Nuba Zamanında Bir Yolculuk
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Türler
وبعد العشاء نظم المدرسون حفلا غنى فيه الطلبة، ولأول مرة نجد «الأكورديون» مع العازفين التقليديين في فرقة نوبية؛ لعل ذلك استعارة حضارية من السودان، حيث يلعب الأكورديون دورا مهما في الغناء السوداني - في الخمسينيات والستينيات، وربما بعد ذلك أيضا - وتخللت المقطوعات الغنائية وصلات صغيرة من النكات أضحكت زملاءهم كثيرا، وكنا في حاجة لمترجم، لكن النكتة تصبح باردة عند الترجمة، وقد نظم المدرسون الحفل تنظيما جميلا في وقت محدود، وكان الطلبة غاية في الأدب والانضباط.
في الصباح مررنا بالمدرسة وتبرعنا بمبلغ ثلاثة جنيهات لمجلس الآباء، وبقشيش سخي للفراشين - وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت - وتحركنا من الدر حوالي الثامنة صباحا في اتجاه المالكي، وصاحبنا في الرحلة إليها السيد/حسن عوض عبد الهادي، أحد تجار المالكي، توجد أمام الدر جزيرة يقع المجرى الملاحي غربها، بينما شرقها ضحل طيني، وكان أمامنا على البر الغربي معبد «عمدا»، هو معلم مهم في برية تكاد أن تكون غير مأهولة، أما البر الشرقي فكانت تمتد بطوله نجوع عمدية الديوان بمنازلها البيضاء، وأمامها شريط طويل من الأرض الزراعية وأشجار النخيل والدوم ومجموعات متناثرة من الماعز الذي يغلب عليه اللون الأسود، وفي الخلف تبدأ الجبال الشرقية في الظهور والاقتراب من ضفة النهر قرب أبو حنضل، ثم تشرف على النهر من كورسكو إلى وادي العرب والسبوع مسافة تبلغ أكثر من 35 كيلومترا.
قال لنا حسن عوض إن جزيرة الدر أصلها صندل محمل بالسكر كان في طريقه إلى السودان ثم غرق قبالة الدر، وتكونت فوقه الجزيرة بإرسابات الطمي السنوية، وأثناء سيرنا أمام الديوان كانت تظهر مناطق من الدوامات المتتالية، ثم تنتهي لتعود بعد مسافة إلى الظهور مرة أخرى، وحين كنا نمر قرب أبو حنضل شاهدنا سحابات بيضاء قليلة عالية، وهي أول مرة نشاهد فيها السحاب طوال رحلتنا.
يذكر حسن عوض - تأكيدا على بعض الكتب التاريخية - أن سكان أبو حنضل كانوا من رقيق الكشاف الذين كانوا يسكنون المناطق الأحسن في الديوان والدر، تاركين أبو حنضل الفقيرة لأتباعهم؛ ولهذا فإن نحو ثلاثة أرباع سكان أبو حنضل تظهر فيهم الملامح الزنجية بكثرة، ويستطرد حسن عوض أن الكثير من العليقات يعيشون في السودان، وخاصة إقليم طوكر حيث لهم أراض زراعية واسعة للقطن والعدس ولهم مطاحن كثيرة، ويقول إن هناك عائلات بأكملها من المالكي تعيش وتتزاوج في السودان، وإن شقيقه يعمل محاميا، وأولاد عمومته يعيشون في عطبرة والخرطوم وهاجروا بعد أن أتموا تعليمهم في مصر، أما عليقات السنجاري فهم كثيرون في منطقة ود مدني في أرض الجزيرة، أما غالب مهاجري وادي العرب فهو إلى مصر والقليل في حلفا، وكذلك الحال مع أهل عمدية السبوع وكورسكو الذين يعملون في القاهرة والإسكندرية.
والمعروف أن عرب العليقات كانوا يعملون أدلاء في تجارة السودان عبر صحراء العتمور منذ قرون، وكان ينافسهم في ذلك العبابدة، وفي عصر محمد علي باشا قسم الأخطاط بين العبابدة والعليقات في تجارة القوافل السودانية، وعلى أثر استيلاء الحركة المهدية على السودان اتخذت مصر كورسكو قاعدة عسكرية للعمليات ضد الخليفة التعايشي، وكان العليقات يقومون بدور أدلاء الصحراء، بينما كان العبابدة هم الجمالة للجيش المصري. وما زالت على قمة جبل كورسكو طابية صغيرة كان يستعملها الجيش المصري كمرقب؛ تحسبا لأية تحركات معادية، ومن هذه الطابية ينكشف في اتجاه الشمال منظر هائل لثنية النيل حتى الديوان من ناحية، ومسار وادي كورسكو والأودية الأخرى والهضبات والجبال لمسافة طويلة جنوبا، وبعض صور هذه المنطقة أخذها رياض من الطابية.
ونتيجة لاستقرار العليقات على ضفتي النيل في الجزء الأوسط من النوبة، فقد مارسوا الزراعة منذ فترة طويلة، أصبحت لهم ديار يحنون إليها؛ ولهذا فإن الكثير من العليقات في السودان يعودون بعد فترة طالت أو قصرت إلى بلادهم، أما العبابدة فأغلبهم بدو رحل، وأي مكان يتيح لهم حياة مقبولة هو المكان الذي يرتبطون به، سواء كان داخل مصر أو السودان؛ وبطبيعة الحال فإنه لا تتكون عاطفة مكانية لمنطقة المنشأ، وهذا هو حال كل البدو، وإلا لما انتشرت القبائل العربية خارج شبه الجزيرة العربية إلى كافة أرجاء العالم الذي فتحه الإسلام.
سطح النهر كالحصيرة الملساء تنعكس عليه ألوان السماء الزرقاء بما فيها من نتف من السحب البيضاء، كما تنعكس ألوان الصخور والرمال وخضرة الأشجار، عند مصب وادي كورسكو عبرنا النهر إلى الجانب الشرقي تجنبا لبعض الصخور الناتئة على الجانب الغربي، وقد لاحظنا أن الكثير من محصول الذرة قد قطع وكوم في كومات تمهيدا لحزمه بعد أن يجف، وقرب العاشرة كانت أمامنا على ثنية النيل مدرسة السنجاري بلونها الأبيض وامتدادها الكبير، تحتل موقعا مميزا وسط الصخور الداكنة وعلى ارتفاع نحو 18 مترا من سطح النهر، جلسنا فترة مع الأستاذ هلالي ناظر المدرسة، ودخلنا عدة فصول، ثم استمتعنا بالشاي مع المنظر الرائع الذي تطل عليه المدرسة.
عبرنا النيل مرة ثانية متجهين إلى نجع البوستة في المالكي، حيث أخذنا صفائح البنزين وملأنا الخزانات، كان الشاطئ طينيا لزجا وكانت عملية نقل الصفائح قاسية ومرهقة للريس محمد، ثم انتقلنا إلى نجع الحمداب لنأخذ سلة الخزين وبعض ما تركناه من ملابس وصفائح زيت الموتور المتبقية. ودعنا رفيق الرحلة من الدر السيد/حسن عوض، وأعدنا الأستاذ هلالي إلى السنجاري ووعدناه بإرسال الكثير مما تحتاجه المدرسة من أدوية وإسعافات أولية - وأظننا فعلنا ذلك في حينه - وبدأنا سفرتنا إلى سيالة قبيل الواحدة ظهرا، وأخذنا نفكر بصوت مسموع معجبين بأخلاق النوبيين وجديتهم في العمل، سواء كانوا تلاميذ أو مدرسين أو موظفين، ونحسدهم بعض الشيء على حياتهم الهادئة والتكيف مع البيئة القاسية ملتزمين بتقاليد موروثة غالبها مفيد، فماذا عن مؤثرات حياة المدينة على التراث الحضاري النوبي، وبخاصة بعد الانتقال إلى كوم أمبو وانحسار العزلة الجغرافية؟
الضفة الشرقية عبارة عن حائط جبلي مستمر مع قليل من الانفراجات تحتلها نجوع شاتورمة ثم وادي العرب، هبت رياح ساخنة جافة كهبو اللهيب على وجوهنا، والقارب يتأرجح خفيفا، وأحيانا كثيرا لاستمرار هبوب الرياح منذ أن تركنا السنجاري، وعبرنا شاتورمة ثم وادي العرب في نحو الثانية إلا ربعا، فأرسينا «لندا» إلى البر لراحة الموتورات، فالجو شديد الحرارة التي تكاد تشوي الوجوه! أخذنا غداء خفيفا وشربنا ماء كثيرا، ووضعنا طبقة سميكة من كريم البشرة على وجوهنا للحماية من التشقق، وكذلك على الأذرع العارية. الكاميرات لا تعمل لشدة الحر - وغير منصوح التصوير في هذه الحرارة العالية؛ لأن الفيلم لا يستجيب للضوء المبهر مع الحرارة التي تؤثر على طبقة الفيلم الحساسة - وكذلك جهاز التسجيل، وقد أخفينا هذه الآلات وسط أكوام من الملابس والأقمشة للحماية من الحرارة.
في نحو الثالثة مررنا أمام رمال وادي السبوع على البر الغربي ذات الألوان الحمراء والذهبية في صورة كثبان عالية تصل إلى حافة النهر ، وبعد قليل ظهرت خيام العاملين في معبد السبوع، أما الضفة الشرقية فكانت تلالا حجرية، ولم تمض فترة طويلة حتى بدأت صخور المضيق تقترب من ضفتي النهر، ومع هذا الضيق اشتد الهواء وارتفع الموج، وبعد اجتياز المضيق تراجعت التلال الغربية وحل محلها سهل واسع نسبيا، بينما ظلت التلال قريبة من الضفة الشرقية، اخترنا شجرة سنط ضخمة الفروع تلقي مساحة من الظل على البر الغربي، فرسونا عندها لتغيير خزانات البنزين، وفي الرابعة والنصف كانت التلال الشرقية قد تراجعت فجأة ولم تعد ظاهرة مرئية، وحل محلها بدايات سهل سيالة الواسع، وبعد الخامسة بقليل وصلنا نجع البوستة في سيالة.
Bilinmeyen sayfa