Judith Gautier
ابنة الشاعر الفرنسي تيوفيل جوتييه، حين زارته مع زوجها وصديق لهما في تربشن. كانت جوديت قد أغرقته من قبل برسائلها التي بلغ فيها إعجابها حد التقديس، وأشادت فيها بفنه في أرق أسلوب شعري. ولكم عاود ڤاجنر مرحه وهو يتحدث مع هؤلاء الزوار الجدد حديثا يفيض طربا وفكاهة! بل لقد عاد طفلا من جديد، فأصبح يقفز ويستلق الأشجار بخفة القرود أمام زائريه المتعجبين! وفي ظل ذلك الشعور الملهم، واصل عمله في تأليف بارسيفال؛ فما كان في وسعه المضي فيها دون أن يطمئن إلى أنه يحوز إعجاب امرأة. وهكذا كانت ردوده على رسائلها حافلة بعبارات الحب الواله. ولكن أحقا أن هذا الشيخ الذي تجاوز الستين كان يحب الفرنسية الجميلة ابنة الخامسة والعشرين؟ لقد كان يعرف أن هذا وهم، وأنه يخادع نفسه؛ ولكن لا بد من هذا الخداع حتى يقتنع بأن روحه ما زالت فتية، وبأن في وسعه أن يحب ويعيش ويلحن.
ولكن وطأة الإقامة في بايرويت كانت شديدة على ذلك الذي كان يعلم أنه يدون آخر أعماله، كان في حاجة إلى هدوء الجنوب وصفائه، فليمض إلى إيطاليا! وفي نابلي كان ڤاجنر يطل من شرفته فيشاهد بركان فيزوف، فيراه قديما عتيقا، ولكنه لم يزل حيا يثور ويثور ... وكذلك كان ڤاجنر. وفي ذات يوم أتته رسالة من الملك لودفيج الثاني يعده فيها بأن يعرض بارسيفال على نفقته الخاصة حين يتمها. وكان لا بد أن يعود ڤاجنر إلى ألمانيا ليشكره. وفي ميونيخ قرر أن يقيم حفلا موسيقيا يعزف فيه مقطوعات من دراماته؛ غير أن الملك تأخر قليلا عن الحضور، فغضب ڤاجنر، واشتد غضبه حين أخذ الملك يلح عليه في عزف قطع أخرى لم تكن ضمن برنامجه، فلم يلبث أن قذف بعصا القيادة إلى أحد أصدقائه، ثم أسرع إلى منزله، حيث انتابته نوبة مرضية عنيفة، وانفجر غضبه على شكل سباب ولعن لكل الحكام في العالم: الملك، والإمبراطور، وبسمارك؛ الكل على حد سواء!
وساءت صحة ڤاجنر في عام 1881م. وحين عاده الأطباء لم يروا شكواه راجعة إلى علة جسمية، بل كان في حاجة إلى هواء الجنوب لتهدئة نفسه المتعبة. ومرة أخرى تتجه الأسرة إلى إيطاليا، وهناك لم يضع ڤاجنر لحظة واحدة بغير تأليف؛ فقد أصبح يخشى أن يفاجئه الموت قبل أن يتم عمله الأخير؛ وما كان في وسعه أن يحتمل نقصان بنائه الشامخ حجرا واحدا.
ويعود ڤاجنر إلى بايرويت في أوائل عام 1882م ليشهد افتتاح بارسيفال. ويتكرر العرض ست عشرة مرة، ويحقق نجاحها كل آمال ڤاجنر، حتى يزهد في المجد والنجاح، ويتوق مرة أخيرة إلى هدوء الجنوب ... لقد عمل بنصيحة كوزيما إذ قالت: على المرء أن يعيش في ألمانيا ويموت في إيطاليا.
وها هي ذي إيطاليا تناديه، والبندقية خاصة تنتظره ... لقد بلغت الحياة قمتها والشمس المشرقة سمتها في تلك المدينة؛ وما أجمل الموت حيث تزدهر الحياة.
وفي الثاني عشر من فبراير عام 1883م نام ڤاجنر ليلة هادئة، كان أفراد أسرته يستمعون إلى صوته خلالها كثيرا، كما اعتاد أن يفعل حين يؤلف أشعارا جديدة ... وحين استيقظ في فجر اليوم التالي، كان يحس قلقا لا يدري سببه، عبر عنه بقوله: «لا بد لي أن آخذ حذري اليوم.» وبينما كانت الأسرة تتناول الغداء، وهو لم يزل ملازما غرفته وحيدا، سمع الجرس الصادر عن غرفته يرن بقوة، ثم أسرعت خادم تطلب من كوزيما أن تأتي على عجل، ولكن ڤاجنر في سورة ألمه ونضاله الأخير يطلب من زوجته أن تبتعد، زاعما أنه لم يكن في حاجة إليها. وفي المرة الثانية، حين علا رنين الجرس، استسلم لكوزيما، ولم يكن في وسعه هذه المرة أن يقاوم، فأسند رأسه إلى صدرها في سكون، ثم صمت إلى الأبد.
وكان موكب جسد الفنان وهو ينتقل من إيطاليا إلى ألمانيا رهيبا مهيبا. وانتهى المطاف به في بايرويت، حيث رست أخيرا سفينة «الهولندي الطائر»، واستقر حيث كان يتمنى دائما أن يكون. •••
في حياة ڤاجنر صفحة واحدة متكررة، هي الثورة مع التقلب والحركة الدائمة. وفي ضوء هذه الصفحة تتضح كل تفاصيل تلك الحياة وتفسر جميع وقائعها. ولا شك في أن هذه لم تكن صفة عارضة شاءتها الظروف القاسية التي مر بها، بل كانت راجعة إلى تركيبه وتكوينه؛ فطبيعته النشطة الدائمة الحركة هي التي شاءت أن تكون حياته كذلك. وكانت تلك الطبيعة الثائرة هي أول ما يلفت أنظار مشاهديه ... ولنستمع إلى بعض من وصفوه لتكمل بذلك الصورة الحية التي نود رسمها لڤاجنر ولشخصيته.
وصفه موسيقي فرنسي هو «لوي لاكومب
Bilinmeyen sayfa