Nuba Zamanında Bir Yolculuk
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Türler
ومع بداية نجوع عمدية دهميت، أخذت الحافة الصخرية على البر الشرقي في التراجع قليلا بعيدا عن النهر، فتترك مجالا لسهل فيضي محدود الاتساع، وسنرى فيما بعد أن السهول الفيضية تتسع في مناطق متناثرة من النوبة الشمالية، فالسهل في دهميت لا يتجاوز 400 متر اتساعا، وفي قرشة نحو 500 متر في أحسن حالاته، وكذا في سيالة، بينما يبلغ اتساعا يصل إلى 600-700 متر عند الدكة والعلاقي وقورتة، أما في النوبة الجنوبية فإن السهول أكثر اتساعا واتصالا فيما بينها كلما اتجهنا جنوبا من الدر إلى توشكى، ثم تضيق في منطقة بين أرمنا وأبو سمبل، وتعود للاتساع في بلانة-أدندان.
وفي دهميت ظهرت كثير من البيوت مطلية بالجير الأبيض، فبدت على البعد، وقد رصعت الحواف الصخرية الداكنة، مما أعطى لونا جديدا إلى مجموعة الألوان في بانوراما جميلة، وطلبنا من قبطان عمدا أن يدير «سارينة» المركب - الصفارة - أمام نجع الجامع على البر الشرقي لعل أحدا يأتي إلينا؛ لنتفاهم معه على المبيت وإبلاغ حارس اللنش «لندا» التابع للجامعة الأمريكية، ولكن رغما عن إطلاق السارينة عدة مرات، ولمدة ليست بالقصيرة؛ فإن أحدا لم يأت إلى الشاطئ، فقررنا استئناف الرحلة إلى البر الغربي حيث ترسو لندا، وبعد مسيرة حوالي ربع الساعة، وصلنا إلى المكان الذي تقبع فيه لندا.
وعلى الرغم من أننا كنا نعرف أن لندا قارب صغير، إلا أن المفاجأة أدهشتنا؛ فقد وجدنا أنفسنا ننظر من عل - من عمدا - على قارب منخفض لا يزيد ارتفاع أعلى جزء منه عن سطح الماء بأكثر من 130سم، بينما كان ارتفاع عمدا في حدود ثلاثة أمتار، وبينما يبلغ طول عمدا نحو 12 مترا، فإن لندا لم تكن بأكثر من أربعة أمتار ونصف المتر، ويحتل مقدمها قرابة متر ونصف، والباقي هو الفراغ الذي سوف يشغله ركاب القارب وعجلة القيادة والمحركان في الخلف، وفي الوقت الذي كانت فيه عمدا مجهزة بغرفة نوم ومقصورة خلفية وحمام ومطبخ ومرشح للماء وبوتاجاز وكشافات كهربائية وسارينة ومخزن وقبطان ومساعده؛ لم يكن في لندا شيء من هذا كله، ولا حتى سارينة، كل ما فيها محركات قوية وقماش كبير يمتد على أعمدة منخفضة مكونا سقفا يحجب أشعة الشمس القوية، وكنبة من الجلد أمام مقعد القيادة تتسع لثلاثة أشخاص نحاف، وبحذاء الجدارين كنبتان من الجلد بطول قرابة 180سم وعرض نحو 80سم.
وقفنا لحظات نتأمل من عل هذا القارب الصغير، لكنه كان أمرا محتما أن نترك عمدا وننزل إلى لندا تطبيقا للمثل «حمارتك العرجة أحسن ...» أنزلنا ما معنا من حقائب ومعدات وطعام كان عليه أن يبقينا قرابة الشهر على قيد الحياة، وأربعة صفائح بنزين ومثلها من زيت المحركات.
شكرنا قبطان عمدا ومساعده شكرا جزيلا، وأخذ يلوح لنا بيده وهو يغادرنا بسفينته «الضخمة» مودعا قاربنا الصغير، وقد بدا في عينيه تساؤل واضح غير خفي: هل ستخدم لندا غرضنا وتنقلنا إلى أصقاع النوبة كلها؟
وحينما عدنا من رحلتنا من النوبة قابلنا قبطان عمدا في مرساه بغرب أسوان، فهنأنا بسلامة العودة، وأخبرنا صراحة ما كان يجول في خاطره من تساؤل، وأثنى ثناء عاطرا على مقدرة لندا وكفاءتها وتحملها.
وبعد أن بعدت عمدا واختفت عن الأنظار، بدأت لندا تبدو في أعيننا أكبر وأكبر حتى شعرنا بها، وقد احتوتنا واعتدنا على الحركة فيها براحة معقولة، فلقد انتهى أثر عمدا النفسي ولم يعد هناك ما نقارن به لندا.
وعلى الرغم من صغر حجم لندا، إلا أنها كانت ذات شراهة غير محسوبة؛ فقد ابتلعت كميات كبيرة من البنزين والزيت، ولكن ذلك كان طول الرحلة جنوبا ضد التيار الجارف، أما في الرحلة شمالا فقد كان استهلاك الوقود نحو نصف الاستهلاك جنوبا، وذلك بمساعدة تيار النهر؛ مما أدى إلى عدم استخدام عدد من الصفائح تركناها وراءنا لمن يريد استعمال البنزين والزيت، وهذه نقطة سهى علينا إدراكها، وإلا كنا قد وفرنا مبلغا من ميزانية محدودة، كذلك كانت سرعة التيار تساعدنا في قطع نفس المسافات في نحو نصف الزمن الذي قطعناه حين السير ضد التيار.
والواقع أننا فيما بعد أدركنا أننا قد عقدنا أواصر قوية مع لندا، وودعناها وداعا حارا في كلابشة حين تركناها في رعاية الريس محمد علي شاجة ليذهب بها إلى مرساها في أمبركاب، وركبنا سفينة البعثة الآركيولوجية الألمانية إلى أسوان، وحين عدنا مرة أخرى إلى النوبة - كورسكو يناير/فبراير 1963م - لم تكن معنا لندا، افتقدناها وشعرنا بفراغ كبير، خاصة مع كثرة الانتقالات بين كورسكو شرق وغرب ونجوع الريقة والمالكي وشاترمة، التي كانت تحتاج إلى قارب خدوم ودود وصديق مثل «لندا».
الفصل الثالث
Bilinmeyen sayfa