تمهيد
ظهرت الديانة المحمدية، وكان الاسترقاق ضاربا أطنابه عند الجاهلية من الأعراب، كما كان منتشرا عند غيرهم من الأقوام.
فإن قيل: هل أقرته الديانة على ما كان عليه؟ قلنا: ينبغي قبل الإجابة على هذا أن نلاحظ أولا حال الزمان والمكان اللذين ظهر فيهما الإسلام.
وذلك أنا بينا في مبدأ هذه الرسالة أن طبيعة الإقليم كان لها دخل في اتساع نطاق الاسترقاق بالمشرق أكثر منه بالمغرب، وأتينا على ذكر السبب في ذلك.
ولما كان منشأ الديانة المحمدية ببلاد العرب، فلا يصعب الوقوف على ما كانت عليه درجة الاسترقاق عند أهل هاتيك البلاد وشغفهم به، ومن جهة أخرى فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
لقي في مبدأ رسالته، بل وفي كل أيامها، شدائد ومقاومات بالسلاح وغيره في سبيل نشر الدين الحنيفي، فإن من أصعب الأعمال - ولا جدال - ما قام به عليه الصلاة والسلام من إخراج الأعراب من ظلمات الجهالة التي كانوا هائمين فيها، ومقاومة الشرك بالله وعبادة الشمس والكواكب لأجل تعليمهم الاعتقاد بإله واحد، وترك ما كان عليه آباؤهم من الأباطيل والأضاليل، وهدايتهم إلى طريق الفضائل، وحثهم على رعايتها واتباع سنتها، فكم من مرة تصدى له
صلى الله عليه وسلم
زعماء القبائل وهددوه وتوعدوه لاستنكافهم ترك ما تتوق إليه أنفسهم من الاستقلال، وكراهتهم لكل سلطان يكون عليهم لرسول قد بعثه الله عز وجل.
وبهذا يتضح ما كان عليه هياج الأفكار، وثورة الخواطر في تلك الأيام، وحينئذ نقول: لما كان النهي عن أمر ألفته الطباع أعواما بل أجيالا، واعتادته الأخلاق حتى امتزجت به مما يزيد في ذاك الهياج وتلك الثورات، فلا ينطبق بالضرورة على قواعد الحكمة والتدبير، ولا يوافق المصلحة والنظام، لم تأمر الديانة الإسلامية بإلغاء الاسترقاق مرة واحدة، ولكنها لم تقره على ما كان عليه، لأن أصولها العمومية لم تكن لتنطبق على ما كان جاريا في ذلك العهد، فعملت على إنضاب منبعه، وتقليل أثره من الوجود، وحصره في حدود ضيقة على وجه يخالف تماما ما كان عليه في تلك الأيام.
Bilinmeyen sayfa