وفي ثوان كانت كل صناديق الدعاية قد أخرجت من الساحة، وسكتت الأصوات جميعا، وتحولت ضجة المكان إلى فحيح، واتجهت الأنظار كلها في ترقب دافق إلى نافخي الأبواق.
ولم نسمع دقات الساعة؛ فقد طغت عليها أصوات النفير والرجال الثلاثة يبذلون أقصى قواهم، ومع هذا لا تكاد أصوات أبواقهم تسمع في أنحاء «الأرينا» كلها، ولكنه كان قد أعطاها. متهافتة حقيقة لا تدوي أو تصم الآذان، وتوقع الرهبة في النفوس، ولكنها وهذا هو المهم إشارة البدء.
الفصل الرابع
وعلى مصراعيه انفتح جزء من سور الدائرة الرملية المواجه للممر الذي يلاصقنا. انفتح على هيئة باب. وبينما جزء الموكب الأمامي يدلف متأنيا إلى الساحة كنت بكل الشغف وحب الاستطلاع والقلق العظيم على الصديق أختلس نظراتي الأخيرة إلى طابور الميتادورز، وإلى صديقي - الثاني إلى اليمين في الصف الأول - والطابور صفان؛ أربعة من هنا، وأربعة من هناك، وبين كل ميتادور وآخر مسافة.
ومن المقاعد في أقصى اليمين تبينت أصوات الفرقة الموسيقية تعزف المارش، والطبول تدق والأنغام تهب علينا من بعيد باهتة المعالم مخنوقة بالحشرجة. وأبالغ إذا قلت إني دهشت؛ فالواقع مرت الحركة ساعة حدوثها ببساطة، نفس البساطة التي حدثت بها حين رسم كل منهم في آخر لحظة لوقوفه، اللحظة التي سيبدأ بعدها يتحرك، رسم كل منهم علامة الصليب على صدره.
ولم يدهشني أني رأيت صديقي يفعل مثلهم مع أنه لم يكن من النظرات الأولى إليه شديد التدين. أخذتها على أنها نوع من العادة الكاثوليكية لا أكثر، وكدت أقف من صاحبي في هذا الأمر موقف المحايد لولا أني لمحت أنه لا يؤديها كعلامة أو كواجب، في وجهه بالذات - في نصف وجهه الذي كنت أراه من مكاني - كان ثمة ابتهال حقيقي واضطراب، لا بد علت معه دقات قلبه، وخيل لي أن لونه ازداد شحوبا.
ولكنها لمحة سريعة. كان أسرع منها ذلك القناع الذي انتشر فوق وجهه، وكسا مثلث ملامحه الصغير بقشرة صخرية معتمة أخفت كل شيء حتى الشحوب، وما بقي ظاهرا كان قسوة مفاجئة مجهولة المصدر، وفي اللحظة التالية كان يتحرك ليدخل «الأرينا».
ورغم أن الموكب كان يأخذ طريقه على رأسه البيكادورز (حاملي الحراب)، ووراءهما طابور الميتادورز (المصارعين)، تتبعهم صفوف غارسي الأعلام (الباندريللوس)، وصبيان اللعبة وعمالها. موكب حافل ملفت للنظر يستولي على اهتمام الجميع ويصفقون له، وهو يأخذ طريقه إلى حيث منصة الرئاسة. ورغم انشغال الناس جميعا بالموكب كنت لا أزال أفكر في علامة الصليب، ومن زاوية جديدة غيرت الموقف في نظري تماما. إن مجرد تسمية الشيء باللعبة - حتى لو كانت اللعبة مصارعة ثيران أو وحوش - يعطيها في فهمنا لونا ما. معنى غير جدي جدية تامة حتى لو كانت خطرة؛ فهي ليست سوى لعبة، واللعبة لا تقترن في تفكيرنا باللعب فقط، ولكن أيضا بالهزل. ولسبب ما، هناك، فيما وراء كل ما كنت أراه من جدية وخطورة واستعدادات، كانت فكرة أن المسألة كلها ليست بالوعورة والخطورة التي صوروها لنا في السينما والروايات، ولا بد هناك من طرق متفق عليها ومتبعة للتقليل من خطورتها في الباطن مع إضفاء الرهبة عليها من الخارج.
هذه الحركة التي لمحتها في آخر لحظة جعلت الشك يبدأ يتسرب إلي في اعتقادي، وجعلتني أتساءل: أليس من المحتمل أن تكون المصارعة مصارعة حقيقية فعلا بلا أي عبث مما اعتقدته أو اتفاق، وأن الناس جميعا يأخذونها جدا ما عداي؟
تساؤل راحت الأحداث المتعاقبة تدعمه من ناحية وتنفيه من نواح، وظللت لا أجد البرهان الدامغ الذي لا يقبل الشك، ولم أكن أعرف ما ينتظرني يومها.
Bilinmeyen sayfa