازعوا في إبراهيم ﵇، فقالت اليهود: ما كان إلا
1 / 20
يهوديًا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيًا. فأنزل الله هذه الآية: ﴿ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا﴾ الآية.
1 / 21
[الشاكر المضياف]
وقوله تعالى: ﴿شاكرًا لأنعمه﴾ .
الشكر: تصور النعمة وإظهارها.
وقيل: هو مقلوبٌ من «الكشر» أي: الكشف.
والشكر يكون بالقلب، وهو تصور النعمة كما ذكرنا. وباللسان، وهو الثناء على المنعم. وبسائر الجوارح، وهو مكافأة النعمة بالطاعات، ومنه قوله ﷺ: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» لما عذل في كثرة الصلاة.
قال بعض المفسرين: كان شكر إبراهيم ﵊ أنه كان لا يتغذى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يومٍ ضيفًا، فأخر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر. فدعاهم إلى الطعام، فتجملوا له، وخيلوا له أن بهم جذامًا، فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم، شكرًا لله على أنه عافاني وابتلاكم.
أخبرنا أبو الربيع بن قدامة الحاكم، أخبرنا جعفر الهمداني،
1 / 22
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا الهيثم بن الفضل، أخبرنا علي بن محمد العكبري، أخبرنا أحمد بن محمد الجوزي، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك، حدثنا أبو أسامة، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة ﵁، عن رسول الله ﷺ قال:
«كان أول من ضيف الضيف إبراهيم ﵊) .
هذا حديث حسن.
وأخبرنا إسحاق بن يحيى الأموي، أخبرنا يوسف بن خليل
1 / 23
الحافظ، أخبرنا خليل بن أبي.. ... الرازي، ومحمد بن أحمد.. .. قالا: أخبرنا الحسن بن أحمد المقرئ، والثاني.. ... أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الجرمي حدثنا.. ... الأصبهاني، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال:
كان إبراهيم ﵊ يأتيه الله بالضيف ليأجره، قال: فاحتبس عليه الضيف ثلاثًا، فقال لسارة: لقد احتبس عنا الضيف، وما نراه احتبس عنا إلا لما يرى مني.. .. على خدمنا. افعلوا وافعلوا، فإن جاء ضيف لا يخدمه غيري وغيرك.. ...
حدثنا محمد بن سهل، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا أبي، أن عمير بن زيد أخبره، عن عمرو بن دينار قال:
لما تضيفت الملائكة إبراهيم ﵇، قدَّم العجل،
1 / 24
فقالوا: لا نأكل إلا بثمن! قال: فكلوه وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم، وتمجدونه إذا فرغتم.
قال: فنظر بعضهم إلى بعضهم فقالوا: بهذا اتخذك الله خليلًا!.
1 / 25
[الخليل المجتبى]
والاجتباء: اصطفاء الله سبحانه إياه وتخصيصه بأنواع النعم، من النبوة، والرسالة، والخلة، وغير ذلك.
والهداية: الدلالة والإرشاد.
والمراد بالصراط المستقيم: ملة الإسلام.
واختلف في المراد بالحسنة، من قوله: ﴿وآتيناه في الدنيا حسنةً﴾ .
فقيل: البركة في الأموال والأولاد.
وقيل: هي الخلة التي اصطفاه الله بها. قال: الله تعالى: ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلًا﴾ .
1 / 26
وقال قتادة: هي تنويه الله بذكره، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يقولونه.
وقيل: هي صلاة الله عليه، وهي المعنية بقول المصلي منا: «كما صليت على إبراهيم»،
كما أخبرنا عبد القادر بن يوسف الخطيري، ومحمد بن عبد الرحيم القرشي، قال الأول: أخبرنا عبد الوهاب بن ظافر، وقال الثاني: أخبرنا يوسف الشاوي، قالا: أخبرنا أحمد بن محمد الأصبهاني الحافظ، أخبرنا نصر بن أحمد بن البطر، أخبرنا عبد الله بن عبيد الله بن الحسن بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير ومحمد بن فضيل –واللفظ لجرير- قالا: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة ﵁ قال:
1 / 27
لما نزلت: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي﴾ الآية، سألنا النبي ﷺ عن الصلاة، قال:
«قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
هذا حديث صحيح، اتفقوا على إخراجه من طرق كثيرة بنحو هذا إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة.
واتفقا على إخراجه من رواية أبي حميد الساعدي.
وانفرد به البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.
ومسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري.
1 / 28
[الصالح]
وقوله تعالى: ﴿وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ يعني من أهل الجنة.
أخبرنا يوسف بن محمد بن إبراهيم، ومحمد بن أبي بكر بن مشرف بقراءتي عليهما، قال الأول: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم التنوخي، أخبرنا بركات بن إبراهيم المقدسي، أخبرنا عبد الكريم بن حمزة، أخبرنا الحافظ أحمد بن علي الخطيب.
ح: وقال شيخنا الثاني: أنبأنا علي بن أبي عبد الله البغدادي، عن الفضل بن سهل، عن الخطيب، أخبرنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، حدثنا سليمان بن الأشعث الحافظ، حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن مختار بن فلفل، يذكر عن أنس بن مالك ﵁ قال:
قال رجل لرسول الله ﷺ: يا خير البرية.
فقال رسول الله ﷺ: «ذاك إبراهيم ﵇) .
أخرجه مسلم، والترمذي أيضًا من هذا الوجه، وزاد: «ذاك إبراهيم خليل الله» .
1 / 29
وثبت عن النبي ﷺ أنه قال:
«أنا سيد ولد آدم، ولا فخر» .
وطريق الجمع بينه وبين هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه ﷺ قال ذلك قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من سائر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ثم لما أعلمه الله بذلك نبه الناس.
والثاني: وهو الأقوى: أنه ﷺ قال ذلك على وجه التواضع والاحترام لإبراهيم ﷺ، لخلته، وأبوته، ولبيان ما يجب له من التوقير والاحترام. ولذلك لما قال ﷺ: «أنا سيد ولد آدم» أتبعه بقوله: «ولا فخر» ليبين ﷺ أنه لم يقل ذلك على وجه الافتخار والتطاول على من تقدمه، بل قاله بيانًا لما أمر ببيانه، والله سبحانه أعلم.
1 / 30
[صاحب الملة الحنيفية]
وقوله تعالى: ﴿ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا﴾ الآية.
ثم في هذه إعلامٌ بتعظيم منزلة نبينا ﷺ، وإجلال محله، والإيذان بأن من أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم ﵊ اتباع نبينا ﷺ أباه، واقتداءه به. فهذا وجه تعلق المعطوف بالمعطوف عليه.
وذكر بعض المفسرين أن أمر النبي ﷺ في هذه الآية باتباع إبراهيم ﵇؛ أريد به اتباعه إياه في مواقف الحج، وذكر في ذلك حديثًا في إسناده ضعف: عن عبد الله بن عمرو ﵄، عن النبي ﷺ قال:
«جاء جبريل ﵇ إلى إبراهيم ﷺ، فراح به إلى منى» . فذكر كيفية مناسك الحج، وقال في آخره: «فأوحى الله إلى محمد ﷺ: ﴿أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا﴾» .
1 / 31