Richard Feynman: Bilimdeki Hayatı
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Türler
تقديم
مقدمة
الجزء الأول: مسارات نحو العظمة
1 - البداية
2 - عالم الكم
3 - طريقة تفكير جديدة
4 - أليس في بلاد الكم
5 - نهايات وبدايات
6 - فقد البراءة
7 - مسارات نحو العظمة
Bilinmeyen sayfa
8 - من هنا إلى ما لا نهاية
9 - شطر ذرة
10 - نظرة عابسة من وراء زجاج
الجزء الثاني: بقية الكون
11 - مادة القلب وقلب المادة
12 - إعادة ترتيب الكون
13 - الاختباء داخل المرآة
14 - صنوف من الإلهاءات ومباهج الحياة
15 - استفزاز الكون
16 - من القمة إلى القاع
Bilinmeyen sayfa
17 - الحق والجمال والحرية
خاتمة
شكر وتقدير ومراجع
تقديم
مقدمة
الجزء الأول: مسارات نحو العظمة
1 - البداية
2 - عالم الكم
3 - طريقة تفكير جديدة
4 - أليس في بلاد الكم
Bilinmeyen sayfa
5 - نهايات وبدايات
6 - فقد البراءة
7 - مسارات نحو العظمة
8 - من هنا إلى ما لا نهاية
9 - شطر ذرة
10 - نظرة عابسة من وراء زجاج
الجزء الثاني: بقية الكون
11 - مادة القلب وقلب المادة
12 - إعادة ترتيب الكون
13 - الاختباء داخل المرآة
Bilinmeyen sayfa
14 - صنوف من الإلهاءات ومباهج الحياة
15 - استفزاز الكون
16 - من القمة إلى القاع
17 - الحق والجمال والحرية
خاتمة
شكر وتقدير ومراجع
ريتشارد فاينمان
ريتشارد فاينمان
حياته في العلم
تأليف
Bilinmeyen sayfa
لورنس إم كراوس
ترجمة
محمد إبراهيم الجندي
لا بد أن تتصدر الحقيقة المشهد قبل العلاقات العامة؛ لأنه لا يمكن خداع الطبيعة.
ريتشارد بي فاينمان، 1918-1988
تقديم
مع حلول القرن العشرين ظهرت نظريتان علميتان مهمتان هما نظرية النسبية ونظرية الكم، شكلتا حدا فاصلا بين قسمين كبيرين من علم الفيزياء؛ أحدهما يسمى «الفيزياء الكلاسيكية»، والآخر يعرف باسم «الفيزياء الحديثة». كانت قوانين الفيزياء الكلاسيكية قد نجحت في تفسير الظواهر الخاصة بعالم الأجسام الكبيرة (الماكروكوزم)، حيث الجسيمات والموجات كيانات مختلفة تماما لا صلة بينها، ويمكن للكميات الفيزيائية التي تصف هذه الكيانات (مثل الطاقة وكمية التحرك) أن تأخذ أي قيمة، كما يمكن للتجارب العملية التي تحقق القوانين الكلاسيكية أن تؤدي إلى نفس النتائج إذا ما أجريت تحت نفس الظروف.
أما الفيزياء الحديثة والمعاصرة التي تدرس الجسيمات - أو الدقائق - المتناهية في الصغر على مستوى الجزيئات والذرات (الميكروكوزم)، فإنها تعتبر الجسيم الدقيق المتحرك كأنه مصاحب لموجة تحت شروط معينة، والعكس صحيح، وهو ما يطلق عليه اسم «الطبيعة المزدوجة»، أو ثنائية الجسيم-الموجة . كما تأخذ الكميات الفيزيائية الديناميكية في حالة الجسيمات ذات الحجوم الذرية ودون الذرية قيما محددة مسموحا بها، فالطاقة التي تبعثها (أو تشعها) الأجسام لا تكون قيمها متصلة، وإنما تكون على شكل وحدات أو كميات منفصلة ومتتابعة، كل منها تسمى «كمة» أو «كم» أو «كوانتم»، وتجمع على «كمات» أو «كوانتات». ويتوقف مقدار كل «كم» من الطاقة على طول الموجة التي يشعها الجسم، وله مقدار ثابت يرمز له بالرمز
h ، ويسمى «ثابت بلانك»، وهو من السمات الأساسية للفيزياء الحديثة ومؤسسها الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858-1947) الحائز على جائزة نوبل عام 1918.
توالى بعد ذلك ظهور عدد من الاكتشافات العلمية الثورية التي أدت إلى تطور نظريتي النسبية والكم بسرعة هائلة خلال القرن العشرين على أيدي كوكبة من العلماء الأفذاذ، وكان الفيزيائي ريتشارد فاينمان (1918-1988م) واحدا من ألمع نجوم هذه الكوكبة. هذا العالم يعرفه جيدا دارسو الفيزياء على مستوى العالم من خلال مجموعته التعليمية الرائعة التي أنجزها بعنوان «محاضرات فاينمان في الفيزياء»، ونشرها في عدة مجلدات في الفترة بين عامي 1963 و1965، وترجمت إلى معظم لغات العالم، بما فيها اللغة العربية.
Bilinmeyen sayfa
ومن أهم إنجازات فاينمان أنه وضع نظرية الديناميكا الكهربائية الكمية، وقد نال عليها ميدالية ألبرت أينشتاين للعلوم في عام 1945م. كما أنه ابتكر في عام 1958 مخططا بسيطا عرف باسمه وسمي «مخطط فاينمان»، فأسهم بذلك إسهاما فعالا في تبسيط حل مسائل التآثرات الحادثة بين الجسيمات الأولية. إن أية نظرية تفصيلية شاملة توضع لتفسير الظواهر الكونية المختلفة ينبغي ألا تقتصر على تعيين الجسيمات الأساسية والأولية لبنية الكون، بل تحدد أيضا القوى التي تحكم سلوك هذه الجسيمات وتآثراتها مع بعضها البعض، أو مع تآثرات أخرى معينة، لتنشأ منها تفاعلات أكثر تعقيدا.
ومن جميل الذكر في هذا السياق أن جهود فاينمان ومخططاته في حل مسائل التآثرات تعتبر أساسا لدراسة قضية التوحيد بين القوى الأساسية الأربع التي تعمل في الكون، وهي: قوة الجاذبية التي يعزى إليها سقوط الأجسام تلقائيا نحو الأرض، والقوة الكهرومغناطيسية التي تعمل على شكل تجاذب أو تنافر بين الجسيمات المشحونة كهربيا، وتعمل بشكل مماثل بين الشحنات المغناطيسية، والقوة النووية الشديدة التي يعزى إليها حفظ تماسك نواة الذرة، والقوة النووية الضعيفة التي يعزى إليها بشكل خاص أحد أشكال التحلل الإشعاعي للنواة بانبعاث أشعة بيتا. وقد اشترك فاينمان نفسه مع مواري جيلمان - الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 - في وضع نظرية لتفسير الظواهر المصاحبة للتآثرات الضعيفة التي تحدث للجسيمات الأولية، وشارك في إعداد النظرية الحالية عن الكواركات، وقام بعمل نموذج أوضح فيه كيف يتحلل النيوترون إلى بروتون مع إصدار إلكترون ونيوترينو مضاد. وقد نجح العلماء الثلاثة: عبد السلام-واينبرج-جلاشو في توحيد القوتين، الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة، في قوة واحدة تنبئوا بها في نظرية الكهرضعيفة، ثم أكدتها التجارب العلمية التي تمت عند طاقات عالية جدا في المعمل الأوروبي لفيزياء الجسيمات الأولية بجنيف، والمعروف باسم سيرن، واستحقوا عليها جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979.
من ناحية أخرى، هناك من يؤرخ لمولد تقنية النانو بمحاضرة شهيرة ألقاها ريتشارد فاينمان في أواخر عام 1959م حول آفاق تصميم آلات ذات حجوم صغيرة، وجعل عنوانها: «هناك مساحة فسيحة في القاع»، وذلك خلال المؤتمر السنوي للجمعية الفيزيائية الأمريكية. طرح فاينمان في تلك المحاضرة سؤالا بسيطا في تحد وهو: إلى أي مدى يمكن أن نجعل الآلات أصغر حجما؟
وقد شرح توقعاته حول شكل أصغر الآلات التي يمكن تصميمها بحيث تتلاءم مع قوانين الفيزياء المعروفة، حيث أدرك أنه من الممكن أن تصل تقنية التصغير تدريجيا إلى أبعاد ذرية، ويمكن بعد ذلك استخدام الذرات والتحكم فيها لصنع آلات وأدوات أخرى، واستنتج أن مثل هذه الآلات والأدوات الذرية - شأنها شأن البكرات والعتلات والروافع والعجلات - تعمل كلها ضمن قوانين الفيزياء، على الرغم من الصعوبة الشديدة في تصنيعها.
كانت فكرة فاينمان عن التحكم في الأشياء عند مستوى متناهي الصغر هي التي قامت عليها فيما بعد تقنية النانو، عن طريق بناء المواد وتشكيلها باستخدام الذرات أو الجزيئات المفردة للحصول في كل مرة على مخرجات جديدة غير متوقعة، مشيرا بذلك إلى الإمكانات الهائلة في عالم الذرات والجزيئات، والفرصة الكبيرة التي يتيحها هذا العالم لإجراء أبحاث جديدة.
وتحققت توقعات فاينمان لأدوات تقنية النانو بعد حوالي عقدين باختراع مجهر المسح النفقي، استنادا إلى إحدى الظواهر الغريبة في فيزياء الكم والمعروفة باسم «تأثير النفق». وقد ساعد هذا المجهر على تصميم وصناعة كائنات نانوية، فتمكن اليابانيون من صناعة سيارة طولها 4,78 مليمتر، وعرضها وارتفاعها 1,7 مليمتر، كما تمت صناعة جيتار لم يزد عرض أوتاره على خمسين نانومترا. وتواصلت تلك الاهتمامات وتشعبت مجالاتها.
وفي عام 1986 تمكن علماء جامعة ستانفورد من صنع مجهر القوة الذرية الذي استمدت فكرته من مجهر المسح النفقي. وقد حقق العلماء بهذا المجهر نجاحا يتمثل في تصوير الجزيئات المفردة للأحماض الأمينية والبروتونات، وأمكن تطويره حاليا، ليس فقط للاستفادة منه في مراقبة ومتابعة المواد على المستوى الذري ورصد التفاعلات البيوكيميائية أثناء حدوثها، ولكن أيضا لتحريك الذرات والتحكم في تشكيلاتها.
وهكذا يتضح أن الكشوف والأفكار التي قدمها ريتشارد فاينمان، أحد عباقرة القرن العشرين، كانت بمقاييس فيلسوف العلم المعاصر توماس كون من أهم مقومات العلم غير العادي، أو العلم الثوري الذي أحدث طفرة هائلة نقلتنا إلى نموذج قياسي جديد بدأ ينمو ويترعرع مع بدايات القرن الواحد والعشرين. وأهم ما يميز هذا النموذج أنه يستخدم مفاهيم جديدة ومتطورة، وإن كان يصعب تصورها في بعض الأحيان لأنها لا تتفق مع ما اعتدنا عليه من تصورات تقليدية، إلى درجة أن قال فاينمان نفسه عبارته المشهورة: «نظرية الكم هي النظرية التي يستخدمها الجميع ولا يفهمها أحد على الإطلاق!» ... فنحن في حقيقة الأمر نعيش في «عالم كمي» غريب، يتحدى بطبيعته المخالفة للبداهة كل تفسير منطقي مريح عهدناه وألفنا مفاهيمه في العالم الكلاسيكي.
وقد حصل فاينمان على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965 بالاشتراك مع الفيزيائي الأمريكي جوليان شفينجر والفيزيائي الياباني توموناجا، وذلك تقديرا لبحوثهم الرائدة في تطوير نظرية المجال الكمية، وعلم الديناميكا الكهربائية الكمية الذي يدرس التفاعل بين الإلكترونات والإشعاع، اعتمادا على معادلات ماكسويل للمجال الكهرومغناطيسي للإشعاع ونظرية ديراك (1902-1984) الكمية النسبية للإلكترونات.
ونال فاينمان عضوية الجمعية الفيزيائية الأمريكية وغيرها ، كما أنه عمل ضمن الفريق الذي صنع القنبلة الذرية خلال مشروع مانهاتن. وبعد إلقاء القنبلة على هيروشيما حزن على ما حدث من تدمير بسبب القنبلة، وكان في الوقت نفسه سعيدا بسبب الإنجاز العلمي الذي حققه مع زملائه، لكنه بعد إلقاء القنبلة الثانية على ناجازاكي ازداد حزنه وأصبح متشائما جدا.
Bilinmeyen sayfa
وأخيرا، لعل في هذه الإضاءة الموجزة عن حياة فاينمان وأهم إنجازاته العلمية ما يجعلنا ندرك قيمة الكتاب الذي بين أيدينا، من تأليف الكاتب العلمي المتميز لورنس كراوس. ولا شك أن ترجمته العربية سوف تثري معلومات القراء على اختلاف تخصصاتهم ومستوياتهم العلمية والثقافية.
هذا والله من وراء القصد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أ. د. أحمد فؤاد باشا
أستاذ الفيزياء والعميد الأسبق بكلية العلوم جامعة القاهرة
والنائب الأسبق لرئيس جامعة القاهرة
عضو المجمع العلمي ومجمع اللغة العربية بالقاهرة
www.afbasha.com
مقدمة
أعتقد أن الفيزياء مجال رائع. إننا نعرف الكثير جدا لكننا نصنف معارفنا في معادلات قليلة للغاية، على نحو يجعلنا نقول إننا لا نعرف إلا القليل.
Bilinmeyen sayfa
ريتشارد فاينمان، 1947
غالبا ما يكون الفصل بين الحقيقة والخيال أمرا عسيرا عندما يتعلق الأمر بذكريات الطفولة، لكنني أملك ذكرى واضحة عن المرة الأولى التي فكرت فيها أنه قد يكون من المثير حقا أن أصبح عالم فيزياء. كنت مفتونا بالعلوم عندما كنت طفلا، ولكن العلوم التي درستها كانت دائما ما يفصلني عنها نصف قرن من الزمان على الأقل، ومن ثم كانت أقرب ما تكون إلى التاريخ. ولم يكن ترسخ في ذهني بعد أن ألغاز الطبيعة جميعها لم تكن قد حلت.
جاء «عيد الغطاس» وأنا أواظب على حضور برنامج صيفي في مادة العلوم بإحدى المدارس الثانوية. لست أدري هل كان يبدو علي الضجر أم ماذا عندما أعطاني معلمي - بعد أحد الدروس المحددة بانتظام - كتابا بعنوان «طبيعة قوانين الفيزياء» لريتشارد فاينمان، وطلب مني قراءة الفصل الذي يتناول التمييز بين الماضي والمستقبل. كان هذا أول لقاء لي بمفهوم الإنتروبيا والاضطراب، ومثل كثير ممن سبقوني - ومنهم الفيزيائيان العظيمان لودفيج بولتزمان وبول إرنفست، اللذان انتحرا بعد تكريس قدر كبير من حياتيهما المهنية لتطوير هذا الموضوع - خلف ذلك بداخلي حيرة وإحباطا. فالكيفية التي يتغير بها العالم ريثما ينتقل المرء من دراسة مشكلات بسيطة تخص جسمين - كالأرض والقمر - إلى دراسة نظام يضم جسيمات عديدة - كجزيئات الغاز بالغرفة التي أكتب فيها هذه الكلمات - غامضة وشاملة في الآن ذاته، بل إنها من الغموض والشمولية بمكان عجزت معه عن تقديرها حق قدرها في ذلك الوقت.
لكن بعد ذلك، في اليوم التالي، سألني معلمي: هل سمعت من قبل عن شيء يسمى المادة المضادة؟ وتابع حديثه ليخبرني بأن الرجل نفسه الذي ألف الكتاب الذي أعطاني إياه كان قد فاز حديثا بجائزة نوبل في الفيزياء؛ لأنه أوضح كيف أن الجسيم المضاد يمكن اعتباره جسيما يسير في عكس اتجاه الزمن. في ذلك الوقت أبهرتني الفكرة حقا، على الرغم من أنني لم أفهم أي شيء من تفاصيلها، (وأدرك الآن إذ أتأمل الماضي أن معلمي لم يفهم تلك التفاصيل أيضا). لكن فكرة حدوث هذه الأنواع من الاكتشافات خلال فترة حياتي دفعتني إلى الاعتقاد في وجود اكتشافات أخرى كثيرة تنتظر من يتوصل إليها. (والواقع أنه على الرغم من أن استنتاجي كان صحيحا، فإن المعلومات التي ساقتني إليه لم تكن كذلك. فقد نشر فاينمان بحثه الفائز بجائزة نوبل حول الديناميكا الكهربائية الكمية قبل نحو عقد من مولدي، ولم تكن الفكرة الثانوية - القائلة إن الجسيمات المضادة يمكن اعتبارها جسيمات تسير عكس اتجاه الزمن - فكرته من الأساس. فمع الأسف، حينما تصل الأفكار إلى المعلمين والكتب المدرسية بالمدارس الثانوية، عادة ما يكون عمر الأفكار الفيزيائية نحو خمسة وعشرين إلى ثلاثين عاما، وأحيانا لا تكون تامة الصحة.)
وبينما مضيت قدما في دراسة الفيزياء، صار فاينمان في نظري - كما كان في نظر جيل كامل - بطلا وأسطورة. ابتعت مجموعة كتب «محاضرات فاينمان في الفيزياء» عندما التحقت بالجامعة، كما فعل أغلب الفيزيائيين الشبان الطموحين الآخرين، وذلك على الرغم من أنني لم أدرس قط مقررا دراسيا واحدا درست فيه تلك الكتب. لكنني أيضا - كأغلب زملائي - واظبت على الاستعانة بتلك المجموعة حتى بعد مضي وقت طويل من انتهائي من دراسة ما يسمى بالمقرر التمهيدي في الفيزياء الذي تقوم عليه كتبه. وكان أثناء قراءتي لتلك الكتب أن اكتشفت كيف كانت تجربتي الصيفية مشابهة على نحو غريب لتجربة فريدة خاضها فاينمان عندما كان في المدرسة الثانوية، وسأذكر المزيد عن تلك المسألة لاحقا. وأكتفي الآن بالقول إنني أتمنى فقط لو أن نتائج تجربتي كانت على القدر نفسه من الأهمية.
الأرجح أنني لم أفهم تبعات ما كان أستاذ العلوم يحاول إخباري به فهما كاملا حتى التحقت بكلية الدراسات العليا، غير أن افتتاني بعالم الجسيمات الأولية، وبعالم ذلك الرجل المدهش فاينمان، الذي كتب عن تلك الجسيمات، بدأ صباح ذلك اليوم من أيام الصيف في المدرسة الثانوية، وإلى حد بعيد لم يتوقف قط. ولقد تذكرت للتو - أثناء كتابة هذه الكلمات - أنني اخترت كتابة أطروحتي الأكاديمية عن مكملات المسارات، وهو الفرع الدراسي الذي كان فاينمان من رواده.
أسعدني الحظ - عن طريق حدث غير مصيري - بأن قابلت ريتشارد فاينمان، وقضيت معه بعض الوقت وأنا لا أزال طالبا بالجامعة. في ذلك الوقت، كنت عضوا في منظمة تدعى «الاتحاد الكندي لطلاب الفيزياء الجامعيين»، وكانت الغاية الوحيدة لتلك المنظمة هي تنظيم مؤتمر وطني يحاضر فيه علماء الفيزياء البارزون، ويعرض فيه الطلاب نتائج مشاريعهم البحثية الصيفية. وفي عام 1974 - كما أظن - أمكن إقناع فاينمان (أو إغراؤه؛ لست أدري بالضبط، ولا يحق لي أن أفترض) بواسطة رئيسة المنظمة شديدة الجاذبية بأن يكون هو المتحدث الرئيسي في مؤتمر ذلك العام المنعقد في فانكوفر. وفي المؤتمر، كان لدي ما يكفي من الجرأة لأطرح عليه سؤالا بعد انتهاء محاضرته، والتقط مصور لإحدى المجلات القومية صورة لتلك اللحظة واستغلها، ولكن الأكثر أهمية أنني كنت قد أحضرت معي خليلتي، وتتابعت الأحداث، وقضى فاينمان وقتا طويلا من العطلة الأسبوعية يتسكع مع كلينا في بعض الحانات المحلية بالمدينة.
وفي وقت لاحق، أثناء وجودي بكلية الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جاء فاينمان ليحاضر هناك مرات عديدة. وبعد سنوات أخرى ، وبعد أن نلت درجة الدكتوراه وانتقلت إلى هارفارد، كنت أعقد ندوة دراسية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك)، وكان فاينمان بين الجمهور، وكان هذا أمرا باعثا على القلق إلى حد ما. طرح علي سؤالا أو اثنين بكل تهذيب، ثم صعد إلى المنصة بعدها ليكمل المناقشة. أظن أنه لم يتذكر لقاءنا في فانكوفر، وسأظل نادما أبد الدهر على أنني ما عرفت قط هل يتذكرني أم لا؛ لأنه أثناء انتظاره في صبر ليتحدث معي، احتكر أستاذ مساعد شاب لحوح مثير للضيق إلى حد ما المناقشة معي إلى أن انصرف فاينمان في نهاية الأمر. لم أره بعد ذلك قط؛ إذ مات بعد بضع سنوات. •••
كان ريتشارد فاينمان أسطورة في نظر جيل كامل من الفيزيائيين قبل أن يعرفه أي فرد من العامة بوقت طويل. ربما وضعه الفوز بجائزة نوبل على الصفحات الأولى للصحف في جميع أنحاء العالم في يوم من الأيام، ولكن في اليوم التالي كانت عناوين جديدة تتصدر تلك الصفحات، وعادة لا تدوم أي معرفة لاسم مشهور فترة تزيد على فترة تداول الصحيفة نفسها. وهكذا فإن شهرة فاينمان بين عامة الناس لم تنبع من اكتشافاته العلمية، وإنما بدأت من خلال سلسلة من الكتب التي تحكي ذكرياته الشخصية. وقد كان فاينمان القاص مبدعا ومبهرا تماما بقدر ما كان فاينمان العالم الفيزيائي. فكان أي شخص تعامل معه شخصيا لا بد أن يتأثر على الفور بما يملكه من جاذبية طاغية؛ إذ اجتمعت له عينان ثاقبتان وابتسامة عابثة ولهجة أهل نيويورك المميزة لتنتج لنا صورة مناقضة تماما للصورة النمطية للعالم الباحث، كما أن افتتانه الشخصي بأشياء مثل طبول البونجو وحانات التعري لم يزد شخصيته إلا غموضا.
غير أن العامل الحقيقي الذي جعل من فاينمان شخصية شهيرة لدى العامة، كما يحدث في أغلب الأحيان، جاء بطريق الصدفة، وهي في هذه الحالة صدفة مأساوية: انفجار مكوك الفضاء «تشالنجر» بعد إقلاعه مباشرة، وعلى متنه أول «مدني»، وهو مدرس بإحدى المدارس الحكومية كان مقررا أن يلقي بعض الدروس من الفضاء. فخلال التحقيقات التي تلت الحادث، طلب من فاينمان الانضمام لهيئة التحقيق بوكالة الفضاء الأمريكية، ناسا، وعلى عكس المتوقع (إذ كان يبذل قصارى جهده لتجنب اللجان وكل ما شابهها من أشياء قد تعوقه عن عمله)، وافق فاينمان.
Bilinmeyen sayfa
عمل فاينمان في تلك المهمة منفردا، وهو أسلوب غير تقليدي ليس من سماته أيضا. وبدلا من دراسة التقارير والتركيز على المقترحات البيروقراطية من أجل المستقبل، تحدث فاينمان مباشرة مع المهندسين والعلماء في ناسا، وفي لحظة شهيرة خلال جلسات الاستماع المذاعة على شاشات التليفزيون، أجرى فاينمان تجربة؛ إذ وضع حلقة دائرية مطاطية صغيرة داخل كوب به ماء مثلج، واستطاع بهذه التجربة أن يبرهن على أن الحلقات الدائرية المطاطية المستخدمة في إحكام إغلاق فتحات الصاروخ يمكن أن تتلف في درجات الحرارة شديدة الانخفاض كتلك التي كانت في يوم الإطلاق المشئوم للمكوك.
ومنذ ذلك اليوم، ظهرت الكتب التي تؤرخ لذكرياته، والكتب التي تجمع خطاباته، والأشرطة الصوتية التي تحمل «محاضراته المفقودة»، وما إلى ذلك، وبعد موته استمرت أسطورة فاينمان في الازدياد. كذلك نشرت ترجمات شهيرة لفاينمان، وكان أبرزها ترجمة جيم جليك البارعة التي حملت عنوان «العبقري».
سيظل فاينمان الإنسان مدهشا على الدوام، لكن عندما طلب إلي تأليف كتاب قصير وسهل يعكس صورة فاينمان الإنسان من خلال إسهاماته العلمية، لم أستطع المقاومة. حفزتني هذه المهمة لأنني سأتمكن من مراجعة جميع أبحاث فاينمان الأصلية (قد لا يدرك أغلب الناس أنه من النادر أن يرجع العلماء إلى الأدبيات الأصلية في مجال بحثهم، خاصة إذا كان عمر الكتب أكثر من جيل. إن الأفكار العلمية تتعرض لعملية تركيز وتنقيح مستمرة، وأغلب الأبحاث العلمية الحديثة في المجال الفيزيائي ذاته لا تشبه الصياغات الأولى إلا بقدر ضئيل للغاية). ولكن الأكثر أهمية أنني أدركت أن فيزياء فاينمان تقدم لنا رؤية - مصغرة - للتطورات الأساسية التي حدثت في علم الفيزياء على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، وأن العديد من الألغاز التي تركها بلا حلول لا تزال باقية بلا حلول حتى يومنا هذا.
حاولت - فيما يلي من فصول الكتاب - إنصاف كل من المعنى الحرفي والمضمون الحقيقي لأعمال فاينمان إنصافا لعله كان سيرضى عنه ويوافق عليه. وربما لهذا السبب يركز هذا الكتاب في المقام الأول على تأثير فاينمان في فهمنا الحالي للطبيعة، كما يعكسه سياق تلك الترجمة العلمية الشخصية لحياته. وسأخصص مساحة قليلة للشدائد وللملفات الغامضة والمتعددة التي تصرف انتباه حتى أكثر العلماء نجاحا - دون استثناء فاينمان من ذلك - وهم يشقون طريقهم إلى الفهم العلمي. فمن الصعب على غير الخبراء أن يدركوا فهما معقولا لما عرفه الفيزيائيون عن العالم الطبيعي، وذلك حتى دون الحاجة للخوض في تلك البدايات الخاطئة. ومهما بدت بعض تلك البدايات بارعة أو جذابة، فالمهم في نهاية الأمر هو تلك الأفكار التي صمدت على مر الزمن من خلال اجتياز اختبار التجربة.
لذا فإن هدفي المتواضع هو التركيز على التراث العلمي لفاينمان؛ لأنه أثر في الاكتشافات الثورية لفيزيائيي القرن العشرين، ولأنه قد يكون له تأثير في أي حل لألغاز القرن الحادي والعشرين. والفكرة التي أريد حقا كشفها لغير الفيزيائيين - إن استطعت هذا - هي توضيح الأسباب التي جعلت فاينمان يصل إلى مكانة البطل الأسطوري في نظر معظم علماء الفيزياء الذين يحيون الآن على سطح الأرض. فإذا استطعت فعل هذا، فسأكون بذلك قد ساعدت القراء على فهم أحد الأشياء الرئيسية بشأن الفيزياء الحديثة ودور فاينمان في تغيير تصورنا للعالم. وتلك - من وجهة نظري - هي أفضل شهادة يمكنني الإدلاء بها للتدليل على عبقرية ريتشارد فاينمان.
الجزء الأول
مسارات نحو العظمة
العلم هو طريقة لتعليم كيفية معرفة شيء ما، وما هو غير المعروف بعد، وإلى أي مدى نعرف الأشياء (إذ ما من شيء نعرفه معرفة مطلقة)، وكيفية التعامل مع الشك وعدم اليقين، وما القواعد الثابتة بالأدلة، وكيفية التفكير في الأشياء بحيث يمكننا الحكم عليها، وكيف يمكننا تمييز الحقيقة عن الزيف، وعن المظهر الخادع.
ريتشارد فاينمان
الفصل الأول
Bilinmeyen sayfa
البداية
ربما كان الشيء بسيطا إذا استطعت أن تصفه وصفا كاملا بطرق عديدة مختلفة، دون أن تعرف في التو أنك تصف الشيء نفسه.
ريتشارد فاينمان
هل كان لأحد أن يخمن أن ريتشارد فاينمان الطفل سيصير على الأرجح أعظم علماء الفيزياء، وربما أقربهم للقلوب، طوال النصف الأخير من القرن العشرين؟ لم يكن هذا واضحا، على الرغم من وجود العديد من العلامات الأولية الدالة عليه؛ فقد كان ذكيا على نحو لا يقبل الجدل، وحظي بوالد يمنحه الرعاية والاهتمام ويسليه بالألغاز ويغرس فيه حب التعلم، مشجعا فضوله الفطري ومغذيا عقله متى أمكنه ذلك، وكانت لديه مجموعة أدوات الكيمياء، وأظهر افتتانا بأجهزة الراديو.
لكن هذه الأشياء كانت مألوفة إلى حد ما لدى الأطفال اللامعين في ذلك الوقت. ففي الجوانب الأساسية لحياته، بدا ريتشارد فاينمان طفلا يهوديا ذكيا عاديا من لونج أيلاند نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وربما كانت تلك الحقيقة البسيطة هي التي حددت موضعه المستقبلي في التاريخ، بنفس قدر أهمية أي شيء آخر. نعم، كان عقله غير عادي، لكنه ظل متصلا بالواقع بقوة، حتى وهو مندفع لاستكشاف الجوانب الخفية الأكثر غموضا من وجودنا. نبع ازدراؤه للتباهي من حياته المبكرة التي لم يتعرض فيها لأي قدر منه، ونبع ازدراؤه للسلطة ليس فقط من والد غذى لديه حس الاستقلال، ولكن أيضا من حياة مبكرة نال فيها قدرا كبيرا من الحرية في أن يكون طفلا، وفي أن يسعى وراء أهوائه، وفي أن يرتكب الأخطاء.
ربما كانت أول إشارة على ما كان قادما في حياة فاينمان هي قدرته التي لا تكل - بكل معنى الكلمة - على التركيز على المشكلة التي تواجهه لساعات طوال في كل مرة، حتى إن والديه بدآ يقلقان عليه. وعندما كان مراهقا، حقق فاينمان استفادة عملية من افتتانه بأجهزة الراديو: إذ افتتح مشروعا صغيرا لإصلاحها. ولكن على عكس أعمال التصليح التقليدية، كان فاينمان يبتهج بحل مشكلات أجهزة الراديو ليس فقط من خلال الإصلاح، وإنما من خلال التفكير أيضا!
كان فاينمان يجمع بين تلك القدرة المميزة على تركيز كل طاقته على المشكلة التي يواجهها وبين موهبته الفطرية في الاستعراض. فعلى سبيل المثال، حدث أثناء أشهر عمليات إصلاح أجهزة الراديو التي قام بها أنه ظل يقطع المكان جيئة وذهابا وهو يفكر وجهاز الراديو المعطوب يطلق صوتا عاليا مزعجا أمام صاحبه كلما حاول تشغيله. وفي النهاية نزع فاينمان الشاب صمامين من الجهاز وبدل موضعيهما، وحل المشكلة. وأشك في أنه ترك الموقف كله يستمر فترة أطول من اللازم بهدف إحداث الأثر الذي أراده.
وفي وقت لاحق من حياته تكررت القصة نفسها تقريبا. لكن القصة الآتية حدثت عندما طلب من فاينمان المتشكك أن يفحص صورة محيرة مأخوذة من غرفة للفقاعات؛ وهي جهاز تترك فيه الجسيمات الأولية مسارات مرئية. فبعد أن فكر لبرهة من الوقت، وضع قلمه الرصاص على بقعة محددة من الصورة، وقال إنه لا بد من وجود رتاج في ذلك الموضع، وهو موضع تعرض فيه أحد الجسيمات لتصادم غير متوقع، محدثا نتائج أسيء تفسيرها. وغني عن القول أنه عندما عاد العلماء التجريبيون أصحاب الاكتشاف المزعوم إلى جهازهم وألقوا نظرة عليه، وجدوا الرتاج هناك!
ومع أن الأسلوب الاستعراضي يسهم في المعرفة بشخصية فاينمان، فإنه لم يكن مهما في عمله. كذلك لم يكن مهما افتتانه - الذي ظهر لاحقا - بالنساء. وكان المهم بحق هو قدرته على التركيز، الممزوجة بطاقة تكاد تكون غير بشرية يمكنه توظيفها في حل المشكلات. غير أن السمة الأساسية الأخيرة التي زينت كل هذا - عند اجتماعها مع السمتين السابقتين - هي التي ضمنت له العظمة في نهاية المطاف؛ تلك السمة هي ببساطة موهبة فذة تكاد لا تبارى في الرياضيات.
بدأت عبقرية فاينمان في الرياضيات تعلن عن نفسها بوضوح حين كان طالبا بالمدرسة الثانوية. فعندما كان في السنة الثانية علم نفسه حساب المثلثات، والجبر المتقدم، والمتسلسلات اللانهائية، والهندسة التحليلية، وحساب التفاضل والتكامل! وأثناء هذا التعلم الذاتي، بدأ في التجسد الجانب الآخر مما جعل فاينمان متفردا؛ فقد كان يعيد صياغة جميع المعارف بطريقته الخاصة، مبتكرا في كثير من الأحيان لغة جديدة أو صيغة جديدة تعكس فهمه الخاص. وفي بعض الأحيان، كانت الحاجة هي أم الاختراع. فأثناء كتابة كتيب عن الرياضيات المعقدة في عام 1933، وهو بعد في سن الخامسة عشرة، ابتكر «رموز الآلة الكاتبة» لتعكس العمليات الرياضية المناسبة، وذلك لأن آلته الكاتبة لم تحتو على مفاتيح تمثلها، ووضع مجموعة رموز جديدة لجدول من المتممات كان قد ابتكره من قبل.
Bilinmeyen sayfa
التحق فاينمان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بهدف دراسة الرياضيات، ولكن كانت تلك فكرة غير صائبة؛ فعلى الرغم من أنه أحب الرياضيات، فقد ظل دائما يرغب في معرفة ما يمكنه «فعله» بواسطتها. وقد سأل رئيس قسم الرياضيات هذا السؤال وتلقى إجابتين مختلفتين: «حساب مبالغ التأمينات.» و«إذا كنت تحتاج لطرح هذا السؤال، فإنك لا تنتمي إلى عالم الرياضيات.» ولم تلق أي من الإجابتين قبولا لدى فاينمان، الذي قرر أن الرياضيات لا تناسبه، فتحول إلى دراسة الهندسة الكهربائية. وعلى نحو مثير بدا هذا التحول متطرفا أكثر من اللازم. فإذا كانت الرياضيات بلا هدف عملي، فالهندسة عملية أكثر مما ينبغي. ولكن مثل الحساء المناسب في حكاية «جولديلوكس»، كانت الفيزياء «مناسبة تماما»، وبحلول نهاية سنته الأولى بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تخصص فاينمان في الفيزياء.
كان اختياره بطبيعة الحال ملهما؛ فمواهبه الفطرية أتاحت له التفوق في الفيزياء. ولكن كانت لديه موهبة أخرى أكثر أهمية على الأرجح، ولست أدري إن كانت فطرية أم لا؛ تلك الموهبة هي الحدس.
إن الحدس الفيزيائي هو نوع من المهارات الوقتية المدهشة؛ إذ كيف يعرف المرء أي منهج سيكون أكثر فائدة في حل مشكلة فيزيائية ما؟ لا شك أن بعض جوانب الحدس السليم مكتسبة. فلهذا السبب نحتاج إلى المتخصصين في فروع الفيزياء المختلفة لحل العديد من المشكلات. فعن طريق التخصص يبدءون في معرفة الأساليب التي تفلح والتي لا تفلح، ويزيدون من حصيلة الأساليب التي يتقنونها مع مرور الوقت. ولكن من المؤكد أن أحد جوانب الحدس الفيزيائي لا يمكن اكتسابه بالتعلم، وهو جانب لا يظهر إلا في مكان وزمان معينين. كان أينشتاين يمتلك هذا الجانب من جوانب الحدس، وقد أفاده كثيرا طوال أكثر من عشرين عاما، بداية من بحثه الفريد عن النسبية الخاصة وحتى الإنجاز الذي توج به أعماله ، وهو النسبية العامة. غير أن حدسه بدأ يخذله عندما بدأ ينحرف ببطء بعيدا عن تيار الاهتمام الرئيسي بميكانيكا الكم في القرن العشرين.
وكان حدس فاينمان فريدا من زاوية مختلفة. ففي حين وضع أينشتاين نظريات جديدة كليا بشأن الطبيعة، فقد استكشف فاينمان الأفكار الموجودة بالفعل من منظور جديد تماما وأكثر فائدة في المعتاد. فقد كانت الطريقة الوحيدة التي يمكنه بها حقا فهم الأفكار الفيزيائية هي أن يستنتجها بطريقته الخاصة. ولكن لما كانت طريقته أيضا في المعتاد من نواتج تعلمه الذاتي، فقد كانت النتائج النهائية تختلف اختلافا جذريا أحيانا عما كانت المعرفة «التقليدية» تنتجه. وكما سنرى لاحقا، فإن فاينمان صنع معرفة خاصة به.
غير أن حدس فاينمان كان أيضا مكتسبا بالطريقة الصعبة، نتيجة لجهد دءوب. فأسلوبه المنهجي والشمولية التي كان يفحص بها المشكلات كانا واضحين بالفعل أثناء دراسته بالمدرسة الثانوية. وقد سجل تقدمه في دفاتر ملاحظات احتوت على حسابات لجيب الزاوية وجيب التمام أجراها بنفسه، وسجله فيما بعد في دفتر ملاحظات التفاضل والتكامل الشامل الذي حمل عنوان «حساب التفاضل والتكامل للشخص العملي»، والذي احتوى على جداول تكامل شاملة، مرة أخرى كان هو من وضعها بنفسه. وفي وقت لاحق من حياته، كان يبهر الناس باقتراح طريقة جديدة لحل مشكلة ما، أو بفهمه الفوري لجوهر مسألة معقدة. وفي كثير من الأحيان، كان هذا يرجع إلى أنه في وقت ما، ضمن آلاف صفحات الملاحظات التي دونها أثناء عمله على فهم الطبيعة، قد فكر في تلك المشكلة نفسها ودرس عدة طرق مختلفة وليس طريقة واحدة لحلها. وكان هذا الاستعداد لفحص المشكلة من كل زاوية ممكنة، ولتنظيم أفكاره بعناية حتى استنفاد جميع الاحتمالات الممكنة هو ما ميزه عمن سواه، وهو نتاج لذكائه المتوقد وقدرته التي لا تكل على التركيز.
ربما كلمة «استعداد» ليست هي الكلمة المناسبة هنا. وربما كانت كلمة «احتياج» خيارا أفضل. فقد كان لدى فاينمان احتياج إلى فهم كل مشكلة يواجهها فهما كاملا عن طريق البدء من البداية، وحل المشكلة بطريقته الخاصة، وكثيرا ما كان يحلها بطرق عديدة مختلفة . وفيما بعد، حاول إضفاء هذا الخلق على طلابه، الذين قال أحدهم لاحقا: «شدد فاينمان على الإبداع؛ الذي كان يعني من وجهة نظره استنباط الأمور من البداية. لقد كان يحث كل واحد منا على خلق كون من الأفكار الخاصة به، بحيث تتسم نتائجنا - وإن كانت مجرد حلول لمشكلات مطلوب منا حلها في قاعة المحاضرات - بطابع أصيل يميزها؛ تماما كما كانت أعماله تحمل الطابع الفريد لشخصيته.»
لم تكن قدرة فاينمان على التركيز لفترات طويلة هي وحدها البارزة عندما كان صغيرا، وإنما برزت أيضا قدرته على التحكم في أفكاره وتنظيمها. أذكر أنني أيضا كنت أمتلك مجموعة الكيمياء عندما كنت طفلا، وأذكر أيضا أنني كثيرا ما كنت أخلط المواد بعضها ببعض على نحو عشوائي وأنتظر لأرى ما سيحدث. لكن فاينمان - كما أكد لاحقا - لم يعبث بالمواد العلمية بعشوائية مطلقا، وإنما كان دائما ما يقوم ب «عبثه» العلمي على نحو خاضع للسيطرة، ودائما ما كان منتبها لما يحدث. ومرة أخرى، في وقت لاحق، بعد وفاته، أصبح واضحا من خلال الملاحظات المكثفة التي دونها أنه سجل بعناية كل استكشاف من استكشافاته. بل إنه في لحظة معينة فكر في تنظيم حياته المنزلية مع زوجته المستقبلية على أسس علمية، قبل أن يقنعه صديق بأن هذا أمر يفتقر للواقعية على نحو ميئوس منه. وفي نهاية الأمر، اختفت سذاجته في هذا الشأن، وبعد ذلك بوقت طويل نصح أحد طلابه قائلا: «لا يمكن تطوير الشخصية بالفيزياء وحدها. يجب دمج باقي جوانب الحياة في عملية تطوير الشخصية.» وعلى أي حال، كان فاينمان يحب اللعب والمزاح، ولكن عندما كان الأمر يتعلق بالعلوم، فمنذ نعومة أظفاره وطوال باقي حياته كلها، يصبح جادا إلى أبعد الحدود.
ربما انتظر حتى نهاية سنته الدراسية الأولى بالجامعة قبل أن يعلن تخصصه في الفيزياء، ولكن الرؤية كانت قد اتضحت وهو بعد طالب بالمدرسة الثانوية. وباستعادة الماضي، فإن اللحظة التي يمكن اعتبارها حاسمة جاءت عندما عرفه أستاذه بالمدرسة - السيد بادر - على أحد الأسرار الغامضة الأكثر خفية وروعة للعالم القابل للرصد ، وهي حقيقة قائمة على اكتشاف توصل إليه قبل ثلاثمائة عام من مولده المحامي البارع المتنسك الذي تحول إلى عالم رياضيات، بيير دي فيرما.
كما هي حال فاينمان، حقق فيرما الشهرة ونال التقدير لدى العامة في وقت متأخر من حياته عن شيء لا علاقة له بأعظم إنجازاته. ففي عام 1637، خط فيرما ملحوظة موجزة على هامش نسخته من كتاب «الحساب» - تحفة عالم الرياضيات اليوناني الشهير ديوفانتوس - مشيرا إلى أنه اكتشف برهانا بسيطا على حقيقة مهمة. فالمعادلة س
ن + ص
Bilinmeyen sayfa
ن = ع
ن
ليست لها حلول ذات أعداد صحيحة إذا كان ن أكبر من 2 (لأنه إذا كان ن يساوي 2، فتلك هي الحالة المعروفة باسم نظرية فيثاغورس حول أطوال أضلاع المثلث قائم الزاوية). ومن المشكوك فيه أن فيرما كان يمتلك حقا مثل هذا البرهان، الذي احتاج إثباته، بعد 350 عاما من عصره، إلى جميع تطورات القرن العشرين في الرياضيات وعدة مئات من الصفحات. ومع ذلك، فلو أن أحدا يذكر فيرما اليوم في أوساط عامة الناس، فليس السبب في هذا هو إسهاماته الكبيرة العديدة في الهندسة، والتفاضل والتكامل، ونظرية الأعداد، وإنما هو ما كتبه في هامش ذلك الكتاب الذي سيظل يعرف إلى الأبد باسم «نظرية فيرما الأخيرة».
إلا أنه بعد مرور خمسة وعشرين عاما على هذا الادعاء المشكوك في صحته، قدم فيرما برهانا مكتملا على شيء آخر مختلف تماما هو: مبدأ مميز، يكاد يكون من عالم الغيب، رسخ منهج التعامل مع الظواهر الفيزيائية واستخدمه فاينمان فيما بعد في تغيير طريقة تفكيرنا في الفيزياء في العالم المعاصر. كانت المسألة التي حول فيرما انتباهه إليها عام 1662 تتعلق بظاهرة وصفها العالم الهولندي ويلبرورد سنيل قبل أربعين عاما من ذلك التاريخ. اكتشف سنيل انتظاما رياضيا في الطريقة التي ينحني بها الضوء، أو ينكسر، عندما يعبر بين وسطين مختلفين، مثل الهواء والماء. إننا نسمي هذه الظاهرة اليوم باسم «قانون سنيل»، وغالبا ما تدرس تلك الحقيقة في مقررات الفيزياء بالمدارس الثانوية كحقيقة أخرى مملة من تلك الحقائق التي ينبغي حفظها، على الرغم من أنها لعبت دورا شديد الأهمية في تاريخ العلوم.
يتعلق قانون سنيل بالزوايا التي يصنعها شعاع الضوء عندما ينتقل عبر سطح يقع بين وسطين مختلفين. ولا يعنينا هنا الصيغة المحددة لهذا القانون، والمهم هو طابعه العام وأصله الفيزيائي. بعبارات بسيطة، ينص القانون على أنه عندما ينتقل الضوء من وسط أقل كثافة إلى وسط أعلى كثافة، ينحني مسار شعاع الضوء مقتربا من الخط العمودي على السطح الفاصل بين الوسطين (انظر الشكل).
والآن، لماذا ينحني الضوء؟ حسنا، إذا كان الضوء مكونا من تيار من الجسيمات، كما كان نيوتن وغيره يعتقدون، يمكن للمرء أن يفهم هذه العلاقة إذا كانت الجسيمات تزيد سرعتها عند انتقالها من وسط إلى آخر؛ فسوف تسحب الجسيمات حرفيا إلى الأمام، لتتحرك بفعالية أكبر في اتجاه عمودي على السطح الذي عبرته للتو. غير أن هذا التفسير بدا مريبا حتى في ذلك الوقت البعيد. فعلى أي حال، في وسط أعلى كثافة، من المفترض أن تواجه أي جسيمات كهذه مقاومة أكبر لحركتها، تماما كما تتحرك السيارات ببطء أكبر عندما تزيد كثافة حركة المرور.
إلا أنه كان هناك احتمال آخر، كما أوضح العالم الهولندي كريستيان هيجنز عام 1690. فإذا كان الضوء يتألف من موجات وليس جسيمات، فتماما كما تنحني الموجات الصوتية نحو الداخل عندما تبطئ سرعتها، سيحدث الشيء نفسه للضوء إذا قلت سرعته أيضا في الوسط الأعلى كثافة. وكما يعرف أي شخص لديه اطلاع على تاريخ الفيزياء، فإن سرعة الضوء تقل بالفعل في الأوساط الأعلى كثافة، وهكذا فإن قانون سنيل يمنحنا دليلا مهما على أن الضوء - في هذه الحالة - يسلك سلوكا يشبه سلوك الموجة.
قبل قرابة ثلاثين عاما من عمل هيجنز، استنتج فيرما أيضا أن الضوء لا بد أن ينتقل في الأوساط الكثيفة بسرعة أبطأ من سرعة انتقاله في الأوساط الأقل كثافة. غير أنه بدلا من أن يفكر من منظور كون الضوء موجات أو جسيمات، أوضح فيرما - عالم الرياضيات - أنه في هذه الحالة يمكن للمرء أن يفسر مسار الضوء في ضوء مبدأ رياضي عام ، ندعوه الآن «مبدأ الزمن الأقل لفيرما». وكما بين، فإن الضوء سيتبع المسار المنحني نفسه الذي حدده سنيل بالضبط إذا «انتقل بين نقطتين معينتين تقعان على مسار أقصر زمن».
يمكن فهم هذا تجريبيا كما يأتي: إذا كان الضوء ينتقل بسرعة أكبر في الوسط الأقل كثافة، فإنه لكي يصل من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» (انظر الشكل) في أقصر زمن ممكن، سيكون من المنطقي أن يقطع مسافة أطول في هذا الوسط، ويقطع مسافة أقصر في الوسط الآخر الذي ينتقل فيه ببطء أكبر. غير أنه لا يمكنه الانتقال في الوسط الأول لوقت أطول مما ينبغي، وإلا فإن المسافة الإضافية التي يقطعها ستفوق المكسب الذي يتحقق من خلال الانتقال بسرعة أكبر في الوسط الأقل كثافة. ومع ذلك فثمة مسار واحد هو المسار الأنسب، ويتبين لنا أن هذا المسار هو المسار المنحني الذي يتطابق بالضبط مع المسار الذي رصده سنيل.
يعد مبدأ الزمن الأقل لفيرما وسيلة بارعة رياضيا لتحديد المسار الذي يسلكه الضوء دون اللجوء إلى أي وصف ميكانيكي يعتمد على الموجات أو الجسيمات. والمشكلة الوحيدة هي أنه عندما يفكر المرء في الأساس الفيزيائي لهذه النتيجة، يبدو لنا أنها توحي بنوع من «التعمد»، بمعنى أن الضوء يدرس بطريقة ما جميع المسارات المحتملة قبل أن يبدأ رحلته - مثل مسافر على الطريق في ساعة الذروة الصباحية لأول أيام أسبوع العمل يستمع إلى التقرير المروري - ويختار في نهاية المطاف المسار الذي سيوصله إلى وجهته في أسرع وقت.
Bilinmeyen sayfa
ولكن الشيء العجيب حقا هو أننا لسنا بحاجة إلى أن نعزو أي نوع من التعمد إلى انتقال الضوء. فمبدأ فيرما هو مثال رائع على خاصية فيزيائية أكثر روعة، وهي خاصية أساسية للحقيقة المدهشة وغير المتوقعة مسبقا التي تقول إن الطبيعة يمكن فهمها من خلال الرياضيات. ولو أن هناك خاصية واحدة مثلت شعاع النور الذي اهتدى به ريتشارد فاينمان إلى منهجه في الفيزياء، وكانت جوهرية في جميع اكتشافاته تقريبا، فهي تلك الخاصية، التي كان يعتقد أنها في غاية الأهمية حتى إنه أشار إليها مرتين على الأقل في خطاب تسلمه جائزة نوبل. في المرة الأولى، إذ قال أولا:
دائما ما يبدو لي غريبا أن قوانين الفيزياء الأساسية، عند اكتشافها، يمكن أن تأخذ أشكالا عديدة مختلفة لا تبدو متطابقة على نحو واضح في البداية، ولكن مع القليل من العبث بالرياضيات يمكن إظهار العلاقة بينها ... كان هذا شيئا تعلمته بالتجربة. هناك دائما طريقة أخرى لتعبر عن نفس الشيء، وهي لا تشبه على الإطلاق الطريقة التي عبرت عنه من قبل ... أعتقد أن هذا يمثل بطريقة ما تجسيدا لبساطة الطبيعة. لست أدري ما يعنيه اختيار الطبيعة لتلك الأشكال الغريبة، ولكن ربما كانت تلك وسيلة لتعريف البساطة. ربما كان الشيء بسيطا إذا استطعت أن تصفه على نحو كامل بطرق عديدة مختلفة، دون أن تعرف في التو أنك تصف الشيء نفسه.
ولاحقا (وهو ما يحمل أهمية لما سيأتي مستقبلا) أضاف فاينمان قائلا:
قد تكون النظريات الموضوعة عما هو معروف لنا - التي يمكن وصفها بالاستعانة بأفكار فيزيائية مختلفة - متساوية في جميع تنبؤاتها، ومن ثم لا يمكن تمييز بعضها عن بعض. غير أنها ليست متطابقة من الناحية النفسية عند محاولة الانتقال من هذا الأساس نحو المجهول؛ لأن الصور المختلفة تقترح أنواعا مختلفة من التعديلات الممكنة، ومن ثم لا تكون متساوية في الفرضيات التي يتوصل إليها المرء من خلالها أثناء محاولته فهم ما لم يفهم بعد.
مبدأ الزمن الأقل لفيرما يجسد بوضوح مثالا صارخا على تلك الوفرة الغريبة لقوانين الفيزياء التي أبهرت فاينمان أيما إبهار، وكذلك على «الفوائد النفسية» المتباينة للتفاسير المختلفة. إن التفكير في انحناء الضوء من منظور القوى الكهربائية والمغناطيسية عند السطح البيني الفاصل بين وسطين يكشف شيئا ما عن خصائص الوسط. والتفكير في الأمر نفسه من منظور سرعة الضوء ذاتها يبوح بشيء عن الخاصية الجوهرية للضوء الشبيهة بالموجة. والتفكير فيه من منظور مبدأ فيرما قد لا يكشف شيئا عن قوى محددة أو عن الطبيعة الموجية للضوء، ولكنه يسلط الضوء على شيء عميق حول طبيعة الحركة . ومن حسن الطالع أن جميع هذه الأوصاف البديلة تؤدي إلى تنبؤات متطابقة.
هكذا يمكننا أن نطمئن؛ فالضوء «لا يعرف» أنه يتخذ أقصر مسار ممكن. إنه يفعل هذا فحسب. •••
مع ذلك، لم يكن مبدأ الزمن الأقل، وإنما فكرة أخرى أكثر دقة وروعة هي التي غيرت مجرى حياة فاينمان في ذلك اليوم الحاسم في المدرسة الثانوية. وكما قال فاينمان لاحقا: «عندما كنت في المدرسة الثانوية، استدعاني مدرس الفيزياء - وكان اسمه السيد بادر - ذات يوم بعد حصة الفيزياء وقال لي: «يبدو عليك الملل، وأريد أن أخبرك بشيء مثير للاهتمام.» ثم أخبرني بشيء وجدته مبهرا إلى أقصى حد، وقد ظل - منذ ذلك الحين - مبهرا لي ... إنه مبدأ الفعل الأقل.» قد يبدو مبدأ «الفعل الأقل» تعبيرا أكثر ملاءمة لوصف سلوك موظف خدمة عملاء في شركة هاتف من ملاءمته لعلم الفيزياء، وهو علم يقوم - على كل حال - على وصف الأفعال. غير أن مبدأ الفعل الأقل مشابه تماما لمبدأ الزمن الأقل الذي وضعه فيرما.
يخبرنا مبدأ الزمن الأقل أن الضوء دائما ما يسلك مسار أقصر زمن. ولكن ماذا عن كرات البيسبول، وقذائف المدافع، والكواكب، وما إلى ذلك؟ إنها لا تتصرف بمثل هذه البساطة بالضرورة. هل ثمة شيء بخلاف الزمن يقلل إلى أقصى حد ممكن حين تتبع هذه الأجسام المسارات التي تمليها القوى المؤثرة عليها؟
تأمل أي جسم يتحرك، مثل جسم ثقيل يسقط. هذا الجسم يقال إن له نوعين مختلفين من الطاقة؛ أحدهما هو «طاقة الحركة»، وهي طاقة ترتبط بحركة الأجسام (والكلمة في اللغة الإنجليزية
kinetic
Bilinmeyen sayfa
مشتقة من كلمة يونانية تعني الحركة)، وكلما تحرك الجسم بسرعة أكبر زادت طاقته حركته. والشق الآخر من طاقة الجسم من الأصعب كثيرا إثباته والتحقق منه، كما يتضح من اسمه وهو: «طاقة الوضع». وربما كان هذا النوع من الطاقة خفيا، ولكنه المسئول عن قدرة الجسم على إحداث أثر فيما بعد. فمثلا، إذا سقط جسم ثقيل من أعلى مبنى شاهق فسيحدث ضررا أكبر (ومن ثم سيكون له أثر أكبر) في تحطيم سقف سيارة تقف أسفل المبنى عن الضرر الذي يحدثه نفس الجسم إذا سقط من ارتفاع عدة بوصات فوق السيارة. ومن ثم، من الواضح أنه كلما كان الجسم أعلى زادت قدرته على إحداث أثر، ومن ثم زادت طاقة وضعه.
إذن فما يخبرنا به مبدأ الفعل الأقل هو أن «الفارق» بين طاقة حركة الجسم في أي لحظة من الزمن وبين طاقة وضعه في اللحظة ذاتها، عند حسابه عند كل نقطة على طول المسار ثم جمع نواتج جميع النقاط على طول المسار، سيكون أصغر في حالة المسار الفعلي الذي يأخذه الجسم عن أي مسار محتمل آخر. فالجسم، بطريقة ما، يضبط حركته بحيث تكون طاقة الحركة وطاقة الوضع له متكافئتين - في المتوسط - إلى أقصى حد ممكن.
إذا بدا هذا غامضا وغريبا، فالسبب هو أنه غامض وغريب بالفعل. فأنى لأحد أن يبتكر مثل هذا المزيج في المقام الأول، ناهيك عن تطبيقه على حركة الأجسام العادية؟
إننا ندين بالشكر عن هذا لعالم الرياضيات والفيزيائي الفرنسي جوزيف لويس لاجرانج، الذي اشتهر بأبحاثه في الميكانيكا السماوية. فمثلا، حدد لاجرانج النقاط الموجودة في المجموعة الشمسية التي عندها تؤدي قوة جذب الكواكب المختلفة إلى إلغاء قوة جذب الشمس. وتلك النقاط تسمى «نقاط لاجرانج». وترسل وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» الآن العديد من الأقمار الصناعية إلى هذه النقاط حتى تتمكن من البقاء في مدارات ثابتة ومن ثم تتمكن من دراسة الكون.
غير أن أعظم إسهامات لاجرانج في الفيزياء ربما تضمنت إعادة صياغته لقوانين الحركة. إن قوانين الحركة لنيوتن تعزو حركة الأجسام إلى صافي القوى المؤثرة عليها. إلا أن لاجرانج استطاع أن يبين أن قوانين الحركة يمكن إعادة استنباطها بالضبط إذا استخدم المرء «الفعل» - الذي هو حاصل جمع الفوارق بين طاقة الحركة وطاقة الوضع لجميع نقاط المسار - والذي يسمى الآن على نحو ملائم «اللاجرانجية»، ومن ثم حدد بالضبط أنواع الحركة التي من شأنها أن تنتج المسارات التي تقلل تلك الكمية إلى أدنى حد ممكن. وأنتجت عملية التقليل، التي تطلبت استخدام حساب التفاضل والتكامل (الذي ابتكره نيوتن أيضا )، أوصافا رياضية للحركة تختلف تماما عن قوانين نيوتن، ولكنها كانت - استحضارا لروح فاينمان - متطابقة رياضيا، على اختلافها الشديد «نفسيا». •••
كان هذا المبدأ الغريب للفعل الأقل - الذي كثيرا ما يسمى «مبدأ لاجرانج» - هو ما شرحه السيد بادر لفاينمان في سن المراهقة. وما كان لمعظم المراهقين أن يجدوا هذا الأمر ساحرا أو حتى مفهوما، لكن فاينمان وجده كذلك، أو كان هذا على الأقل هو ما دونه في مذكراته عندما صار أكبر سنا.
غير أنه لو كانت لدى فاينمان الشاب أي فكرة في ذلك الوقت عن أن هذا المبدأ سيصبغ حياته بالكامل فيما بعد، فمن المؤكد أن تصرفاته لم تكن توحي بهذا عندما بدأ يتعلم المزيد عن الفيزياء لدى التحاقه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. بل كان العكس تماما هو الصحيح. ففي وقت لاحق، قال عنه تيد ويلتون، الذي كان أفضل أصدقاء فاينمان أثناء الدراسة الجامعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بل أثناء الدراسات العليا أيضا: «كان يرفض رفضا يثير الجنون الاعتراف بأن لاجرانج كان لديه شيء مفيد يضيفه إلى علم الفيزياء. كان باقي الطلاب جميعا منبهرين - كما كان ينبغي لنا - بإحكام وأناقة وفائدة صياغة لاجرانج، ولكن ريتشارد أصر بعناد أن علم الفيزياء الحقيقي يكمن في تحديد جميع القوى المؤثرة وتحليلها على نحو صحيح إلى مكونات أولية.»
إن الطبيعة - مثلها في ذلك مثل الحياة - تأخذ جميع أنواع التقلبات والمنعطفات الغريبة، والأهم من كل شيء آخر أنها لا تبالي بما يحبه المرء وما يبغضه. وبقدر ما حاول فاينمان في بداياته المبكرة أن يركز على فهم الحركة بطريقة تنسجم مع حدسه البريء البسيط، فقد أخذت مسيرته نحو العظمة مسارا مختلفا تماما. لم تكن هناك يد خفية توجهه. وبدلا من ذلك، أرغم هو حدسه على الانصياع لمتطلبات مشكلات عصره، وليس العكس. وكان التحدي من الصعوبة بحيث احتاج إلى ساعات وأيام وشهور لا حصر لها من العمل المضني على تدريب عقله على الالتفاف حول المشكلات التي لم تتمكن أعظم العقول في فيزياء القرن العشرين من حلها، حتى ذلك الوقت.
وكان فاينمان يجد نفسه يعود مرة أخرى إلى المبدأ نفسه الذي جعله يتحول إلى الفيزياء منذ البداية متى احتاج إليه.
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
عالم الكم
لقد كنت دوما معنيا بالفيزياء. فلو أن فكرة ما بدت لي تافهة، أقول إنها تبدو تافهة، ولو بدت لي جيدة، أقول إنها تبدو جيدة.
ريتشارد فاينمان
كان فاينمان محظوظا أن التقى تيد ويلتون في عامه الدراسي الثاني بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حين كان الاثنان - والوحيدان من طلاب العام الثاني - يحضران مقررا دراسيا متقدما لطلاب الدراسات العليا في الفيزياء النظرية. وباعتبارهما روحين متشابهتين، كان كل منهما يراجع الكتب الدراسية المتقدمة في الرياضيات في المكتبة، وبعد فترة وجيزة من محاولة أحدهما التفوق على الآخر، قررا التعاون معا «في النضال ضد فريق يبدو عدوانيا من الطلاب الآخرين الأكبر سنا وطلاب الدراسات العليا» في الصف الدراسي.
دفع كل منهما الآخر إلى آفاق جديدة، حيث راحا يتبادلان فيما بينهما دفتر ملاحظات كانا يدونان فيه معا بعض الحلول والأسئلة حول موضوعات تباينت من النسبية العامة إلى ميكانيكا الكم، وهي موضوعات تعلمها كل واحد منهما تعليما ذاتيا. ولم يؤد هذا فقط إلى تشجيع سعي فاينمان الحثيث الذي يبدو أنه لا يهدأ إلى اشتقاق كل شيء في علم الفيزياء بنفسه وبطريقته الخاصة، وإنما أدى أيضا إلى تعلم بعض الدروس العملية التي ظلت معه حتى نهاية حياته. وأحد هذه الدروس تحديدا يستحق التوقف عنده وتأمله. فقد حاول فاينمان وويلتون تحديد مستويات طاقة الإلكترونات في ذرة الهيدروجين عن طريق تعميم المعادلة القياسية لميكانيكا الكم - المسماة «معادلة شرودينجر» - لتضم نتائج النسبية الخاصة لأينشتاين. وأثناء قيامهما بهذا أعادا اكتشاف ما كان في واقع الأمر معادلة شهيرة هي «معادلة كلاين-جوردون». ومع الأسف، بعد أن حث ويلتون فاينمان على تطبيق تلك المعادلة بغرض فهم ذرة الهيدروجين، انتهت المحاولة إلى نتائج مخالفة تماما للنتائج التجريبية. وليس هذا مستغربا؛ لأنه كان من المعروف أن معادلة كلاين-جوردون ليست هي المعادلة المناسبة التي ينبغي استخدامها لوصف الإلكترونات النسبية، وهو ما أوضحه عالم الفيزياء النظرية البارع بول ديراك قبل عقد واحد فقط من الزمان، من خلال العمل الذي قاده للفوز بجائزة نوبل عن اشتقاق المعادلة الصحيحة.
وصف فاينمان تجربته بأنها درس «فظيع» ولكنه في غاية الأهمية ولم ينسه أبدا من وقتها. لقد تعلم ألا يعتمد على جمال نظرية رياضية أو على «شكلها المبهر»، وأن يقر بأن الاختبار الحقيقي للنظرية الجيدة هو هل يستطيع المرء «تطبيقها على الواقع» أم لا؛ والمقصود بالواقع هنا هو البيانات التجريبية.
ولم يكن فاينمان وويلتون يتعلمان كل شيء عن الفيزياء تعليما ذاتيا؛ فقد كانا يحضران المحاضرات أيضا. وخلال الفصل الدراسي الثاني من العام الثاني، أبهرا أستاذهما في مادة الفيزياء النظرية، فيليب مورس، إلى حد جعله يدعوهما - مع طالب ثالث - إلى دراسة ميكانيكا الكم معه في مجموعة دروس خصوصية يحضرونها يوما واحدا كل أسبوع في فترة ما بعد الظهر، وذلك خلال العام الدراسي الثالث بالمعهد. ثم دعاهما في وقت لاحق إلى بدء برنامج «بحث حقيقي» حسبا فيه خصائص الذرات الأكثر تعقيدا من الهيدروجين، وأثناء ذلك تعلما أيضا كيف يستخدمان الجيل الأول مما يسمى الآلات الحاسبة، وهي مهارة أخرى أفادت فاينمان كثيرا فيما بعد.
وبحلول السنة الدراسية الأخيرة له كطالب جامعي، كان فاينمان قد أتقن أغلب المناهج الجامعية ومناهج الدراسات العليا في الفيزياء، وصار متحمسا بالفعل لاحتمال امتهانه البحث العلمي واتخذ قرار المضي قدما وإكمال دراساته العليا. وفي الحقيقة، كان تطوره في الدراسة الجامعية مبهرا للغاية حتى إنه أثناء العام الدراسي قبل الأخير، أوصى قسم الفيزياء بمنحه درجة البكالوريوس بعد ثلاث سنوات بدلا من أربع. ورفضت الجامعة تلك التوصية، لذا، بدلا من ذلك، أكمل بحثه خلال السنة النهائية، وكتب بحثا عن ميكانيكا الكم للجزيئات نشر في دورية «فيزيكال ريفيو» ذات المكانة المرموقة، باعتباره بحثا عن الأشعة الكونية. أمضى أيضا بعض الوقت في تعزيز اهتمامه الأساسي بتطبيقات الفيزياء، وسجل اسمه لحضور مقررين دراسيين في علم المعادن والمختبرات - وهما مقرران أفاداه كثيرا فيما بعد أثناء عمله في لوس ألاموس - بل إنه ابتكر آلية مبدعة لقياس سرعات الأعمدة الدوارة المختلفة .
لم يكن الجميع مقتنعين أن فاينمان مستعد لاتخاذ الخطوة الكبيرة التالية في مسيرته التعليمية؛ إذ لم يكن أي من والديه قد أكمل تعليما جامعيا، ولم يكن ثمة أساس منطقي واضح لأن يكمل ابنهما ثلاث أو أربع سنوات دراسية أخرى بعد الحصول على شهادته الجامعية. زار والد ريتشارد، ميلفيل فاينمان، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في خريف عام 1938 للتحدث مع البروفسور مورس وسؤاله هل استكمال ابنه للدراسة أمر ذو قيمة، وهل ابنه جدير بذلك. وأجاب مورس بأن فاينمان الابن كان ألمع طالب جامعي درس له الفيزياء يوما، وأن استكمال دراساته العليا ليس فقط أمرا مهما وذا قيمة، وإنما هو ضروري أيضا إذا أراد فاينمان مواصلة حياته المهنية في مجال العلوم. وهكذا قضي الأمر.
كان فاينمان يفضل أن يستمر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. غير أن أساتذة الفيزياء الحكماء كانوا يحثون طلابهم عموما، حتى أفضل هؤلاء الطلاب، على متابعة دراساتهم العليا في معاهد أخرى جديدة. فمن المهم للطلاب أن يتعرضوا في بداية حياتهم المهنية لنطاق واسع من الأساليب المختلفة في ممارسة العلم، ونقاط التركيز المختلفة؛ لأن قضاء حياتهم الأكاديمية كلها في معهد واحد من الممكن أن يكون مقيدا للعديد من الناس. لذا أصر المشرف الأول على أطروحة ريتشارد فاينمان في الدراسات العليا، جون سلاتر، على أن يلتحق فاينمان بالدراسات العليا في مكان آخر، وقال له: «ينبغي أن تتعرف على باقي العالم.»
Bilinmeyen sayfa
عرضت على فاينمان منحة دراسية للالتحاق بكلية الدراسات العليا في هارفارد دون حتى أن يتقدم لها؛ لأنه كان قد فاز ب «مسابقة ويليام لويل بوتنام في الرياضيات» عام 1939. وكانت تلك أكثر مسابقات الرياضيات الوطنية المفتوحة أمام الطلاب الجامعيين أهمية وصعوبة، وكان ذلك العام هو عامها الثاني. وأذكر عندما كنت في المرحلة الجامعية أن أفضل الطلاب في الرياضيات كانوا ينضمون لفريق جامعتهم ويتدربون على حل المشكلات عدة أشهر قبل امتحان المسابقة. ولا أحد يحل جميع المشكلات في الامتحان، وفي سنوات عديدة يخفق عدد كبير من المشتركين في المسابقة في حل ولو مشكلة واحدة. وكان قسم الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد طلب من فاينمان الانضمام إلى فريق المعهد للمشاركة في المسابقة وهو في السنة النهائية، وكان الفارق بين درجات فاينمان ودرجات جميع المشاركين الآخرين في المسابقة من جميع أنحاء البلاد مذهلا للقائمين على الامتحان، ولذلك عرضت عليه جائزة منحة هارفارد الدراسية. وكان فاينمان فيما بعد يتظاهر أحيانا بالجهل بالرياضيات عند الحديث عن الفيزياء، ولكن درجاته في مسابقة بوتنام كانت تدل على أنه - كعالم رياضيات - قادر على منافسة أفضل علماء الرياضيات في العالم.
لكن فاينمان رفض عرض هارفارد؛ فقد قرر أنه يريد الالتحاق بجامعة برينستون، وأعتقد أن قراره كان راجعا للسبب نفسه الذي جعل العديد من الفيزيائيين الشبان يرغبون في الالتحاق بها وهو: أن أينشتاين كان هناك! وكانت برينستون قد قبلته وعرضت عليه وظيفة مساعد باحث مع يوجين ويجنر، الذي فاز بجائزة نوبل في المستقبل. ومن حسن حظه أن تم تعيينه بعد ذلك مع أستاذ مساعد شاب هو جون أرشيبالد ويلر، وهو رجل كان خياله مكافئا لبراعة فاينمان في الرياضيات.
وفي ذكرى فاينمان بعد وفاته، تذكر ويلر مناقشة دارت بين أعضاء لجنة القبول بالدراسات العليا في ربيع عام 1939، وخلالها تحدث أحد أعضاء اللجنة بحماس عن حقيقة أنه ما من شخص آخر من المتقدمين للجامعة حقق درجات قبول في الفيزياء والرياضيات تقترب من الدرجات المرتفعة للغاية التي حققها فاينمان (وكان قد حقق 100٪ في الفيزياء)، وفي الوقت نفسه تذمر عضو آخر من أعضاء اللجنة قائلا إنهم لم يقبلوا مطلقا من قبل طالبا حقق تلك الدرجات المتدنية للغاية في مادتي التاريخ واللغة الإنجليزية. ومن حسن حظ مستقبل العلم أن الفيزياء والرياضيات كانت لهما الغلبة.
ومن المثير للاهتمام أن ويلر لم يتحدث عن مسألة أساسية أخرى، ولعله لم يكن على دراية بها: وهي قضية ديانة فاينمان اليهودية. كان رئيس قسم الفيزياء في برينستون قد كتب إلى فيليب مورس بشأن فاينمان، حيث سأله عن انتمائه الديني، وأضاف: «ليست لدينا قاعدة محددة ضد اليهود، ولكن علينا أن نحافظ على نسبتهم في القسم صغيرة إلى حد معقول بسبب صعوبة تسكينهم.» وفي النهاية، تقرر أن فاينمان لم يكن يهوديا ملتزما «في سلوكه» إلى درجة تجعل هذا عقبة في الطريق. ولم تكن حقيقة أن فاينمان غير مهتم في الأساس بأمور الدين - شأنه في ذلك شأن العديد من العلماء - جزءا من المناقشة. •••
غير أن الحقيقة الأكثر أهمية من كل هذه التطورات الخارجية هي حقيقة أن فاينمان كان قد وصل الآن إلى مرحلة من مراحل تعليمه يمكنه فيها البدء في التفكير في الأمور المثيرة بحق؛ نعني بها تحديدا الفيزياء غير المنطقية وغير المفهومة. فالتطورات المتقدمة في العلم دائما ما تكون متناقضة ومتضاربة إلى حد ما، ومثل الكلاب البوليسية، يركز علماء الفيزياء العظماء على عناصر الغموض والتناقض تلك تحديدا لأنه فيها تكمن الجائزة الحقيقية.
كانت المشكلة التي قال فاينمان لاحقا إنه «وقع في غرامها» عندما كان طالبا بالجامعة تمثل جزءا مألوفا من أهم قضايا الفيزياء النظرية طوال ما يقرب من قرن، وهي: النظرية الكلاسيكية للكهرومغناطيسية. ومثل العديد من المشكلات العميقة، يمكن عرض المشكلة ببساطة. فالقوة العاملة بين شحنتين متشابهتين هي قوة تنافر؛ ولذا يتطلب الأمر شغلا لتقريب إحداهما من الأخرى. وكلما زاد قربهما احتاج الأمر إلى المزيد من الشغل. والآن تخيل إلكترونا منفردا؛ فكر فيه على أنه «كرة» ذات شحنة لها نصف قطر معين. وبهذا فإن جمع الشحنة كلها معا عند نصف القطر لتكوين الإلكترون يتطلب شغلا. والطاقة التي يصنعها الشغل أثناء جمع الشحنة معا تسمى عادة «الطاقة الذاتية» للإلكترون.
والمشكلة هي أننا لو قلصنا حجم الإلكترون وصولا إلى نقطة واحدة، فإن الطاقة الذاتية للإلكترون ستصل إلى ما لا نهاية؛ لأن الأمر يتطلب قدرا لانهائيا من الطاقة لجمع الشحنة كلها معا في نقطة واحدة. وكانت تلك المشكلة معروفة منذ فترة، ووضعت العديد من المخططات لحلها، ولكن كان أبسط هذه المخططات هو أن نفترض أن الإلكترون ليس محصورا حقا في نقطة واحدة، وإنما له حجم محدد.
غير أنه في وقت مبكر من القرن العشرين، اتخذت هذه المسألة منظورا مختلفا . فمع تطور ميكانيكا الكم، تغيرت صورة الإلكترونات، والمجالات الكهربائية والمغناطيسية تماما. فعلى سبيل المثال، تقول قاعدة ازدواجية الموجات والجسيمات، وهي جزء من نظرية الكم: إن كلا من الضوء والمادة - وهي الإلكترونات في هذه الحالة - تسلك في بعض الأحيان سلوك الجسيمات وتسلك في أحيان أخرى سلوك الموجات. ولكن مع تطور فهمنا لعالم الكم، في الوقت الذي زادت فيه غرابة هذا العالم أكثر وأكثر، اختفت بعض الألغاز الأساسية في الفيزياء الكلاسيكية، ولكن بقيت ألغاز أخرى بلا حلول، ومن بينها لغز الطاقة الذاتية للإلكترون. ولكي نضع هذا الأمر في سياقه السليم، نحن بحاجة لاستكشاف عالم الكم.
تتسم ميكانيكا الكم بسمتين أساسيتين، وكلتاهما تتحدى على نحو سافر حدسنا التقليدي بشأن العالم؛ السمة الأولى: هي أن الأجسام التي تسلك سلوكا ميكانيكيا كميا هي الأجسام الأساسية متعددة المهام؛ فهي قادرة على اتخاذ العديد من الأشكال المختلفة في نفس الوقت. ويتضمن هذا وجودها في أماكن مختلفة وأداء مهام مختلفة في وقت واحد. فعلى سبيل المثال، في حين يتصرف الإلكترون وكأنه يدور مغزليا نحو الأعلى، فإنه قادر أيضا على أن يتصرف وكأنه يدور في العديد من الاتجاهات المختلفة في الوقت نفسه.
إذا كان الإلكترون يتصرف وكأنه يدور مغزليا في عكس اتجاه عقارب الساعة حول محور يتجه من الأرض نحو الأعلى، نقول إن له «دورانا علويا». وإذا كان يدور في اتجاه عقارب الساعة، نقول إن له «دورانا سفليا». وفي أي لحظة معينة، يكون احتمال دوران الإلكترون لأعلى هو 50 بالمائة، واحتمال دورانه لأسفل هو 50 بالمائة. وإذا تصرفت الإلكترونات على النحو الذي يقترحه حدسنا التقليدي، فسيكون معنى هذا أن كل إلكترون نقيسه يدور لأعلى أو يدور لأسفل، وأننا سنجد 50 بالمائة من الإلكترونات في وضع واحد معين، وسنجد ال 50 بالمائة الأخرى في الوضع الآخر.
Bilinmeyen sayfa
هذا صحيح من زاوية ما. فلو أننا قسنا الإلكترونات بهذه الطريقة، فسنجد أن 50 بالمائة منها تدور لأعلى و50 بالمائة تدور لأسفل. و«لكن» - وتلك «لكن» مهمة للغاية - من الخطأ أن نفترض أن كل إلكترون يدور في أحد الاتجاهين أو الآخر قبل أن نقيس. ففي لغة ميكانيكا الكم، كل إلكترون في «حالة تراكب مكونة من حالتي دوران لأعلى ودوران لأسفل» قبل القياس. إنه باختصار يدور في كلا الاتجاهين!
كيف نعرف إذن أن افتراض أن الإلكترونات تأخذ وضعا معينا أو الآخر هو افتراض «خاطئ»؟ يتبين لنا أننا نستطيع إجراء تجارب تعتمد نتائجها على ما يفعله الإلكترون عندما لا نقيسه، وسوف تكون النتائج مختلفة إذا كان الإلكترون يتصرف على نحو متوقع؛ أي بأحد الوضعين المحددين أو الآخر بين القياسات.
أشهر مثال على هذا يتضمن إطلاق الإلكترونات على جدار به شقان، ووراء الجدار توجد شاشة وامضة، تشبه كثيرا شاشات تليفزيونات الصمامات المفرغة القديمة، وتضيء متى اصطدم بها إلكترون. وإذا لم نقس الإلكترونات بين اللحظة التي تترك فيها المصدر واللحظة التي ترتطم فيها بالشاشة - بحيث لا يمكننا أن نعرف أي شق مر عبره كل إلكترون - فسوف نرى نمطا من البقع الداكنة والمتألقة يظهر على الشاشة الخلفية، وهو نفس «نمط التداخل» بالضبط الذي نراه لموجات الضوء أو الصوت التي تعبر جهازا ذا شقين، أو ربما على نحو مألوف أكثر، نمط لحظات التموج والهدوء المتناوبة التي تنشأ غالبا عندما يلتقي جدولان متدفقان بالماء معا. والمدهش أن هذا النمط يظهر حتى إذا أطلقنا إلكترونا واحدا فقط نحو الشقين في الجدار في أي لحظة. وهكذا فإن النمط يوحي بأن الإلكترون «يتداخل» مع نفسه بطريقة ما بعد أن يمر عبر كلا الشقين في الوقت نفسه!
للوهلة الأولى تبدو تلك الفكرة محض هراء؛ لذا فإننا نغير التجربة قليلا. نضع كاشف إلكترونات غير مدمر بجوار كل شق ثم نطلق الإلكترونات. وهنا نجد أن كاشفا واحدا فقط من الاثنين هو الذي سيشير إلى مرور أحد الإلكترونات من الشق في أي لحظة معينة، مما يتيح لنا أن نعرف أن كل إلكترون يمر عبر شق واحد فقط من الشقين في واقع الأمر، وعلاوة على ذلك يمكننا أن نحدد الشق الذي مر منه كل إلكترون.
كل شيء يسير على ما يرام حتى الآن، ولكن هنا يأتي عنصر الإزعاج الكمي. فلو أننا فحصنا النمط الذي يظهر على الشاشة بعد هذا التدخل الذي يبدو بريئا، فسنجد أن النمط الجديد يختلف تماما عن النمط القديم. فحينها سيبدو النمط شبيها بالنمط الذي كنا سنحصل عليه لو أننا كنا نطلق الرصاص على تلك الشاشة عبر حاجز الشقين؛ بمعنى أنه ستكون هناك بقعة مضيئة وراء كل شق، وستكون بقية الشاشة مظلمة.
لذا، سواء شئنا أم أبينا، فإن الإلكترونات وغيرها من الأجسام الكمية يمكنها أداء أعمال سحرية تقليدية بقيامها بأشياء عديدة مختلفة في الوقت ذاته، على الأقل طالما كنا لا نراقبها أثناء ذلك.
والخاصية الأساسية الثانية لميكانيكا الكم تنطوي على ما يسمى ب «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج». ويقضي هذا المبدأ بأن هناك تركيبات معينة من الكميات الفيزيائية - مثل موضع الجسيم وزخمه (أو سرعته) - لا يمكننا قياسها في اللحظة عينها بدقة مطلقة. فمهما كانت كفاءة المجهر أو جهاز القياس الذي نستخدمه، فإن ضرب عامل عدم اليقين بشأن الموضع في عامل عدم اليقين بشأن الزخم لا تكون نتيجته صفرا أبدا، ودائما ما يكون الناتج أكبر من رقم معين، وهذا الرقم يسمى «ثابت بلانك». وهذا الرقم أيضا هو الذي يحدد نطاق التباعد بين مستويات الطاقة في الذرات. وبعبارة أخرى، إذا قسنا الموضع بدقة كبيرة بحيث يكون عدم اليقين بشأن الموضع صغيرا جدا، فإن هذا يعني أن معرفتنا بزخم أو سرعة الجسيم لا بد أن تكون غير دقيقة إلى حد بعيد، وبهذا يكون ناتج عدم اليقين بشأن الموضع وعدم اليقين بشأن الزخم أكبر من ثابت بلانك.
هناك تركيبات أخرى من «أزواج هايزنبرج» تلك، مثل زوج الطاقة والزمن. فلو أننا قسنا الحالة الميكانيكية الكمية لجسيم أو ذرة ما لوقت قصير للغاية، فسوف يكون هناك عامل عدم يقين كبير في الطاقة المقاسة للجسيم أو الذرة. ولكي نقيس الطاقة بدقة، سيكون علينا أن نقيس الجسم على مدار فترة زمنية طويلة، وفي هذه الحالة لا يمكننا أن نعرف بالضبط متى تم قياس الطاقة بالضبط.
ولو أن كل هذا ليس سيئا بما يكفي، فإن عالم الكم يصبح أكثر غرابة عندما نضيف إلى هذا المزيج نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن النسبية تضع الكتلة والطاقة على قدم المساواة. فلو أن لدينا طاقة كافية متوفرة، يمكننا خلق شيء له كتلة!
إذن، إذا وضعنا كل هذه الأشياء معا - التعدد الكمومي، ومبدأ عدم اليقين لهايزنبرج، والنسبية - فما الذي سنحصل عليه؟ سنحصل على صورة للإلكترونات أكثر إثارة للحيرة إلى ما لا نهاية من الصورة التي تعرضها لنا النظرية الكلاسيكية، التي أدت هي نفسها إلى طاقة ذاتية لانهائية للإلكترون.
Bilinmeyen sayfa
على سبيل المثال، كلما حاولنا تصور إلكترون، فإنه ليس بالضرورة أن يكون إلكترونا واحدا! ولكي نفهم هذا، فلنعد إلى الكهرومغناطيسية الكلاسيكية. إن إحدى السمات الأساسية لجوهر هذه النظرية هي حقيقة أننا إذا هززنا إلكترونا، فإنه سيبعث إشعاعا كهرومغناطيسيا، مثل الضوء أو موجات الراديو. نشأ هذا الاكتشاف العظيم عن التجارب الرائدة التي أجراها في القرن التاسع عشر مايكل فاراداي، وهانز كريستيان أورستد، وغيرهما، والبحث النظري الرائد لجيمس كلارك ماكسويل. من زاوية ميكانيكيا الكم، لا بد أن تكون هذه الظاهرة المرصودة قابلة للتنبؤ بها؛ لأنه إذا كان ينبغي لميكانيكا الكم أن تصف العالم على نحو صحيح، فلا بد أن تتفق تنبؤاتها مع المشاهدات. ولكن الخاصية الأساسية الجديدة هنا هي أن ميكانيكا الكم تخبرنا بأن نفكر في الإشعاع على أنه مكون من «كموم» فردية، أو حزم من الطاقة، تسمى الفوتونات.
والآن لنعد إلى الإلكترون. يخبرنا مبدأ هايزنبرج أننا إذا قسنا الإلكترون لبعض الوقت المحدد، يظل هناك قدر من عدم اليقين محدد القيمة في معرفتنا بطاقته. ولكن إذا كان هناك قدر من عدم اليقين، فكيف لنا أن نعرف أننا نقيس الإلكترون وحده؟ فمثلا، إذا كان الإلكترون يبعث فوتونا يحمل طاقة ضئيلة للغاية، فإن الطاقة الكلية للمنظومة سوف تتغير، وإن كان التغيير ضئيلا جدا. ولكن إذا كنا لا نعرف بالضبط مقدار طاقة المنظومة، فإننا لا نستطيع إذن أن نحدد هل بعثت فوتونا منخفض الطاقة أم لا. لذا فإن ما نقيسه حقا ربما كان هو طاقة الإلكترون بالإضافة إلى الفوتون الذي أطلقه.
لكن لماذا نتوقف عند هذا الحد؟ ربما بعث الإلكترون عددا لانهائيا من الفوتونات منخفضة الطاقة؟ فإذا راقبنا الإلكترون فترة كافية، يمكننا قياس طاقته بدقة كبيرة، ويمكننا وضع عداد فوتونات بالقرب منه لنرى إن كانت هناك فوتونات حوله. وفي هذه الحالة، ترى ماذا حدث لجميع الفوتونات التي كانت تتحرك مع الإلكترون خلال تلك الفترة؟ الأمر بسيط: يمكن للإلكترون أن يمتص كل تلك الفوتونات قبل أن تتاح لنا فرصة قياسها!
يطلق على نوع الفوتونات التي يمكن للإلكترون أن يطلقها ويعيد امتصاصها خلال فترة زمنية قصيرة للغاية لا تتيح لنا قياسها اسم «الجسيمات الافتراضية»، وكما سأوضح لاحقا، فقد أدرك فاينمان أننا عندما ندرج آثار كل من النسبية وميكانيكا الكم، لا يكون هناك مفر من الإقرار بوجود هذه الجسيمات. لذا عندما نفكر في إلكترون يتحرك، يصير لزاما علينا أن نفكر فيه على أنه جسم شديد التعقيد تحيط به سحابة من الجسيمات الافتراضية.
تلعب الجسيمات الافتراضية دورا مهما آخر في نظرية الكم للكهرومغناطيسية؛ فهي تغير الطريقة التي نفكر بها في المجالات الكهربائية والمغناطيسية والقوى بين الجسيمات. فمثلا، افترض أن الإلكترون يبعث فوتونا. يمكن لهذا الفوتون حينئذ أن يتفاعل بدوره مع جسيم آخر، وقد يمتصه هذا الجسيم. وبناء على طاقة الفوتون، سوف ينتج عن هذا انتقال للطاقة والزخم من إلكترون إلى آخر. ولكن هذا هو ما نصفه عادة بأنه تجسد للقوة الكهرومغناطيسية بين هذين الجسيمين المشحونين كهربائيا.
وفي الواقع - وكما سنرى - في عالم الكم يمكن اعتبار القوتين الكهربائية والمغناطيسية ناتجتين عن تبادل الفوتونات الافتراضية. ولأن الفوتون عديم الكتلة، فإن الفوتون المنبعث يمكن أن يحمل قدرا ضئيلا جدا من الطاقة. لذا - كما يخبرنا مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج - يمكن للفوتون أن ينتقل لمسافة طويلة جدا (مستغرقا وقتا طويلا جدا) بين الجسيمات قبل إعادة امتصاصه الحتمية من أجل إعادة الطاقة التي يحملها إلى الإلكترون. ولهذا السبب تحديدا يمكن للقوة الكهرومغناطيسية بين الجسيمات العمل على بعد مسافات طويلة. ولو كانت للفوتون كتلة، فإنه كان سيحمل دائما أقل طاقة ممكنة، وفقا للمعادلة «ط = ك س
2 »، حيث «ك» هي كتلة الفوتون، ولكي يظل هذا الانتهاك لقانون حفظ الطاقة مختفيا في ثنايا الشكوك الكمومية، فإن مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج يقضي بضرورة إعادة امتصاص الفوتون بواسطة الإلكترون الأصلي أو بواسطة إلكترون آخر في غضون زمن محدد أو مسافة محددة على نحو مكافئ.
إننا نسبق الأحداث بوصولنا إلى هذه النقطة، أو على الأقل نسبق ما كان فاينمان يدركه في تلك الحقبة من حياته، ولكنني أوردت هذه التعقيدات هنا لغرض معين، وهو أنه إذا كان كل هذا يبدو لك معقدا للغاية ويصعب تصوره، فانضم إلى جموع الناس، خاصة إذا كنا نتحدث عن حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية. كان هذا هو عالم الفيزياء الأساسية حين دخله ريتشارد فاينمان طالبا، وقد كان عالما بدا أن قواعده الجديدة الغريبة تنتج هراء سخيفا. فعلى سبيل المثال، ظلت الطاقة الذاتية اللانهائية الكلاسيكية للإلكترون جزءا من نظرية الكم، ويرجع الفضل في ذلك بوضوح إلى حقيقة أن الإلكترون يمكنه أن يطلق فوتونات ذات طاقة عالية جدا ويعيد امتصاصها، طالما أنه يفعل هذا خلال فترات زمنية قصيرة للغاية.
غير أن الحيرة كانت أسوأ من ذلك. فنظرية الكم تنسجم جيدا بوجه عام مع النتائج التجريبية، ولكن كلما حاول علماء الفيزياء حساب التنبؤات بالضبط لتضاهي القياسات الدقيقة، فكانوا مثلا إذا أدرجوا عملية تبادل تضم أكثر من فوتون واحد بين الجسيمات - وهي عملية لا بد أنها تحدث على نحو أكثر ندرة من تبادل فوتون واحد - وجدوا أن المساهمة الإضافية الناتجة عن هذا التأثير ذي «الرتبة الأعلى» ذات قيمة لانهائية. وعلاوة على هذا، فإن حسابات نظرية الكم المطلوبة لاستكشاف تلك القيم اللانهائية كانت صعبة ومملة إلى درجة مزعجة؛ إذ كانت كل واحدة من تلك الحسابات تتطلب من أفضل العقول في ذلك الوقت أشهرا كاملة دون أدنى مبالغة.
وعندما كان فاينمان لا يزال طالبا بالجامعة، راودته فكرة حملها معه إلى كلية الدراسات العليا. فماذا لو كانت «الصورة » الكلاسيكية للكهرومغناطيسية - كما شرحتها منذ قليل - صورة خاطئة؟ ماذا لو كانت هناك - على سبيل المثال - قاعدة «جديدة» تقول إن الجسيم الذي يحمل شحنة كهربائية لا يمكنه التفاعل مع نفسه؟ هذا من شأنه أن يخلصنا من الطاقة الذاتية اللانهائية للإلكترون؛ لأنه لا يستطيع التفاعل مع المجال الكهربائي الخاص به. إنني أؤكد أن اللانهائية التي وضعت هذه القاعدة الجديدة لتجنبها موجودة في النظرية الكلاسيكية الخالصة، حتى دون النظر للآثار الميكانيكية الكمية.
Bilinmeyen sayfa
لكن فاينمان كان أكثر جرأة. فماذا لو كان ما نسميه بالمجال الكهرومغناطيسي - الناشئ عن تبادل الفوتونات الافتراضية - بين الجسيمات، ضربا من الخيال أيضا؟ ماذا لو كانت الكهرومغناطيسية بأسرها ناتجة عن تفاعل مباشر بين الجسيمات المشحونة دون وجود أي مجال على الإطلاق؟ على نحو تقليدي، تتحدد المجالات الكهربائية والمغناطيسية كليا بواسطة حركة الجسيمات المشحونة التي تنتجها، لذا - من وجهة نظر فاينمان - لم تكن هناك حاجة إلى وجود المجال نفسه. وبعبارة أخرى، ما إن يتحدد الشكل الأولي للشحنات وحركتها، حتى يمكن تحديد جميع حركاتها اللاحقة من حيث المبدأ ببساطة عن طريق دراسة الأثر المباشر للشحنات بعضها على بعض.
علاوة على ذلك، فكر فاينمان أننا إذا استطعنا الاستغناء عن المجال الكهرومغناطيسي في النظرية الكلاسيكية، فإن هذا قد يحل مشكلات الكم أيضا؛ لأننا إذا استطعنا التخلص من جميع الأعداد التي لا حصر لها من الفوتونات التي تربك العمليات الحسابية لنظرية الكم والتعامل فقط مع الجسيمات المشحونة، فلربما أمكننا التوصل إلى حلول معقولة. وقد عبر عن المسألة في خطاب تسلمه جائزة نوبل بقوله: «حسنا، بدا واضحا لي تماما أن فكرة أن الجسيم يؤثر على نفسه ليست بالفكرة الضرورية؛ إنها فكرة سخيفة نوعا ما في واقع الأمر. وهكذا أوحيت لنفسي أن الإلكترونات لا يمكنها التفاعل مع نفسها، وإنما يمكنها فقط التأثير على إلكترونات أخرى. وهذا يعني أنه ما من مجال على الإطلاق. كان هناك فقط تفاعل مباشر بين الشحنات، وإن كان يحدث بقدر من التأخر.»
كانت تلك أفكارا جريئة، وقد حملها فاينمان إلى كلية الدراسات العليا في برينستون، وإلى جون أرشيبالد ويلر، الذي كان هو الرجل المناسب تماما لتفنيدها ودحضها. لقد عرفت جون ويلر إنسانا شديد الدماثة والمودة، مهذبا ومراعيا للآخرين إلى أبعد الحدود، وكأنه سيد نبيل مثالي من الجنوب (وإن كان منحدرا من ولاية أوهايو). لكنه عندما كان يتحدث عن الفيزياء، يصبح فجأة جريئا مقداما. وقد وصفه أحد زملائه في برينستون خلال تلك الفترة بقوله: «في مكان ما وسط تلك الوجوه المهذبة التي يظهر بها، يوجد نمر طليق ... لديه الشجاعة الكافية لمواجهة أي مشكلة مجنونة.» وكان هذا النوع من الشجاعة ملائما تماما لميول فاينمان الفكرية. أذكر أنني تسببت في نوبات من الضحك عندما اقتبست عبارة كتبها فاينمان ذات مرة في رسالة بعث بها إلى فيزيائي شاب واعد تقول: «تبا للطوربيدات. لنندفع بأقصى سرعة إلى الأمام.» بالطبع كان فاينمان يقلد الأدميرال ديفيد فاراجت (صاحب المقولة الشهيرة أثناء إحدى العمليات البحرية الجسورة التي نفذها خلال الحرب الأهلية الأمريكية)، ولكن تلك الحقيقة التاريخية بدت غير ذات صلة بالموضوع. وقد كانت هذه العبارة تنطبق بنفس القدر على كل من فاينمان وويلر.
كان التوافق بينهما مثاليا ورائعا. وتلا ذلك في برينستون ثلاث سنوات مكثفة من التبادل الفكري بين هذين العقلين الفذين، وكانت تلك هي الفيزياء كما ينبغي أن تكون. لم يكن أي منهما يتجاهل على الفور الأفكار المجنونة التي يطرحها الآخر. وقد كتب ويلر في وقت لاحق يقول: «سأظل ممتنا إلى الأبد للحظ السعيد الذي جمعنا معا في أكثر من مشروع عمل رائع ... كانت مناقشاتنا تتحول إلى ضحكات، والضحكات تتحول إلى نكات، والنكات تتحول إلى المزيد من الأفكار ... وقد عرف من خلال أكثر من مقرر من مقرراتي التعليمية أنني أؤمن بأن أي شيء مهم هو شيء بسيط تماما في جوهره.»
عندما عرض فاينمان فكرته المجنونة لأول مرة على ويلر، لم يتلقها هذا الأخير بالسخرية. وإنما بدأ على الفور يوضح مواطن الخلل فيها، مؤكدا على الحقيقة القائلة: «الحظ الطيب منحة لا يتلقاها إلا صاحب العقل المتأهب.» حيث كان ويلر أيضا يفكر بأسلوب يشبه جدا أسلوب فاينمان.
كان فاينمان قد أدرك مسبقا وجود خطأ فادح في فكرته. فمن المعروف جيدا أن تعجيل جسيم مشحون يتطلب شغلا أكبر من الذي يتطلبه تعجيل جسيم متعادل؛ لأن الجسيم المشحون يطلق إشعاعا ويبدد طاقة أثناء عملية التعجيل. وهكذا فإن الجسيم المشحون يبدو أنه يؤثر على نفسه عن طريق توليد مقاومة إضافية لعملية التعجيل (تسمى «مقاومة الإشعاع»). وكان فاينمان يأمل في أن يتمكن من حل هذه المشكلة بطريقة ما عن طريق دراسة رد الفعل على الجسيم، ليس من ذاته، وإنما من الحركة المستحثة لجميع الشحنات الأخرى في الطبيعة التي ستتأثر بتفاعلاتها مع الجسيم الأول. أعني أن القوة التي يمارسها الجسيم الأول على الجسيمات الأخرى ستجعل تلك الجسيمات تتحرك، وسوف تولد حركتها تيارات كهربائية يمكن أن يكون لها حينئذ رد فعل على الجسيم الأول.
عندما سمع ويلر هذه الأفكار لأول مرة، أوضح أنه إذا كان هذا ما يحدث، فإن مقاومة الإشعاع المتولدة من الجسيم الأول سوف تعتمد على مواضع تلك الشحنات الأخرى، وهي لا تعتمد على ذلك في واقع الأمر، علاوة على أنها سوف تتأخر زمنيا؛ لأنه ما من إشارة يمكنها الانتقال بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. ومن ثم سوف يتطلب الأمر بعض الوقت كي يتفاعل الجسيم الأول مع الجسيم الثاني، الموجود على بعد مسافة منه، ثم يتطلب وقتا أطول كي يستجيب الجسيم الثاني بالتفاعل مع الجسيم الأول، وهو ما سيتسبب في تأخر رد الفعل زمنيا إلى حد بعيد مقارنة بالحركة الأولية للجسيم الأول.
لكن حينها اقترح ويلر فكرة أشد جنونا: ماذا لو أن رد فعل تلك الشحنات الأخرى كان يحدث، بشكل ما، عكس مسار الزمن؟ عندئذ بدلا من أن يحدث رد فعل تلك الجسيمات على الجسيم الأول بعد أن يبدأ الجسيم الأول في الحركة بفترة طويلة، فإنه قد يحدث في الوقت نفسه بالضبط الذي يتحرك فيه الجسيم الأول! وعند هذه النقطة قد يقول مبتدئ حصيف: «مهلا، أليس هذا جنونا؟ إذا كان يمكن للجسيمات أن يكون لها رد فعل في عكس اتجاه الزمن، ألا يعني هذا انتهاك مبادئ فيزيائية مقدسة مثل مبدأ السببية، الذي يقضي بضرورة حدوث الأسباب قبل حدوث النتائج؟»
لكن على الرغم من أن القبول بفكرة حدوث رد الفعل في عكس اتجاه الزمن يفتح الباب أمام مثل هذا الاعتراض من حيث المبدأ، فلكي يعرف الفيزيائيون هل هذا يسبب مشكلات حقا، يجب عليهم أن يكونوا أكثر دقة وأن يجروا الحسابات فعليا أولا. وكان هذا ما فعله فاينمان وويلر. لقد كانا يجربان ليريا هل بمقدورهما حل مشكلاتهما دون خلق مشكلات جديدة، وكانا مستعدين لإرجاء شكهما إلى أن تحتم نتائجهما الرجوع إليه.
في المقام الأول، وبناء على تفكيره المسبق في تلك المسائل، استطاع ويلر أن يدرك مع فاينمان على الفور أنه يمكن استنتاج أن رد فعل الإشعاع في هذه الحالة يكون مستقلا عن مواضع الشحنات الأخرى، ويمكن أيضا من حيث المبدأ جعله يحدث في الوقت المناسب، وليس في وقت لاحق متأخر.
Bilinmeyen sayfa