* كلمة المعرب
تضم كتب الرحلات فوائد ومعلومات تاريخية واجتماعية وتراثية عديدة. لذلك فقد اخذنا منذ فترة من الزمن بالبحث عن تلك الكتب لمطالعتها ، ومن ثم تقديمها الى القارىء ، وغايتنا في ذلك اسداء خدمة لأبناء وطننا العربي.
وقد نقلنا الكتاب الذي نقدمه اليوم عن الايطالية وعنوانه «ايفادات الى الهند الشرقية للمونسنيور سبستياني» Speditioni All\'\'lndie Orientali di. Monsignor SEBASTIANI ويقع الكتاب في مجلدين ، في الاول وصف للرحلة الاولى ، وقد طبع في روما سنة 1666 ، بينما يضم الجزء الثاني حوادث الرحلة الثانية ، وقد طبع في روما ايضا سنة 1672.
ولما كان الكتاب يصف الرحلتين من ايطاليا الى الهند فقد اقتصرنا على ترجمة القسم الخاص بالعراق. وجدير بالذكر ان سبستياني مر بالعراق اربع مرات ، اعني في ذهابه الى الهند سنة 1656 وفي طريق عودته الى اوروبا بعد سنتين ، ثم في البعثة الثانية سنة 1660 وفي ايابه سنة 1664.
وقد نقلنا ما جاء في الرحلة بامانة دون ما تغيير او تحوير ، وزيادة بالفائدة ترجمنا بعض الشيء من رحلته قبل دخوله العراق ، اعني منذ خروجه من حلب ، ثم ترجمنا شيئا من الاخبار عند مبارحته العراق ، لان لتلك الاماكن علاقة وطيدة بالعراق ، وهي اجزاء من الوطن العربي ، ففي ترجمتها فائدة اوسع.
وتمسكا بالاصل ، فقد احتفظنا بارقام الفصول كما في الكتاب ، فكان
Sayfa 5
اول ما ترجمناه «الفصل الثاني عشر من الكتاب الاول» حيث يغادر صاحبنا حلب قاصدا الموصل. اما عناوين الفصول ففيها شيء من الاختصار ، دون الاخلال بالمعنى.
وقد اطلعنا على طبعة ثانية للرحلة الاولى ، طبعت في البندقية سنة 1683 ، فقابلناها مع الطبعة الاولى التي اعتمدنا عليها ، فوجدنا شيئا يسيرا من الاضافات ، ادخلناها الى الترجمة واشرنا الى ذلك.
ثم عثرنا على رحلة الاب فنشنسو ، رفيق سبستياني في ايفاده الاول ، فقابلناها مع رحلتنا ثم باشرنا بنقلها الى العربية.
* * *
كانت غاية سبستياني من سفره الوصول الى الهند ، لذلك نلاحظ انه لا يهتم كثيرا بالبلدان التي يمر بها ، كما نجد في وصفه قفزات غريبة. فبينما يتكلم عن نصيبين ، اذا به في سطور قليلة يصل الى الموصل ، مكتفيا بذكر اسم قريتين لا اهمية لهما.
وقد جابهتنا في اثناء الترجمة مشاكل وصعوبات بالنسبة الى اسماء الاعلام والقرى ، لان صاحبنا يذكر هذه الاسماء بصورة مصحفة او مغلوطة ، والرجل معذور لانه يجهل اللغات الشرقية كما يعترف في مقدمته ، وهو يسمع اسماء تلك الاماكن من افواه العامة ، وقد حاولنا قدر استطاعتنا ايجاد الاسم الصحيح لتلك المناطق فافلحنا تارة ، واخفقنا تارة اخرى ، لذا وضعنا الاسماء بالفرنجية كما وردت في الاصل ، لعل هناك من يستطيع ان يجد الاسم الصحيح.
نلاحظ ان المؤلف لم يضع تعليقات او هوامش وله شروح قليلة ادخلها في المتن ، لذلك قررنا بعد ان فرغنا من الترجمة ، ان نعلق على بعض ما جاء في الكتاب لازالة الالتباس او زيادة في الايضاح ، وقد اتسعنا في بعض تلك التعليقات ، ففصلناها وجعلناها «ملاحق» ادرجناها باخر الكتاب ، اخيرا وضعنا فهارس للكتاب لنسهل على القارىء مراجعة فصوله ومعرفة محتوياته.
Sayfa 6
استلفتت البلدان العربية وسائر اقطار الشرق الاوسط ، انظار الرحالة الغربيين منذ قديم الزمان ، فاخذوا يرتادونها ، ويدونون مشاهداتهم ، وانطباعاتهم عنها. وقد كانت الدوافع الى تلك الرحلات كثيرة متفاوتة ، يدخل فيها العلم والسياسة والدين والتجارة.
** اننا نجد بين اولئك الرحالين :
اهتمامه معادن هذه الاقطار وسائر خيراتها وفيهم رجل الدين ، والتاجر ، والسياسي والطبيب والمتتبع لاحوال الشعوب ، والمتطلع الى شؤون اخرى في هذا العالم الشرقي المترامي الاطراف ، الذي يحوي كل ما تصبو اليه نفوس الغربيين.
وقد كان ما كتبه اولئك الرواد ، في شتى الاغراض التي جاءوا من اجلها الى هذه الديار ، شيئا يفوق الحصر ، ولا نجانب الصواب حين نقول ان عدد الرحلات الاجنبية التي وصفت العراق او تطرقت لذكره ، قد يزيد على ثلاثمائة رحلة ، كتبت بلغات شتى : الانكليزية ، الفرنسية ، اللاتينية ، الايطالية ، الاسبانية ، البرتغالية ، الالمانية ، الهولندية ، التركية ، الفارسية ، وغيرها من لغات الغرب والشرق. وقد طبع جانب غير قليل منها في اثناء القرون الاربعة الاخيرة ، على ان معظم طبعات تلك الرحلات ، قد اصبح اليوم عزيزا في حكم النادر.
واحس ابناء العراق بقيمة هذه الرحلات من الوجهة التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية ، فأخذ غير واحد منهم يحاول الوقوف عليها والاقتباس من فوائدها. وعمد رهط منهم الى امهات تلك الرحلات ، فنقلها الى العربية ونشرها بالطبع تعميما لفوائدها. وكان من بينها رحلات كل من : تافرنيه ، نيبور ، لانزا ، ريج ، فريزر ، بكنكهام ، بج ، ديولافوا ، الليدي دراور ، فانيس ، هي ، ويكرام ، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
وما هذه الرحلات المنقولة الى اللغة العربية. الا حلقات من سلسلة طويلة ، نرجو ان يأخذ بعضها برقاب بعض فتتكامل على مر الزمن. فاذا تم نقلها الى العربية ، اتيح لابناء الضاد ان يطلعوا عليها ويمحصوها بالنقد
Sayfa 7
والتصويب وينهلوا من فوائدها الجمة. فتتسع بذلك مراجعنا عن تاريخ العراق خاصة ، والشرق عامة ، خلال القرون الاربعة الاخيرة.
ومن نفائس ما يذكر في هذا الباب ، رحلتان واسعتان قام بهما رجل ايطالي ، يقال له هيرونيموس سبستياني ، انتمى في مطلع شبابه الى الرهبنة الكرملية ، فصار يعرف بالاب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي ، وتوفي عام 1689 م. وصنف رحلته باللغة الايطالية ، وطبعت في روما سنة 1666 1672 م في مجلدين اصبحا من نوادر المطبوعات في عصرنا.
وما من شك ، في ان هذه الرحلات الغربية ، كلما تقادم زمنها ، صعب على المترجم نقلها الى العربية لما يعتورها من تصحيف وتحريف في اعلام الاشخاص والامكنة ، ولما تتضمنه من اوهام واقاويل لا تقوى امام البحث والتحقيق في عصرنا.
Sayfa 8
* سبستياني
* وهو الاب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي 1623 1689
* Fr. Giuseppe di S. Maria O. C. D. (SEBASTIANI)
ولد هيرونيموس سبستياني في بلدة كابرارولا ( Caprarola ) في ايطاليا في 21 شباط سنة 1623. ولما شب عن الطوق انخرط في السلك الرهباني لدى الآباء الكرمليين الحفاة ، واعلن نذوره الرهبانية في 3 اذار 1641 في روما متخذا اسما جديدا عرف في التاريخ وهو «الاخ جوزيبه دي سانتا ماريا».
ارسل فترة من الزمن الى المانيا كما يقول في مقدمة كتابه «قضيت زهرة ايامي في المانيا» ، ثم عاد الى ايطاليا واخذ يدرس الرهبان التعاليم الدينية او اللاهوت.
انتدبته الرئاسة الكنسية للذهاب في مهمة رسمية الى الهند ، بصفة مفتش رسولي ( Commissarius ) لدراسة احوال النصارى في منطقة الملبار ، وهي ولاية كيرالا حاليا ، فبارح روما في 22 شباط 1656 وشد عصا الرحال الى الشرق ، وهو لا يعرف اية لغة شرقية ، كما يعترف هو نفسه غير مرة في كتابه. ورافقه رهبان من ديره. وبعد ان اكمل المهمة التي اسندت اليه عاد الى اوروبا في نهاية سنة 1658. ثم سيم اسقفا على ابرشية هيرابوليس شرفا ( Hierapolis ) بتاريخ 15 كانون الاول 1659 (ج 2 ص 3) وعاد الى الشرق ثانية لمعالجة المعضلة التي سبق له دراستها عن كثب ، فترك روما في 7 شباط 1660 ، وفي منتصف تلك السنة مر بالعراق وواصل سيره الى الهند ، وحاول قدر استطاعته ان يشد عرى الوفاق بين المسيحيين ورؤسائهم الدينيين هناك.
وحدث ان استولى الهولنديون على منطقة كوشين حيث كان صاحبنا فاضطر الى الانتقال من مكان الى اخر حتى ارغم على الخروج نهائيا ، فقرر العودة الى اوروبا ، وفي طريق العودة مر بالعراق ايضا.
Sayfa 9
نقلت خدماته الى جزر في بحر ايجه ، ثم الى ايطاليا في مدينة بيزينيانو في كالابريا ( Bisignano in Calabria ) وذلك في 22 آب 1667 ، وبعد بضعة اعوام نقل الى جيتا دي كاستيللو في مقاطعة اورمبريا Citta di Castello in Umbria وذلك بتاريخ 8 تشرين الاول 1672 ، وهناك وافته المنية في 15 تشرين 1689 تاركا ذكرا صالحا واسما عطرا بين ابناء شعبه ومعارفه.
له الى جانب الرحلة التي نقلنا منها القسم الخاص بالعراق ، مؤلفات اخرى لم تر النور تتعلق مواضيعها بالمهمة التي اسندت اليه في الملبار ، فهي على شبه تقارير رفعها الى المراجع الدينية الرسمية وهذه هي :
1 رحلته في مجلدين.
2 تقرير عن زيارته للملبار وضعه سنة 1657.
3 تعليمات للمؤمنين سنة 1657.
4 وصف لحالة المسيحيين في الملبار سنة 1659.
5 تعليمات المجمع المقدس وتعليقاته عليها سنة 1659.
6 وصف للحوادث سنة 1659.
تكاد معظم الكتب التاريخية التي تبحث عن الرهبانية الكرملية تنوه به وتتطرق الى نشاطاته ، منها :
Sayfa 10
** كتاب الرحلة :
تتكون رحلة سبستياني من مجلدين ، طبع المجلد الاول في روما سنة 1666 ، وفيه اخبار الرحلة الاولى ، اما المجلد الثاني فقد طبع في روما ايضا سنة 1672 ويضم حوادث الرحلة الثانية.
** ويتكون المجلد الاول
وقد وضع المؤلف في مطلع المجلد الثاني معجما للكلمات والتعابير الغريبة عن القارىء الاوروبي (الكلمات العربية والفارسية والتركية والهندية)، وهذا المعجم مفيد بالرغم من قلة مادته.
الطبعة قديمة ، والاخطاء المطبعية عديدة ، كما يعترف صاحب الرحلة نفسه في المقدمة ، وتصعب القراءة في بعض الحالات نظرا لطريقة الطبع القديمة ، اذ لا تميز حرف عن وكذلك وفينشأ من جراء ذلك بعض الالتباس ، خاصة في اسماء الاعلام.
ان لغة سبستياني ، بصورة عامة ، ليست متينة البناء ، ولعل سبب ذلك يرجع الى كونه قضى فترة من حياته في المانيا ، وهو من دعاة استعمال الاسلوب اللغوي القديم في الكتابة ، كما يصرح هو نفسه في مقدمة المجلد الثاني.
** غاية الرحلة :
كانت غاية سبستياني في رحلاته المتعددة الذهاب الى الهند ، لزيارة
Sayfa 11
الجماعة المسيحية المنتشرة في اقليم الملبار (ولاية كيرالا حاليا) اذ كان موفدا من قبل الكنيسة الكاثوليكية في روما.
كان الوفد الذي ترأسه سبستياني مكونا من اشخاص ثلاثة آخرين هم الاب فنشنسو مارية دي سانتا كاترينة دي سيينا ، وهو ايطالي ، وقد الف كتابا وصف فيه احداث هذه السفرة (1) كما رافقه الاب رفائيل دي سان الكسيوس ، لكنه لم يواصل السفر الى الهند ، بل بقي في جبل الكرمل بفلسطين (2) ولويس دي سان فرنشسكو ، وكان من هواة الرسم ، وهو فرنسي الاصل (3).
اما الرحلة الثانية فكانت للغاية نفسها ، وقد تبع طريق الرحلة الاولى ، مع تغييرات حتمتها الضرورة. ورافقه في هذه المرة : انجلو دي سانتا مارية ، لكنه مرض ومات في 13 كانون الثاني 1660 (4). وجيوفاني تاديو دي سانتا بريجيدة والاب كوتيفريدو دي سانت اندريا ، الذي كان يتقن لغات عديدة (5) وشاب اسمه فالنتينو كيوسي ، ولما مر الوفد بلبنان اراد اصطحاب قسيسين ليجيدا اللغة السريانية في الهند واذ لم يجد ، اصطحب مترجما مارونيا (6).
بقي الوفد فترة في الهند ، لكن المشاحنات السياسية والتكالب الاستعماري بين البرتغاليين والهولنديين اثرت في مجاري الامور ، فاضطر سبستياني الى ترك الهند عائدا الى اوروبا.
ما ان عاد صاحبنا الى بلاده حتى وضع ذكريات رحلته ، ونشرها فيما بعد «نزولا عند طلب بعض الاصدقاء والحاحهم» (7).
Sayfa 12
لاحظنا ان المهتمين بشؤون التاريخ العراقي لم يذكروا هذه الرحلة : فللاستاذ كوركيس عواد مقالة ضافية عنوانها «المعرب من كتب الرحلات الاجنبية الى العراق » (1) ألحقها بقائمة الرحالة ، ولم يذكر سبستياني ، كما لم يفعل قبله لدنكريك في كتابه «اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» بالرغم من ذكره اسماء رحالة كثيرين ، ولم ينوه بهذه الرحلة الا الاستاذ يعقوب سركيس (2).
** كلمة اخيرة في الرحلة :
كتاب سبستياني ليس رحلة استطلاعية ، بل هو مجموعة ذكريات لذلك فهو لا يذكر من مشاهداته الا النزر القليل. ويتسم الكتاب بنظرة دينية او صوفية للامور ، فهو يستنتج من الاحداث المختلفة فكرة لتأمله الروحي ، فالحر الشديد ، على سبيل المثال يجره الى التفكير بعذاب النار في جهنم فيستغفر ربه ، ويتحمل الحر في الحياة الدنيا كي لا يراه بعد الموت! وخراب المدن التي يمر بها يجعله يفكر بزوال العالم ومجده!.
ولسبستياني نظرة فيها ترفع قومي ، وتزمت طائفي احيانا ، فمدينة بغداد مثلا هي لا شيء حسب قوله بالنسبة الى مدن اوروبا ... وله زلات وشطحات بالنسبة الى الطوائف التي من غير طائفته ، ولا نستغرب ذلك عند ما نضع الامور في اطارها الزمني.
(بغداد 1955) ج 2 ص 36.
Sayfa 13
* الرحلة الاولى
* الفصل الثاني عشر (من الكتاب الاول) (1)
* الاستعدادات للسفر الى بغداد عن طريق الموصل (2)
41 (3) كان يسيطر على المناطق العربية «القريبة من حلب» في ذلك الحين اميران احدهما مغتصب ظالم والثاني امير شرعي (4) وكان القتال بينهما سجالا ، وكانا يلحقان الاذى بالمسافرين ، الذين كانوا يضطرون إلى دفع الاتاوة للطرفين. لقد رأيت احدهما وقد نصب خيامه في ضواحي حلب ، فظهرت وكانها مدينة ثانية في جوار حلب ... ومن عادات الاعراب البدو ان يرتبوا كل شيء في خيامهم على نمط واحد ، والخيام هي محل سكناهم ، لكنها مدن متنقلة ...
جرت العادة ان تسافر (الخزنة) ( Casne ) في شهر رمضان الى بغداد. والخزنة هي عبارة عن الاموال اللازمة لدفع الرواتب الى الجنود. وقد وقع شهر رمضان في هذه السنة في شهر حزيران (1656). فانتهزت هذه الفرصة لا سافر مع قافلة الخزنة ، وتأهبت للرحيل ، فاشتريت اربعة خيول ، واتخذت
* اعتاد سبستياني ان يسمي الموصل نينوى ، وبغداد بابل ، وهذه عادة نجدها في اغلب الرحلات الغربية. ففضلنا ان نسمي المدن العراقية باسمائها المعروفة ، الا عند ما يدور الكلام على نينوى القديمة او بابل الحقيقية.
Sayfa 15
لي خادما مارونيا اسمه «موسى» ، كان يفهم اللغة ، كما اقتنيت ألبسة وسلاحا وكل ما هو ضروري للسفر.
وحدث قبل السفر بايام قليلة اني اصبت بحمى قوية (هي حسب قول بعضهم ضريبة لا بد ان يؤديها كل زائر لحلب!) وتخلصت منها بعد ثلاثة ايام بفضل العقاقير التي تناولتها ، لكنها تركتني ضعيفا ذابلا ، فاعتقد الجميع اني سأعدل عن السفر بسبب الوهن الذي استحوذ علي ، ولشدة الحر في ذلك الشهر ، لكني عزمت على السفر ، نظرا الى اهمية الرسالة التي انيطت بي. فسلمت نفسي الى عناية الرحمان ووضعت في يده الكريمة صحتي وحياتي.
وقد طلبت من القنصل الفرنسي ان يوصي بي خيرا لدى الاغا (1) الذي يرأس القافلة ، فقدم له قطعة من القماش ، وهذا ما فعله القنصل الانكليزي ايضا ، وقمت بدوري فذهبت لزيارة الاغا وقدمت له جبة طويلة مصنوعة من قماش الاطلس الاخضر الفاخر ، وغايتي ان يذود عني في السفر ويخلصني من المآزق التي تجابه المسافرين وخاصة المسافر المسيحي المسكين ، فوعدني الرجل خيرا ، وقال انه سيضعني في مكان الصدارة في قافلته ويعتبرني من رفاقه المقربين.
ذهبت لاقرأ السلام على القنصل الانكليزي قبل سفري واشكره على حسن صنيعه نحوي ، فطلب مني ان احمل معي الى البصرة او الى اصفهان ثلاث قطع من الزمرد النادر الثمين ، يقدر ثمنها بنحو ثلاثة الاف قرش (2)، فقبلت عن طيبة خاطر تأدية هذه الخدمة له. وقد اهداني صحنا مليئا بالحلويات فقبلتها بسرور ، وقد افادتني كثيرا في اثناء السفر.
ثم ذهبت لاودع الاخوة الرهبان ، ورؤساء الافرنج ، خاصة قنصل فرنسا (3) (الذي ودعني قائلا : اسأل الله ان اسمع انك وصلت بغداد مريضا!
Sayfa 16
لقد اراد ان يفهمني ان الوصول الى بغداد في هذا الموسم والخلاص من موت محتم يعد نعمة من الله).
عند وصولنا الى باب المدينة ، انا ورفاق السفر ، ابدلنا ثيابنا ، فارتدينا الزي المحلي. وامتطيت الحصان واسرعت لاكون مع جماعة المسافرين وكانوا لا يزالون بالقرب من المدينة.
وللمرة الثانية جاء اثنان من قبل القنصل الفرنسي واعادا التوصية بحقي عند الاغا ، ثم عادا الى المدينة فجدد الاغا وعده بانه سيحامي عني ، واوصاني ان اكون قريبا منه دائما اثناء الرحيل وعند النزول في (القوناق) (1) محطات الاستراحة.
بدانا السفر اصيل اليوم الثاني من تموز (1656).. وكنا نسير بسرعة. نحو عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة يوميا. يبدأ السير نحو الساعة الثامنة مساء ويدوم الى الساعة العاشرة صباحا وكان سفرنا ليلا للتخلص من حر النهار المحرق ...
توقفنا اولا في طاطكو Tatcu وهي قرية الانكليزي فسلمني رسائل الى البصرة والى كومبروCombru (2 )... في اليوم التالي وصلنا الفرات فعبرناه مع عدد غفير من الجنود كانوا هناك ولهم قوارب تعلوها رايات مرفرفة. توقفنا عند البيره Elbir (3 ) (وهي بيريا القديمة Berea ) الواقعة الى الجانب الثاني من
Sayfa 17
نهر الفرات. وكان علي ان ادفع «سكنا» واحدا Zecchino (1 ) عن كل نفر اذا لم يعترف الاغا بنا اننا من اتباعه. وبالفعل فان الاتراك Mori (2 ) لاحظوا حالا انني من الافرنج بالرغم من ارتدائي ألبستهم. وهكذا عبرنا سوريا Soria الى ما بين النهرين Mesopotamia .
لقد افقدني الحر الشديد والسير الحثيث المتواصل اثنين من خيولي ، فقد مرضا على اثر التعب والحر ، فلم يعودا يقدمان خدمة تذكر ، مما اضطرني الى تبديلهما بحصانين آخرين.
توقفنا في جار ملك Ciarmelic ثم سرنا في ممرات ضيقة بين الجبال ، وفي وديان مليئة بالحجارة ... فوصلنا الى اورفا Orfa التي يعتقد الكثيرون انها اور الكلدانيين القديمة ، موطن ابينا ابراهيم ، لكنهم على خطأ ، فالحقيقة التي لا يشوبها شك انها مدينة الرها القديمة Edessa مملكة ابجر (3) (ذاك الذي خص السيد المسيح باعجوبة ، فارسل له رسمه الكريم ، وهي مدينة بلدوين في عهد السيطرة النصرانية) (4). وفي المدينة موضع تقوم عليه كنيسة حيث عاش القديس الكسيوسي (5) S. Alessio والكنيسة حاليا بيد الارمن.
Rene Grousset : LEpopee des Croisades, Ed. PlonPariss 2691, Paissim
Sayfa 18
هناك حوض كبير مليء بالماء القراح ، يطلق عليه الاهلون اسم حوض ابراهيم بينما يسميه البعض حوض يعقوب (1) كما يوجد ضريح الشهداء المعظمين شاموني وكوريا وحبيب (2) الذين ذاع اسمهم على اثر معجزة جرت بشفاعتهم لشابة من اهالي تلك المنطقة ... (3)
يكثر الثلج في هذه المنطقة حتى في فصل الصيف. كما تكثر الاشجار المثمرة ، خاصة الاعناب ولليعاقبة (4) كروم خاصة بهم. لكن الخمر سيئة ، لان رائحة الانية المطلية بالقار التي يحفظون الخمر فيها تؤثر في الخمر فتغير مذاقها.
... وصلنا الى جلاب (5) Giulap ، وفي صباح اليوم التالي وصلنا الى تل قوران Telcoran ثم تابعنا السير مساء فمشينا طوال الليل. فلما انبلج الصبح راينا اننا قد ظللنا الطريق ، فكان علينا ان نفتش عن دليل يعيدنا الى السراط السوي ، وبعد جهد عظيم وصلنا الى كفر سوري Gaursuri وهي قرية مقفرة كانت سابقا للارمن. وهناك بئر ماؤها زلال ، وبالقرب من البئر خيام للبدو ، فاشترينا منهم لبنا له طعم بين الحامض والحلو. ويكثر في تلك الاصقاع وهو مفيد جدا اثناء السفر.
ويعود الفضل اليه في بقائي حيا ومتمتعا بصحة جيدة.
في تلك الفترة ، كانت ثلة من الجنود الانكشاريين (6) قوامها ستون نفرا ،
* جلاب بضم اولها ، مذكورة في المسالك والممالك ص 96.
Sayfa 19
في طريقها من بغداد الى الموصل : واذ كان المناخ حارا لا يحتمل والرياح قوية ، فقد مات منهم اربعون جنديا ، لم يوار التراب منهم سوى اثنين ، بينما بقيت جثث الاخرين دون دفن ، فتكالبت الوحوش عليها (1) في ذلك اليوم نفسه مات رجلان وامرأة من قافلتنا ، فكان لموتهم المفجع تأثير في افراد القافلة كلهم ...
لقد كنا ، انا ورفاق السفر ، غارقين الوقت كله بعرقنا ، منذ خروجنا من حلب حتى وصولنا الى بغداد. وقد تهب الريح احيانا فتنشف العرق عن اجسامنا ، لكنها كانت ريحا مزعجة للغاية فهي محملة بهواء حار كلهيب النار ... ولقد اصبحنا اكثر من مرة في الرمق الاخير. وهكذا كفرت عن خطاياي امام الرب ، وفكرت في اعماق نفسي بجهنم ... وظهر الموت حلوا لنخلص من العذاب الذي كنت فيه ...
في اليوم الثاني حللنا في مره كثري (؟) Caragheisie وهي قرية للارمن ايضا ، وتقع على هضبة في وسط ارض مقفار جدباء لا نهاية لها ، وقد احرقتها الشمس.
لم نتقدم كثيرا في ذلك اليوم ، لان دليلنا تركنا في ظلام الليل الدامس وهرب. فلما حل المساء عاودنا السفر. ونحو الساعة الثالثة تعالت صراخات حارس مؤخرة القافلة ، يدعونا الى حمل السلاح ، فاوقع الذعر في نفس الاغا ، فاجتمع هو وحراس مقدمة القافلة بالقرب من الخزينة ، والتجأت بدوري بالقرب منهم ... واذا بالقادمين جماعة من البدو كانوا يريدون الانضمام الى قافلتنا ولم يكونوا لصوصا ...
Sayfa 20
وفي اليوم التالي وصلنا الى قومجصار (1) Coccessar ، وهي مدينة كبيرة قائمة في السهل ، في الجهة المقابلة لماردين. هناك يرى الزائر اربعة اديرة كبيرة لكنها متهدمة ، وتستخدم الان كمساجد وقد احتفل المسلمون هنا بحلول نهاية رمضان (عيد الفطر) فاخذوا يلعبون ويتسابقون ويرمون الرماح الطويلة وهم يطاردون الريح على خيولهم ، ثم يتناولون الرماح من الارض وهم راكضين.
مكثنا هناك يومين ، اذ كنا ننتظر بغالا محملة بالبضائع متجهة الى ماردين ، وحدث في تلك الاثناء ان مات تحت انظارنا احد افراد القافلة ، وكان ارمنيا ، لكننا لم نكتشف نصرانيته الا وبعد وفاته ...
اتفقت مع احد المسافرين ، وكان ارمنيا ، ان نسافر سوية الى بغداد بواسطة النهر وذلك بعد ان نبلغ الموصل ، واسم الارمني اراكيل (2) Arachel وهو من قرية جلوسانوفا (؟) Ciolsanova وكان شابا طري العود ، غنيا ، وكان يقصد اغره Agra في الهند (3) يرافقه رجل ارمني اخر ، حلبي الموطن يدعى مراد Amurat كان يطيب له ان يسير برفقتنا ، وفي كثير من الاحيان كان يترك خيمته ليأتي عندنا ويحاول التحدث معنا ، اذ كان يرغب في تعلم اللغة الايطالية تكلما وقراءة ، وقد اظهر اجتهادا ملحوظا واستفاد من اختلاطه معنا ...
كانت المحطة التالية قره دره Caradera (4) ومن ثم نصيبين Nisibi وموقع هذه المدينة جميل ، هناك رأينا كنيسة للارمن جميلة البناء ، فيها ضريح
Sayfa 21
كبير من الرخام الابيض ، قيل لنا ، انه يضم رفاق القديس يعقوب النصيبي (1) ورأينا كتبا مقدسة ، لكن الدود كان قد عبث بها فخرمها. ولم تكن تقام المراسيم الطقسية في الكنيسة على الدوام ، وكان الارمن واليعاقبة يتناوبون في اقامة الطقوس فيها. وفي فناء الكنيسة قبور لثلاثة مرسلين (اوروبيين) توفاهم الله اثناء مرورهم بهذه المدينة.
ان مياه هذه المدينة غير مستساغة ، بالرغم من ان جداول عديدة تمر في أراضيها وتسقي حقولها ومزارعها.
في الثامن والعشرين من تموز مررنا ب «ملالي» Malali وفي التاسع والعشرين قدمنا الى قنجا (؟) Cangia وفي اليوم التالي نزلنا في البرية ، وكان الماء قد شح ، وهذا القليل كان عفنا فقد جمعناه من حفر آسنة ، فحاولنا تصفيته ... في صباح اليوم التالي مررنا بقلعة متهدمة ، اسمها ان لم تخنني الذاكرة هيرناجيوني (؟) Hernagioni وكان الماء هناك غزيرا.
لقد حاول مصرف دار الاغا ان يبتز المال منا ، فتمصلت من إلحاحه متذرعا بمختلف الحجج ، خوفا من ان يقتدي به الخدام الاخرون ، ثم فكرت انه من الاحسن ان اقدم له خمسة غروش ، لانه اخذ يهدد ويتوعد ...
وبينما كنا نسير في الليلة التالية بانت امام اعيننا معالم مدينة الموصل القديمة ومحلاتها المطلة على دجلة. ولما انبلج الصبح دخلت المدينة مع قافلة اخرى كانت تنتظر قرب المدينة. فتركت «الخزنة» واصحابها في القلعة.
اما نحن والارمن وبعض انفار القافلة فقد ذهبنا الى خان كان يتولى امره رجل يعقوبي ، قدم لنا خدمات مشكورة.
Sayfa 22
* الفصل الثالث عشر
* مكوثنا في مدينة الموصل وسفرنا الى بغداد
يمر نهر جدلة بسور هذه المدينة من جهتها الشمالية ، والنهر عريض لكنه ضحل وقد نقصت مياهه في هذا الموسم ، لانه فصل الجفاف ، ولهذا السبب لم يكن بالامكان السفر الى بغداد عن طريق النهر ، لا بالقارب ولا بالطواف (الكلك) ، ويصنع الكلك من اعواد متماسكة تشد فوق قرب مليئة بالهواء مربوطة الى بعضها بعضا.
عبر افراد القافلة المرافقون للخزنة نهر جدلة واكملوا طريقهم الى بغداد مساء اليوم التالي لوصولنا ، بينما بقيت انا في الموصل تلبية لرغبة رفيق السفر الارمني لكنني ، والحق يقال ، ندمت فيما بعد لتأخري عن تلك القافلة ، وتكبدت من جراء ذلك بعض الاضرار ، بينما استفاد الارمني لكونه تمول ببضائع كثيرة فهبطت تكاليف سفره في طريق البر.
ان الموصل مدينة كبيرة ، لكنها لا تقاس عظمة بالنسبة الى نينوى القديمة ، التي كانت ، حسبما يروون ، في الجهة الثانية من النهر ، هناك حل الشباب التقي طوبيا (1) وقد اصابها الخراب (يعني مدينة الموصل) كما اصاب مختلف المدن العثمانية ، والحقيقة المؤسفة هي ، ان الحكم العثماني اتى الى العالم لا ليبني بل ليهدم ، وقد لمست لمس اليد هذا الواقع في كل الاصقاع التي مررت بها خلال سفري ، فلم اجد مدينة تستحق الاعتبار ، الا حلب ، ويرجع الفضل في كون حلب لا تزال جميلة ومنظمة الى وجود الفرنج فيها.
Sayfa 23
زرت في الموصل كنيسة لليعاقبة (1) ويبلغ عددهم 500 (نفس) (2).
وكان مطران الجماعة الكاثوليكية غائبا عن المدينة ، فقد حدثت بينه وبين افراد ملته مناقشات ، ترك على اثرها المدينة وذهب الى ماردين.
رأيت كنيسة النساطرة (3)، وهي صغيرة جدا ويبلغ عدد النساطرة في الموصل نحو 1000 نسمة. لكنهم يعدون بكثرة في الجبال القريبة من المدينة ، اذ يبلغ عددهم هناك نحو اربعين الفا ، يعيشون في مختلف القرى الجبلية ، وبالامكان اعادتهم الى احضان الكنيسة المقدسة بجهود بعض المرسلين الغيورين ، لكن ابليسا اللعين استطاع ، لسبب تافه لا يذكر ، ان يبعد الاباء الكبوشيين (4) الذين كانوا في هذه المدينة من اجل تلك الغاية ...
كان المناخ حارا لا يحتمل ليلا ونهارا ، فالخان عبارة عن بناء مغلق ، وليس للغرفة نوافذ ، ارسلت فاستدعيت بعض اقارب سليمان وابنه ، اما سليمان هذا (5) فقد كان احد مرافقي الاب برنارد ديستل P. Bernnardo
انظر : سليمان الصائغ (المطران): تاريخ المصول ج 3 ص 88000 الخ.
Fiey : MOssoul Chretienne P. 631 SS .
سافر اكثر من مرة الى روما ، وتوفي في القدس الشريف في نهاية سنة 1669 انظر الهامش 2 و6 ص 78 من كتاب :
Sayfa 24
Diestel (1) واستفسرت منهم عن الرجل ، فاجابوني ان اخباره قد انقطعت عنهم ، فساورني القلق بخصوصه وخفت عليه ، اذ كان من المفروض ان يصل الى المدينة قبلي ، نظرا لكوني مكثت في مالطة وحلب نحو ثلاثة اشهر.
في 4 آب (1656) تركت الموصل ، نحو الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، برفقة قافلة كبيرة ، فسرنا بمحاذاة دجلة في اماكن غير مأهولة ، وقد انتابني في تلك الليلة شعور الوحدة والقلق ، وفي الصباح توقفنا قرب النهر في منطقة تكثر فيها الحمامات وآبار القار الاسود ، ومياه تلك الحمامات حارة جدا لانها في غليان مستمر (2).
في تلك الليلة مررنا بجهينة (3) Gena وهي مدينة قديمة جدا واسعة الاطراف ، لكنها حاليا متهدمة خربة من اساساتها ، ولم يبق فيها بيت قائم. ووجدنا في طريقنا كميات كبيرة من القار ، مما اوجب علينا السير بحذر ، ثم انزلنا الرحال قرب دجلة ، فلمحنا وحشا ، لكنه هرب للحال.
ولما عاودنا السير مررنا بسلسلة من التلال تقع بمحاذاة مجرى النهر ، وهنا ايضا كان علينا ان نتقدم بحذر واناة كي نبعد عنا خطر الانزلاق والسقوط في الماء. ثم توغلنا في بقعة واسعة هي الموضع الذي لاقى فيه اربعون من العسكر الانكشاري حتفهم قبل ايام ، فرأينا عظامهم وبقايا جثثهم ، فتألمنا جدا لهذا المنظر المروع الذي
Sayfa 25