لقد دهشت مرارا من رؤية أناس يفتخرون بإيمانهم بالدين المسيحي أي يؤمنون بالحب والسعادة والسلام والعفة والإخلاص لجميع الناس ، ويتنازعون مع ذلك بخبث شديد ويظهرون أشد أنواع الحقد، بحيث يظهر إيمانهم في عدائهم لا في ممارستهم للفضيلة. ومنذ زمن طويل وصلت الأمور إلى حد أنه أصبح من المستحيل تقريبا التعرف على نوع عقيدة الشخص، وهل هو مسيحي أو يهودي أو مسلم أو وثني، إلا من خلال مظهره الخارجي ومن ملابسه أو من تردده للعبادة على هذا المكان أو ذاك، أو من قبوله لهذه المعتقدات أو تلك، أو من قسمه بكلام هذا المعلم الروحي أو ذاك، وفيما عدا ذلك تتشابه حياتهم تماما. ولقد بحثت عن سبب هذا الشر ووجدته دون عناء في النظر إلى مهام تنظيم الكنيسة على أنها شرف وإلى وظائف القائمين بالعبادة على أنها مصدر للدخل، فأصبح الدين عند العامي إسباغا لمظاهر التكريم على رجال الدين. ومنذ أن شاع هذا الفساد داخل الكنيسة فقد استحوذت رغبة جارفة في دخول الكهنوت على قلوب أكثر الناس شرا، وانقلب الحماس لنشر الدين إلى شهوة وطموح مزر، وتحولت الكنائس إلى مسارح لا يسمع فيها الفرد علماء الدين بل خطباء الكنيسة الفصحاء الذين لا رغبة لديهم في تعليم الناس بل يستهدفون إثارة الإعجاب بهم، وينالون علنا من المنشقين عليهم، ويفرضون تعاليم جديدة لم يتعودها أحد لإثارة دهشة العوام. وقد أدى هذا الموقف بالضرورة إلى صراع مر وإلى حسد وحقد لم تستطع السنوات الطويلة التخفيف من حدتهما، فلا عجب إن لم يبق من الدين الأصلي إلا العبادة الخارجية، وهي عند العامة أقرب إلى التملق منها إلى عبادة الله، إذ لم يعد الإيمان إلا تصديقا أعمى بأوهام متعصبة وأية أوهام متعصبة؟! إنها أوهام أولئك الذين يحطون العقلاء إلى مستوى البهائم لأنها تمنع ممارسة الحكم، وتعوق التمييز بين الخطأ والصواب، وتبدو كأنها وضعت خاصة لإطفاء نور العقل. يا للعجب! لقد أصبحت التقوى وأصبح الدين أسرارا ممتنعة، وأصبح أصحاب النور الإلهي لا يعرفون إلا بشدة احتقارهم للعقل وبحطهم من شأن الذهن ونفورهم منه وقولهم إنه فاسد بالطبع. والحق أنهم لو كان لديهم قبس طفيف فحسب من هذا النور لما تفاخروا ببلاهتهم، ولتعلموا عبادة الله بطريقة أحكم، ولكسبوا الآخرين بالحب، لا بالحقد كما يفعلون الآن، ولما ناصبوا العداء من يخالفونهم في الرأي بل لأشفقوا عليهم، هذا لو كانوا حريصين على خلاص الآخرين، لا على حظهم في هذه الحياة الدنيا. وفضلا عن ذلك، فلو كان لديهم قبس من النور الإلهي لظهر هذا النور في تعاليمهم، وأنا أعترف بأن إعجابهم بأسرار الكتاب لا حد له، ولكني أرى أنهم لم يعرضوا أية نظرية سوى تأملات أفلاطون وأرسطو، ووفقوا بينها وبين الكتاب المقدس كي لا يبدوا منحازين إلى الوثنية، فلم يكفهم أن يضلوا مع اليونان بل أرادوا أن يضل الأنبياء معهم، وهذا يدل دلالة واضحة على أنهم لم يؤمنوا بالمصدر الإلهي للكتاب ولا حتى في المنام. وكلما زاد إعجابهم بالأسرار المقدسة برهنوا على أن الخضوع الأعمى للكتاب أفضل لديهم من الإيمان.
8
ويتضح ذلك أيضا من أن معظمهم يفترض ابتداء صحة الكتاب ومصدره الإلهي، مع أن هذا الفرض يجب أن يكون نتيجة فحص دقيق لا يترك المجال لأي التباس، فهم يفترضون سلفا، كقاعدة للتفسير، ما تكشفه لنا الدراسة المباشرة على نحو أفضل دون الالتجاء إلى أي وهم إنساني.
هذه هي الآراء التي كانت تشغل ذهني، فالنور الفطري لم يوضع موضع الاحتقار فحسب، بل إنه كثيرا ما أدين باعتباره مصدرا للكفر، وأصبحت البدع الإنسانية تعاليم إلهية، وظن الناس أن التصديق عن غفلة هو الإيمان، وأثار الجدل داخل الكنيسة وفي الدولة انفعالات شديدة نتجت عنها أحقاد قاسية ومنازعات وفتن بين الناس، بالإضافة إلى شرور أخرى كثيرة لا يتسع المقام هنا لذكرها؛ ولذلك عقدت العزم على أن أعيد من جديد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة، وألا أثبت شيئا من تعاليمه أو أقبله ما لم أتمكن من استخلاصه بوضوح تام منه؛ وعلى أساس هذه القاعدة الحذرة وضعت لنفسي منهجا لتفسير الكتب المقدسة.
9
وبعد أن وضعت هذا المنهج تساءلت أولا: ما النبوة وبأية طريقة كشف الله عن نفسه للأنبياء، وما السبب في اختيار الله لهم ؟ هل اختارهم الله لتأملاتهم السامية فيه وفي الطبيعة أم لتقواهم؟ وبعد أن أجيب عن هذه الأسئلة استطعت أن أؤكد بسهولة أن أقوال الأنبياء لا يكون لها وزنها إلا على مسلك الناس في الحياة والفضائل الخلقية،
10
وفيما عدا ذلك لا تهمنا معتقداتهم الخاصة. وبعد إثبات هذه القضية الأولى بحثت عن سبب تسمية العبرانيين شعب الله المختار ووجدته في غاية السهولة: لقد اختار الله لهم بقعة معينة يستطيعون أن يعيشوا فيها في راحة وأمان، وفهمت بناء على ذلك أن الشرائع التي أوصى الله بها إلى موسى لم تكن إلا قانون دولة العبرانيين، وبالتالي لا يمكن فرضها على أي شعب سواهم، بل إن العبرانيين أنفسهم لم يخضعوا لها إلا في أثناء قيام دولتهم. ولكي أعرف إن كان الكتاب المقدس يسمح بتأييد الرأي القائل بأن العقل الإنساني فاسد بالطبع فقد أردت بعد ذلك أن أبحث الدين الشامل،
11
أي القانون الإلهي الذي أوحي به إلى الجنس البشري كله بوساطة الأنبياء والحواريين، وهل يختلف هذا الدين الشامل عن الدين الذي يتعلمه الناس بالنور الفطري، وكذلك تساءلت عما إذا كانت المعجزات قد حدثت مناقضة لنظام الطبيعة وهل تثبت وجود الله وعنايته
Bilinmeyen sayfa