رسالة عمر بن عثمان بن العباس الجرسيفي في الحِسْبة
Bilinmeyen sayfa
يقول العبد الفقير إلى عفو مولاه العلي الكبير، عمر بن عثمان بن العباس الجرسيفي:
الحمد لله ذي العظمة والجلال، المنفرد بالكبرياء والعزة والكمال، المنزه عن الصاحبة والولد والأشباه والأمثال، المتعالي عن التكييف والحدوث والانتقال، المبتدي خلقه بالإنعام والإفضال! والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله خير آل! .
أما بعد، فإن ديوان الحسبة من أعظم الدواوين، إذ يحتاج إلى كثير من القوانين، وليس بعد خطبة القضاء أشرف من خطبة الحسبة، لأنها من الأمور الدينية، وهي تشترك مع خطة القضاء في فصول كثيرة، قال القاضي أبو الحسن الماوردي ﵀: وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها، وجزيل ثوابها، ولكن لما أعرض عنها السلطان، وندب إليها من هان، وصارت عرضة للتكسب وقبول الرشا، لان أمرها، وهان على الناس نظرها. وليس إذ وقع الإخلال، بقاعدة سقط حكمها، ولابد من قائم لله بحجة إلى يوم القيامة. وحقيقتها على الجملة أمر بمعروف، ونهي عن منكر، بقواعد مبنية على صحة الاستدلال وجودة النظر. قال الله العظيم: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. وفائدتها ضبط شتات الأحوال ورد الشارد إلى العقال، بالكيل
1 / 119
والوزن والعدد فيما يمكن، وحسم الجزاف من الغور والخديعة وكثرة الغبن. ويحتاج القيم بأمرها إلى شروط زائدة على شروط القضاء، ليتم له الغرض والإمضاء؛ متبعا آثار من مضى من أهل السنة والجماعة، عارفا بأصناف المعايش وحيل الباعة، إذ بذلك يتوصل إلى معرفة الغش والتدليس، ويميز بين التحقيق والتلبيس، ولا توجد هذه الخصال إلا من الحازم الفطن اليقظان، المتصف بالعفاف والشقة ومطالعة السلطان، ليتمكن من كل ما يريد إصلاحه أو تغييره، وزجر من يريد تأديبه أو تعزيره، ويأمن من الطعن والتغيير عليه من كل غبي جاهل، أو ظنين متساهل.
وها أنا أبين فصولها على الإيجاز والاختصار، وأنكب عن التطويل والإكثار. فأولها ومعتمدها: إصلاح آلات الكيل والوزن بالتحقيق السديد، وضبط الأشياء المتشتتة من التبديد، وحسم البياعات والصناعات من أنواع الغش والتدليس في الثمن والمشمون، ووجوه الخيانة، والمنع من تلقي السلع قبل أن ترد أسواقها المعاومة، ويتقدم في النهي عن البيع يوم الجمعة. والإمام على المنبر.
ويجب على ولي الحسبة النظر في معايش المسلمين، على تفصيل في ذلك، في تنظيفها، وإنضاجها، وتسعير ما يجوز تسعيره، وفي وقت يجوز، على اختلاف في ذلك، واختلاف أنواعها من الجودة والدناءة، وتخليعها من جميع الشوائب المؤثرة فيها، أو يؤول إليه أمرها، كتعاطي الباعة الربى في الأسواق بالجرأة، والاستهان في ردها في الصرف صفائح الخزف والأحجار، والبيع بحركة
1 / 120
وثمن مجهول، لا سيما في ذوات الأقذار، والمنع بحركة ما يضر بالناس، أو في وقت يضر، وبيع ما لا منفعة فيه، أو لتخويف عاديته كخشاش الأرض على اختلاف أجناسها، أو بيع الأشياء المحرمات على اختلاف أنواعها، كأنواع المسكرات، والصور المحرمات من كل ما له ظل قائم على صورة ما يحيى من الحيوان بخلاف اليد والرجل والوجه في اللعب للبنات، لما في ذلك من تدريبهن على التربية وغير ذلك. ويغير تلك الصور بالكسر إذا كانت من الخشب، أو يفسدها، ويؤدب من اعتاد ذلك. وكذلك آلات الملاهي، والعبث بالطعام ولحوم الأضاحي وجلودها على مذهب مالك ﵀.
وبيع الأشياء المجهولة غير المأمونة من الأغذية والأدوية والمعاجن، وأنواع النبات، وما تعافه النفس من كل مستقذر أو ماكث أو مستبشع.
ويجب على ولي الحسبة أن يحتاط جهده في الطهارة في المأكول والمشروب والملابس وغير ذلك، ويتأكد الأمر في المساجد وأفنيتها، وفي الطرق المتصلة بها والأنهار الموضوعة للطهارة في العادات والعبادات ومواضع الاجتماع. ويأمر بستر العورة حيث يمكن ذلك كالحمامات وشبه ذلك. ويمنع النساء من اتباع الجنائز، وزيارة القبور، والخروج للنزاهات، إلا مع زوج أو ذي محرم، وخصوصا في الثواب، لما في ذلك من التبرج المنهي عنه. وكذلك يمنع من اجتماع الرجال من النساء ما أمكن. وحيث يمكن، كالأعراس والمآثم، ويتأكد الأمر في الثواب منهن. ويلزم في كل منظور من الصبيان ما يلزم في شواب النساء، لتطرق التهمة مع فساد الزمان. وقد قال النووي ﵀:
1 / 121
يجب على كل مؤمن أن يغض بصره، ويصون نظره عما لا يحل له النظر إليه من امرأة أو صبي جميل، لأن النظر إلى الأمرد الحسن الوجه حرام، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، سواء أمتن الفتنة أو لم تؤمن: هذا هو المذهب المختار الصحيح عند العلماء ﵃ أجمعين! - وقد نص على تحريم النظر إليه الشافعي ﵀ ويمنع من الجلوس في المراصد ومواضع الريبة، ومتى ظهر له شيءٌ من هذه الأشياء، أو نقله إليه الثقات، بادر إلى تغييره من غير تجسس منه في ذلك.
ويجب عليه النظر في شوارع المسلمين وأسواقهم، فيما ينجسها أو يوعرها أو يظلمها أو يضيقها، كالأجنحة والسوابيط، والبيع في الطرق، لما في ذلك من تضييق شوارع المسلمين، وقد أمر عمر ﵁ بهدم كير الحداد الذي مر به في الطريق، كذلك إحداث الكنف والميازيب والسباخات، وطرح الميتة، وشبه ذلك.
ويمنع أهل الذمة من الإشراف على المسلمين في منازلهم، والتكشيف عليهم ومن إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، ومن ركوب الخيل بالسروج والزي بما هو من زي المسلمين، أو بما هو من أبهة، وينصب عليهم علما يمتازون به من المسلمين، كالشكلة في حق الرجال، والجلجل في حق النساء، ويمنع المسلمين أن يحاولوا لهم كل ما فيه خساسة أو إذلال للمسلمين، كطرح الكناسة ونقل آلات الخمر، ورعاية الخنازير، وشبه ذلك، لما فيه من علو الكفر على الإسلام، ويؤدب من فعل ذلك.
1 / 122
ويجب عليه أن يمنع من كل ما يضر بالموتى، كالمزابل، ووقود النيران، واتخاذ الخرق، وشبه ذلك، وأن لا ينبشوا أو ينتقلوا أحدا من قبورهم إلا أن تكون مغصوبة، ويزجر الباعة عن المطل والتعنيت بالأجوبة المسكتة، وسفه الأقوال، كالذي يُحكى عن القائل لخصمه في منازعة بينهما: "أصدق وما أنت إذا كنت قائما"! وكأنه استنهض لخصمه ومس الخاتم؛ فرأي الأدب في ذلك حين شهدت البينة، وغير ذلك من أمثالهم كثيرٌ. ويتأكد الأمر في حق ذوي الهيئات لما في ذلك من الأذاية؛ ومن أذَّى مسلما نُكل.
ويجب عليه أن يمنع أهل الأذاية جملة؛ كالحشاشين المنتحلين لذوات السموم لاختلاف أنواعها، خيف الأذاية وعدم معرفتهم بالترياقات. وكذلك يمنع القرادين من دخول الدور، لما في ذلك من ترويع الحوامل والأولاد الصغار، وكذلك يمنع الطوافين على الدور الملبسين على الناس والمستحيلين عليهم ممن يتخذ بالأباطيل، ويتعلل بالأطاليل، كالحساب والكهنة، والمشابين، والمهانين، والمخنثين، وأهل الفجور، وكل بالغ، من الحجامين والغزالين، وكل جاهل بخطة يدعها وينتسب إليها، وكذلك الجهلة من القوابل. ويمنع الحمائيين في الدور لأذايتهم في التكشف على الناس ورمي الحجارة، وإفساد أولاد المسلمين. وكذلك يمنع من ظهور القمارين والخمارين، والسكارى في الأسواق، ويؤدب من أعلن ذلك، وليس له أن يقيم الحدود لأن ذلك مختص بالقضاء. ومن تصلب من المعتوهين والمتسلخنين، واشتدت أذايته على الناس، أمر بثقافه، ولا يهمل أمره
1 / 123
ويمنع مما يفعله السفلة والصبيان من الرش بالماء في الأسواق والشوارع، وتزليق الطرق يوم المهرجان، واللعب بالمقارع والعصي في الشوارع، ويتقدم في النهي عن تعذيب الحيوان، والحمل على الدواب فوق ما تطيق، أو دون إكاف، وعن اتخاذ الكلاب في دور الحاضرة، وكل حائط مخوف، وما كان في معناه.
والكلام مع الفخارين: أبتدأ في أصل ترابهم، لأنه مغصوب في الغالب، لعدم الإذن من أربابه، ثم في خلط المعادن، ومبالغة الانتفاع والخلط. مما تقتضيه أصول الصناعة على قدر ما يؤدي إليه الاجتهاد.
والكلام مع الكغادين في اختيار الخرق، وتميزها، والمبالغة في خبطها وتنظيفها من جميع الشوائب والتخمير، واعتدال الغرف، والتلبيس النضج من الحنطة الجديدة السالمة من العفن والتسويس، مع وفور القالب المشهور، السالم من التشطي والتقنطر، والدلك المعتدل السالم من إخراق الضرس والتكسير. ويتأكد الأمر فيهم، إذ عليهم مدار الدين والدنيا، وكذلك الرقاقين في اختبار الجلد، واعتدال التبشير والتنظيف.
والكلام مع صاحب الأحباس فيما رث واندرس، أو تعطل من الأحباس، كالمساجد والشوارع، والقناطر والميضأات، ومرافق المسلمين، وهذا النمط العالي، كالفقهاء، والأئمة، والقضاة، والشهود، والمؤذنين، فعلى قدر القوة والإمكان ومساعدة الزمان، واهتبال السلطان، مع خضور التوفيق، إذ لم توضع الشريعة لآحاد الناس، فمن أراد الوقوف على ما يلزم كل مؤمن من هؤلاء
1 / 124
فلينظر باب الحسبة في " الأحكام السلطانية" للقاضي أبي الحسن الماوردي ﵀؛ وهذا قيده على طريق التقية. ولا تعرف الأشياء إلا عند الوقوع والنزول، مع طول المدة، والاستمرار، وقوة العزيمة والبحث، والنصيحة للمسلمين، وتفقد الأسواق حينا بعد حين.
ويجب على ولي الحسبة ألا يهمل أحوال الباعة، أو يوكل أمرهم إلى من لا ترضي حالته، بل يتفقد أحوال حاشيته وبطانته، ويجتهد في ذلك جهد غايته، لئلا يغتال في أحكامه بالتلبيس عليه، وقبول الرشى، وغير ذلك؛ فيختل عليه النظام، ويهون أمره عند الإمام، لتسرع الباعة إلى الفساد، وارتكابهم للنهي والعناد. ومهما غير سعر لأحد بغشه أو رداءته، نصب عليه علما يعرف به ليرتفع
الإيهام، وتظهر فائدة الإحكام، إما بخلط ما يمكن خلطه إن كان خلطا خفيفا، أو كسر ما يجب كسره أو إراقته، لتكون عقوبته في الأموال أو التصدق به. وقد نقل ابن سهل في " أحكامه " أن رجلا احتسب على الجزارين بسوء أعمالهم، فأرادوا إخراجه من السوق. قال ابن عتاب: لا سبيل لهم إليه، والمعترض له أولى منه بالإخراج، وأن تخرق أعمالهم الفاسدة بغشهم بها. واستحلالهم أموال المسلمين فيها؛ وقاله ابن القطان. وأفتى ابن القطان أيضا في الملاحف الردية النسج بالإحراق بالنار، وأفتى ابن عقاب بتقطيعها خرقًا وإعطائها للمساكين، إذا تقدم إلى المتعلمين معلمهم، فلم ينتهوا وكان لهم من الملاحف سعتها وخفة نسجها، وأفتى ابن عتاب في الخبز المغشوش أو الناقص أن يكسر ويتصدق به. وفي سماع ابن القاسم: يتصدق باللبن المغشوش،
1 / 125
قال ابن القاسم: وهذا فيما قل. وفي كتاب ابن مزين وكتاب ابن حبيب من قول مالك ﵀: من غش في السوق في مكيال أو ميزان، فإنه يخرج من السوق، وذلك أشد عليه من الضرب، ومن كتاب ابن يونس: قال في " المدونة ": وقد أراق عمر ﵁ لبنا غش، أدبا لصاحبه، ولمالك في كتاب ابن المواز: فيما غش من لبن أو غيره، لا يراق وليتصدق به، قال أبو الحسن اللخمي: قال مالك ﵀: والأحسن أن يتصدق به. قال: وكذلك الزعفران والمسك إذا غشه لنفسه، وإن اشتراه مغشوشا، لم أر ذلك عليه. وقال ابن القاسم: إن ذلك فيما قل، وأما الكثير، فلا أرى ذلك عليه. وقال ابن القاسم: وليؤدب بالضرب الوجيع، ولا يتصدق به عليه. قال أبو الحسن: والخلاف في القليل: هل يطرح أو يتصدق به؟ والخلاف في الكثير: هل يتصدق به أو يترك لصاحبه ويعاقب؟ ولو اشترى رجل شيئا من ذلك، وهو عالم بغشه، ليبيعه من الناس، ولا يبين، كان حكمه حكم من غش، فيتصدق به عليه، أو يعاقب، على قول ابن القاسم. والأصل في العقوبة في المال: أمر النبي ﷺ في القدور التي أغليت بلحم من الغنم قبل أن تقسم أن تكفأ، قياسا على مثل بغيره.
ومهما عثر على من لم يمتثل الأوامر، ولم تبلغ فيه الزواجر، أمر بإخراجه من الأسواق، ورفع يده من البيع والارتفاق. وقد أمر مالك ﵀ ببيع المواشي المضرة بالزرع والكروم، أو تغرب إلى بلد لا يزرع فيه ولا كروم. وهذا أيضا من أنواع العقوبة، وإن كانت في الحيوانات. ويتأكد لأمر في منتحلي
1 / 126
أجناس الطعام، إذ عليه مدار هذه الجملة والسلام؛ ولا يخرج في جميع ذلك عن طريق من مضى من السلف الصالح المقتدي بهم في الدين - والذي يترتب على هذه الجملة مع ظهور الجرأة والاستهتار، الردع والزجر نكاية للأشرار، والأدب والنكال، يختلف باختلاف الأحوال؛ فليس ذوو الحرف الخسيسة، كأهل الصناعات النفيسة، ولا الجرئ المتساهل كالغبي الجاهل؛ والناس في هذه الحقوق، كالأعصاب والعروق، فمنها ما يكفي فيه التوبيخ والدلك اليسير، على قدر السياسة وحسن التدبير، ومنها ما يحتاج إلى القصد ووضع المحاجم على قدر القوة وحذق الحاكم؛ فإن عظم الأمر، وبان الطغيان، فلابد من استعمال الكي وتبرد الشريان. فإن سقط النص، وأبهم الإلغاز، فسترد عليك أنصاص تدل على الجواز. والتعزير موكول إلى اجتهاد الحاكم، ويعتبر فيه الحال الجاني وصفة الجناية. ويحذر أن يزاد في التعزير على الحد، وقد ضرب عمر ﵁ الذي زوّر على طابعه نحوا من ثلاثمائة سوط، وقد كان على رأسه قلنسوة؛ فعلاه عمر بالدرة، فسقطت قلنسوته، فقال: " لو وجدته مسبودا، لضربت عقنه! " وأمر مالك ﵁ في الذي خلا بصبي أن يضرب، فكرر عليه الضرب، حتى بلغ أربعمائة سوط، فتعرض له والد المضروب، فقال له: " يا أبا عبد الله! ما قامت السموات على الأرض إلا بالحق! " فقال له مالك: " إن الذي أتى ولدك أكبر الباطل! ويجوز أن يصلب في التعزير"، وقد صلب رسول الله ﷺ رجلا على جبل يقال له أبو ناب؛ ولا يمنع إذا صلب من طعام ولا شراب، ولا يمنع من الوضوء للصلاة، ويصلي مومئا، فإذا أرسل أعاد الصلاة، ولا يتجاوز بصلبه ثلاثة أيام، ويجوز في التعزير
1 / 127
أن يجرد من ثيابه إلا ما يستر عورته، ويشهّي [*] في الناس، وينادي عليه بذنبه إذا تكرر ذلك منه، ولم يقلع عنه. ويجوز أن يحلق شعره، ولا تحلق لحيته، واختلف في جواز تسخيم وجهه: فجوز الأكثرون، ومنع منه الأقلون.
والله تعالى يوفق الجميع للصواب، ويعصمنا من الزيغ والزلل وسوء الاكتساب وما توفيقي إلا بالله! عليه توكلت، وهو حسبي! ونعم الوكيل!
_________
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، ولعل الصواب: «يشهّر»، والله أعلم
1 / 128