Zaki Najib Mahmud'un Düşüncelerinde Bir Yolculuk
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Türler
هذا الموقف الأكاديمي الذي وقفه الدكتور زكي نجيب عندما كان مشرفا على رسالتي للماجستير، إنما يعبر عن خاصية حقيقية وأصيلة للأستاذ الجامعي. وهو يذكرني بموقف مماثل وإن كان أسبق منه زمنيا، عندما كنا طلابا بالجامعة، في منتصف الخمسينيات، وعرفنا الرجل لأول مرة وبهرتنا محاضراته القوية الواضحة التي يستحيل أن تمر عليك دون أن تترك فيك أثرا ملموسا؛ فهو يحمل معولا ضخما ينهال به على أفكار ومفاهيم، كنا نظن أن لها صفة «القداسة»، وأنها لا يمكن أن «تمس» وإذا بها تتحول بين يديه إلى كلمات لا معنى لها «كالسوح» «والمشقرات» «واللاذبية» وغيرها، وبحماس الشباب الذي يقبل على التغيير بقوة، اندفعنا نحو تبني المذهب الذي يعتنقه الأستاذ ويبشر به، وسعينا إليه في منزله نعلن له عن رغبتنا في تكوين «جماعة فينا جديدة»، على أن يكون مقرها هذه المرة مدينة القاهرة تعمل على نشر الوضعية المنطقية في الوطن العربي كله عن طريق ترجمة بعض النصوص الهامة تحت إشراف الأستاذ، والتعريف بأهم فلاسفتها وإقامة الندوات، وترتيب المحاضرات التي يقوم هو فيها، بطبيعة الحال، بالدور الرئيسي في عرض المذهب ... إلخ.
3
واستقبلنا الرجل في منزله بترحاب شديد، وكنت لأول مرة أصادف أستاذا كبيرا يعامل تلاميذه الزملاء رغم صغر السن وضآلة الثقافة (ولقد كان أستاذ الجامعة عندنا في ذلك الوقت يقترب في تصورنا من مستوى الآلهة). وعرضنا عليه في فرح ممزوج بالفخر والحماس المشروع الذي ننوي القيام به، وكم كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لنا عندما وجدناه يرفض، بأدب جم، ما عرضناه عليه من أفكار. وما زالت أصداء كلماته الإنجليزية ترن في مسامعي حتى الآن بعد ما يقرب من ثلاثين عاما: «ما زال الوقت مبكراجدا بالنسبة لكم لاعتناق مذهب ما.» ثم قال بحنان الأب وأمانة الأستاذ: «... هل تعلمون كيف وصلت أنا إلى هذا المذهب؟ لقد كانت رحلة طويلة جدا وشاقة جدا حتى اهتديت إلى المذهب الذي ارتاح له فكري. أما أنتم فلماذا تحصرون أنفسكم في هذه السن المبكرة في إطار مذهب ضيق أيا كان نوعه؟ ... لا ... لا ... نصيحتي إليكم أن تواصلوا القراءة والدراسة، اطلعوا على المذاهب جميعا وتمثلوها جيدا، ثم اتركوا عملية اختيار المذهب إلى آخر لحظة ممكنة ...» ولم أكن أعلم يومها حقيقة موقفه، الذي ما زال يغيب عن كثيرين حتى الآن؛ وهو أن الرجل يقوم بمهمة تنويرية في المقام الأول، استكمالا لنفس الطريق الذي سار فيه كثرة من الرواد من قبل، مثل أحمد لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، وهيكل وغيرهم، أنه لا يستهدف نشر مذهب اسمه «الوضعية المنطقية»، وإنما هو يريد أن «ينير» عقول الناس، أن يغير من طريقة التفكير السائدة عندهم. إنه يسعى إلى نشر «منهج» جديد يحلل الناس بواسطته أفكارهم، وأفكار غيرهم، ليقبلوا ما له معنى فحسب، وليزيحوا عن أنفسهم هذا الركام الهائل من الخرافة، الذي ما زال يعشش في صدورهم. إنه باختصار يريد «توظيف» الوضعية المنطقية لصالح الفكر التنويري الذي يدعو إليه، لكنه لا يقبل أن يكون هو نفسه «موظفا» عند هذا المذهب، ولا عند غيره من المذاهب. إنه يستخدم المذهب لدفع الفكر العربي إلى الأمام، لكنه يرفض أن يستخدمه المذهب بحيث يكون كل همه الدعوة إليه، ونشر أفكاره بكل السبل؛ ومن هنا فإن الدور الحقيقي والهام الذي يقوم به الدكتور زكي نجيب محمود في فكرنا العربي، يغيب تماما عن كل من يظن أن هدف الرجل كان «تكوين مدرسة فلسفية (هي الوضعية المنطقية العربية) يثابر على إثرائها وتدعيمها في إخلاص ودأب وأناة.»
4
أو أنه أراد «أن ينمي حوله تيارا فكريا مستمدا من أصول هذه الفلسفة، وأن يدعمه بالمقالات والمحاضرات والكتب» ...
5
لم أكن أدرك عن «وعي» حقيقة الدور الذي يؤديه عندما ذهبنا إليه نعرض تكوين حلقة «فينا» جديدة، وقل مثل ذلك في الحوار الذي دار ذات يوم بينه وبين السيدة زوجته، التي كانت ترى أن المجرم أقل «ذكاء» من غيره، ويتجلى ذلك في عدم إدراكه للنتائج البعيدة المدى، التي تترتب على سلوكه الإجرامي، ومدى ما يؤدي إليه مثل هذا السلوك في مستقبل حياته، وكان رأي الأستاذ مختلفا، وكان عليه أن يدافع عنه بقوة، فبعض المجرمين الآن، في أوروبا وأمريكا، (وكان الحوار يدور يومها بمناسبة سرقة قطار في إنجلترا، كان يحمل عدة ملايين من الجنيهات الإسترلينية)، عليهم تتبع التطورات التكنولوجية الحديثة، حتى يمكن وصفهم بأنهم «علماء» في مجالهم، بمعنى أنهم على درجة عالية من المعرفة، تمكنهم من فهم أجهزة الإنذار الحديثة، وكيف تعمل، وكيف يمكن إبطالها. كما أن عليهم أن يعرفوا دقائق الأمور عن خزائن المال، والتعقيدات المتناهية في فتحها؛ إذ قد تحتاج بعض هذه الخزائن إلى مليون عملية حسابية لكي تفتح. وذلك كله دليل على ذكاء حاد وقدرة عقلية فائقة. أما مسألة عدم تقدير المجرم للآثار والنتائج المترتبة على سلوكه الإجرامي، فقد يصدق ذلك على صغار المجرمين، أما كبارهم، وهم موضوع حديثنا الآن، فهم ينظرون إلى المسألة على أنها «مغامرة»، فإن نجحت رفعتهم إلى السماء السابعة، وعاشوا بقية عمرهم في رغد (وبعضهم يغير ملامح وجهه، ويذهب للحياة في مكان ما بعيدا عن وطنه)، وإن فشلت قضت عليهم؛ فالمسألة حياة أو موت. ثم إنه يقول لنفسه أنها لن تفشل، إن الحالات التي فشلت فيها الجريمة من قبل (كحالات فشل بعض الانقلابات العسكرية)، كانت بسبب أخطاء وقع فيها المدبرون، وربما كانوا أقل ذكاء، أما هو فقد درس العملية التي سيقوم بها دراسة جيدة يتعذر معها الفشل.
زكي نجيب محمود ... المعلم
في استطاعتي أن أقول، في اطمئنان وثقة: إن زكي نجيب محمود ليس أستاذا عاديا يلقنك معلومات، أو مجموعة من المعارف وينتهي دوره، وإنما هو معلم من الطراز الأول؛ إنه المعلم الذي يهز تلاميذه هزة عنيفة يستحيل بعدها أن يعودوا كما كانوا؛ من هنا كان الطالب الذي تتلمذ عليه ولم يتأثر بما يقول، ولم ينفعل، سلبا أو إيجابا، بكلماته؛ كالصخر الأجرد الذي يسيل عليه الماء فينحسر عنه؛ لأنه مغلق أصم ولا رجاء فيه!
زكي نجيب محمود هو «المعلم» الذي يثيرك بكلماته، ويدعوك إلى نزاله ومحاورته، وهو لا يشعر بضيق ولا ملل من كثرة الأسئلة التي يطرحها عليه طلابه بالغة ما بلغت بساطتها - وأحيانا سذاجتها - شريطة أن يتابعوه، وأن يفهموا عنه ما يقول، وأذكر أننا كنا نتعمد الإكثار من الأسئلة في موضوعات نظن أنها «تحرجه»: «هل يمكن أن يترجم الفقر ترجمة حسية مادية؟! وهل ينطبق المعيار الحسي نفسه على مفهوم «الحرية»؟! وماذا يكون مصير الدين وقضاياه الأساسية؟! هل أنت مؤمن؟! وكيف نطبق على الإيمان معايير الوضعية المنطقية؟! وكان «المعلم» يتحمل هذه الأسئلة الساذجة جميعا، ويجيب عنها بهدوء وبغير انفعال. لم يكن ينفعل إلا عندما يشعر أن شرحه قد ضاع أدراج الرياح، وأن سؤال الطالب يكشف عن عدم فهمه لما قيل! وأضرب مثلا على ذلك بهذه الواقعة الطريفة التي يكشف عنها هذا الحوار الذي دار بينه وبين أحد الطلاب في قاعة الدرس: - إن سؤالك ينم عن أنك لم تفهم شيئا مما قلت! - كلا! لقد فهمت كل ما قلت! - أؤكد لك أنك لم تفهم! - أقسم بالله العظيم أنني فهمت! - يمين على يمينك أنك لم تفهم شيئا!
Bilinmeyen sayfa