إلى الفردوس.
في الواقع، بأمانة شديدة، كان ذلك غريبا جدا. أهي بدايات هذيان ارتعاشي؟
من المفهوم أن صاحب ذلك الوجه المميز جدا لن يرى في أحلامه الناجمة عن السكر شيئا عاديا للغاية مثل الهلاوس. كانت الطبيعة نفسها ستنقلب رأسا على عقب في مخيلة الشاب ذي الحاجبين الجامحين. ماذا كان ذلك الفردوس الذي كانت تحرسه أشياء غريبة ومريعة لهذا الحد؟ أهو غياهب النسيان؟ لماذا كان الشاب في حاجة ماسة للنسيان حتى إنه كان يمثل له الفردوس؟ حتى إنه كان مستعدا لأن يتعرض للأشياء المرعبة المعروفة التي يواجهها عند الاقتراب منه؟
أكل جرانت الخبز الملفوف الطازج اللذيذ الذي كان «من غير حشو بداخله»، وراح يفكر مليا في الأمر. كان خط الكتابة غير منظم لكنه لم يكن مهتزا على الإطلاق؛ إذ بدا كخط شخص بالغ يكتب بيد غير ناضجة، وليس سبب ذلك أن توافقه كان سيئا، وإنما لأنه لم يكن قد تقدم كثيرا في العمر. لأنه في الأشياء الجوهرية كان لا يزال ذلك التلميذ الصغير الذي كان يكتب في الأساس بتلك الطريقة. تأكدت هذه النظرية لدى جرانت من خلال شكل الأحرف الكبيرة، والتي كانت مكتوبة على شكل حروف دفتر تعليم الكتابة بالضبط. من الغريب أن إنسانا مميزا لهذا الحد لم يكن لديه أي رغبة في نقل هويته في شكل حروفه التي يكتبها. فقلة قليلة من الناس فقط هم من لم يعدلوا شكل الحروف في دفتر تعليم الكتابة إلى ما يناسب مزاجهم، أو إلى ما يناسب حاجتهم اللاواعية.
أحد اهتمامات جرانت الأكثر اعتدالا لسنوات كانت مسألة خط اليد تلك، وقد وجد أن نتائج ملاحظاته الطويلة مفيدة كثيرا في عمله. بين الحين والآخر، بالطبع، كان رضا جرانت عن استدلالاته واستنتاجاته يتزعزع - فقد تبين أن أحد القتلة، الذي ارتكب عدة جرائم قتل وكان يذيب ضحاياه في الحمض، كان يتمتع بخط يد استثنائي فيما يتعلق فقط بمنطقه المتطرف؛ الأمر الذي ربما كان في نهاية المطاف ملائما جدا - لكن عموما، كان خط اليد يقدم مؤشرا ودليلا جيدا للغاية عن طبيعة المرء. وعموما، الرجل الذي يستمر في استخدام شكل حروف خطه وهو تلميذ في المدرسة كان يفعل ذلك لأحد سببين: إما أنه غبي، وإما أنه كان يكتب قليلا جدا بحيث لم تسنح الفرصة لأن تنعكس شخصيته على خطه.
بالأخذ في الاعتبار درجة ذكائه العالية التي صيغت في كلمات ذلك الخطر الكابوسي عند بوابات الفردوس، كان من الواضح أن بقاء خط يد الشاب في مرحلة المراهقة لم يكن سببه افتقاره إلى الشخصية. إذ تحولت شخصيته - بحيويتها واهتماماتها - إلى شيء آخر.
إلى ماذا؟ شيء حيوي، شيء منفتح. شيء تستخدم فيه الكتابة لتوصيل رسائل من قبيل: «قابلني عند حانة كمبرلاند في السادسة وخمس وأربعين دقيقة، يا توني»، أو من أجل ملء سجل ما.
لكنه كان منغلقا بما يكفي ليحلل بلاد القمر تلك ويصيغها في كلمات وهو في طريقه إلى فردوسه. كان منغلقا بما يكفي لأن ينأى بجانبه وينظر إليها، وأن يرغب في تسجيلها.
جلس جرانت في حالة استغراق دافئة ممتعة، وراح يمضغ الطعام ويفكر. لاحظ قمم حروف n وm الملاصقة بضعها لبعض في إحكام. هل كان الشاب كذابا؟ أم كان مجرد متحفظ كتوم؟ من الغريب أن تظهر هذه السمة المتحفظة في خط رجل له هذان الحاجبان. كان غريبا مدى اعتماد ما تعنيه ملامح المرء على حاجبيه. فتغيير واحد لدرجة الانحناء بهذه الطريقة أو تلك يؤدي إلى تأثير مغاير تماما. كان أقطاب صناعة الأفلام يأخذون الفتيات الصغيرات اللطيفات من بالهام وموسويل هيل ويزيلون حواجبهن ويرسمون لهن حواجب أخرى، فيصبحن على الفور مخلوقات غريبة من أومسك وتومسك. ذات مرة أخبره تراب، رسام الكاريكاتير، أن حاجبي إيرني برايس كانا السبب في ضياع فرصته في أن يصبح رئيس وزراء. إذ قال تراب، وهو يرمش بعينيه باستمرار كالبومة وهو ينظر إلى جعته: «لم يحبوا حاجبيه.» وأضاف: «لماذا؟ لا تسألني. أنا أرسم فقط. ربما لأنهما كانا يوحيان بأنه انفعالي وسريع الغضب. وهم لا يحبون الرجل الانفعالي السريع الغضب. لا يثقون به. لكن ذلك هو ما أضاع عليه فرصته، صدقني. إنهما حاجباه. لم يحبوا هذين الحاجبين.». ثمة حواجب تنم عن الانفعال، وحواجب تنم عن الغطرسة، وحواجب تنم عن الهدوء ، وحواجب تنم عن القلق، الحاجبان هما ما يضفي على الوجه طابعه الرئيسي. وكان انحراف حاجبي الرجل وميلهما هو ما أضفى على ذلك الوجه الأبيض النحيل على الوسادة صفة الإهمال حتى في موته.
كان الرجل واعيا حين كتب تلك الكلمات، على الأقل كان ذلك واضحا. ربما كانت غياهب النسيان التي غرق فيها ذلك السكير في المقصورة «بي 7» - الجو المكتوم، والأغطية غير المرتبة، والزجاجة الفارغة التي تتدحرج على أرضية المقصورة، والكوب المقلوب على الرف - هي الفردوس الذي سعى خلفه، لكنه كان واعيا حين كتب مخططا للطريق إليها.
Bilinmeyen sayfa