69

Tanıdığım İnsanlar

رجال عرفتهم

Türler

ويقول الأستاذ «الزهاوي»: «لو جعلنا الخيال والبداهة في المنزلة التي يضعها فيها الأستاذ الفيلسوف، لوجب أن يكون الإنسان الابتدائي، بل الحيوان، أكبر فلاسفة الأرض، لولا ما ينقصهما من البصيرة والحساب. أما الذي أعرفه أنا في الفيلسوف، فهو تحريه للحقائق المستورة عن الأكثرين بنظره النافذ ليكشف أسرار الطبيعة ويستفيد من نواميسها ويفيد غيره ، وما الفيلسوف ذاك الذي يرضي عواطفه، وإلا كانت الحيوانات كلها فلاسفة كما سبق. وكم جرح دارون الشهير عواطف الناس بنظريته في نشوء الإنسان من الحيوان! وكم خالفه أهلها! وكم مقتوه وعادوه وسبوه لأنه خالف عواطفهم! ولكن في النهاية كان هو الفيلسوف، ومعارضوه بقوا ذوي عواطف لا غير.»

هذا الذي يقوله «الزهاوي»! ويدهشني منه أنه يتكلم عن العاطفة كما يتكلم عنها المغنون و«أولاد البلد» حين يتشاكون جرح العواطف ويتناشدون رعاية الإحساس! فهم إذا قالوا: «فلان صاحب عواطف» قصدوا بهذه الصفة أنه لا يجرح عواطف الآخرين، وأنه «حسيس» بالمعنى الذي يفهمونه! وليس هذا ما نريد؛ لأن العواطف قد تجرح العواطف كما تبقي عليها؛ فالحب عاطفة، ولكنه يجرح نفوسا كثيرة، والغضب والإعجاب والحماسة والغيرة عواطف كلها، ولكنها قد تجرح من النفوس أكثر مما تواسيه، وليس تقسيمنا الناس إلى أصحاب عقول وأصحاب عواطف تقسيما لهم إلى من يجرحون نفوس الآخرين ومن لا يجرحونها؛ فإن أصحاب العقول ربما عرفوا كيف يسوسون الناس فلا يغضبونهم، فكانوا بذلك أقمن ألا «يجرحوا العواطف» بلغة المغنين و«أولاد البلد» المتظرفين.

وأدعى من هذا إلى الدهشة أن يقول الأستاذ إن نصيب الحيوان والإنسان الأول من الخيال والبديهة أكبر من نصيب الإنسان الأخير، فالحقيقة أن الحيوان لا خيال له ولا بديهة، وأن الإنسان الأول أقل نصيبا من الإنسان الأخير في هاتين الملكتين، وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه، بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة وبالخيال ولا نعلم بها وهي تعمل عملها في الإحساس والتفكير.

ولقد ذكر الأستاذ اسم «دارون» صاحب «النشوء والارتقاء»، فهل له أن يذكر أيضا أن الخيال كان أصدق من العقل ألوفا من السنين، حين كان العقل يجزم بقيام كل نوع على انفراده، وكان الخيال يقص علينا قصصه ويجزم لنا بتقارب الأنواع وتلامع الإنسان والحيوان؟ نعم إن الخيال لم يفصل لنا «النظرية» العلمية؛ لأن له شأنا غير هذا الشأن، ولكن ألم يعم العقل عن تلك النظرية كل العمى يوم أن كان الخيال يرسمها محرفة بعض التحريف من وراء الظلال والرموز؟ وهل للأستاذ أن يذكر أيضا أن «دارون» ما كان لينفذ بفطنته إلى تقارب الأنواع لولا روح العطف الذي كان يحس به خوالج الحيوان وتعبيراتها على الوجوه والأعضاء؟ أيمكن أن يؤلف كتاب التعبيرات الحيوانية ودلالاتها رجل لا يخالطه العطف العميق، ولا يسري بينه وبين الأحياء سيال من الإحساس الدقيق؟ وما هو نصيب العقل بعد كل هذا في مذهب «النشوء والارتقاء»؟ ما كان له من نصيب إلا أن يصحح أخطاءه هو لا أخطاء الخيال ولا أخطاء الإحساس، فالحقائق التي استند إليها النشوئيون قائمة منذ الأبد، والعقل هو الذي كان يداريها أو يضلل فيها الخيال والإحساس.

ويسألني الأستاذ: «لا أدري أي مناسبة للعاطفة بالمنطق!» وهذا الذي أقوله أنا، وأقول معه إن مناسبة العاطفة أنها هي شيء موجود لا يصح المنطق إلا إذا حسب له حسابه، فأي منطق يحق له أن يكون هكذا، أو لا ينبغي أن يكون كذلك إن لم يكن يحس العاطفة الإنسانية ويستكنه مضامينها ويقيم لها وزنها؟ إن الأستاذ ينبئنا أن العقل أسعد الإنسان بالعلم، فما هي السعادة؟ إن لم تكن عاطفة فهي لا شيء، وإن لم يكن العلم علم إنسان «عاطف» فلا حاجة به لإنسان.

نود أن يتأكد هذا في العقول؛ لأننا على مرحلة يجهل فيها الشرقيون ما ينقصهم، فيجب أن يعلموا أن الذي ينقصهم هو «الإحساس القويم»، وأن سبيل خلاصهم هو سبيل العاطفة الحية والشعور الصادق الجميل. أما نظرية الدور والتسلسل، فهي لا تعنينا في هذا الصدد، ولكني أرجو الأستاذ «الزهاوي» أن يسأل نفسه هذه الأسئلة وهي: (أ)

ألا يمكن أن نقول إن عدد «الأشكال» لا نهاية له بنفس المعنى الذي نريده حين نقول إن عدد الأجرام والجواهر لا نهاية له في هذا الفضاء الذي لا يتناهى؟ (ب)

لماذا نشترط البعد في الزمان والمكان لظهور الشخصين المتماثلين كل التماثل؟! لماذا يتحتم أن يكون أحدهما في هذا الزمن والآخر على مسافة ملايين السنين أو ملايين الأميال؟ إن المقتضي للتماثل هو أن الأشكال تتناهى والجواهر لا تتناهى في قول أصحاب الدور والتسلسل. حسن، فلا داعي إذن لاشتراط التباعد بين الشخصين المتماثلين في الزمان والمكان، بل يجب أن نرى أناسا كثيرين يتماثلون على سطح هذه الأرض في المدينة الواحدة وفي الوقت الواحد، وإلا كان رأي أصحاب الدور والتسلسل باطلا يستند إلى دليل مشكوك فيه، أم تراهم يشترطون التباعد ليقولوا لنا إذا أنكرنا عليهم دعواهم: اذهبوا فطوفوا الفضاء الذي لا حد له، وجوسوا في جوانب الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية، فإن لم تجدوا أناسا يتماثلون وأجراما تتماثل، فنحن إذن المخطئون وأنتم المصيبون، وإن وجدتم فعودوا إلينا بالنبأ اليقين؟!

إن اللحظة الحاضرة من الزمان تشمل أشياء مختلفة مضت عليها أزمنة مختلفة وأوضاع مختلفة، فهي بهذه المثابة ككل لحظة من الماضي أو المستقبل، وإن هذا الموضع من المكان هو ككل موضع غيره في اقتضاء التماثل، إن كان له اقتضاء. فإذا وجب أن نرى شخصين أو أكثر من شخصين يتماثلون كل التماثل على كوكبين بعيدين في زمنين بعيدين، فيجب - لهذا السبب عينه - ألا يمتنع ظهور مثل هذين الشخصين في هذا المكان في الزمن الحاضر، وإلا فما هو المانع إن كان أصحاب الدور والتسلسل يمنعونه فيما يزعمون؟

نرجو الأستاذ أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، ونحن نرجح أنه لا يجيب عنها أجوبة يسهل التوفيق بينها وبين القول بالدور والتسلسل، وليعلم - حفظه الله - أنني لا أجد عزاء لنفسي في تكرار «العقاد» إلى غير نهاية بين أجواز الفضاء وأبديات الزمان، فإذا ثبت له ثبوت اليقين أن في هذه اللحظة عقادين لا عداد لهم، يكتبون مقالاتهم في بلاغاتهم الأسبوعية التي تصدر في قواهرهم وأفريقاتهم، للرد على الزهاويين الذين لا أول لهم يعرف ولا آخر لهم يوصف؛ فرجائي إليه أن يكتم عني هذه الحقيقة؛ فما في علمها إلا الشقاء بتضاعف الأشغال وتراكم الأحمال، وما في ذلك ترفيه ولا عزاء!

Bilinmeyen sayfa