الضغط على الأنفس والعقول إلى حد محدود يولد من القوى الكامنة ما لا يخلو من سمو الفكرة والإدراك، وأما إذا تجاوز هذا الحد فيولد اليأس والخمول، وفي اليأس متى انتفضت عنه غبار الخمول قوة خبيثة قتالة لا عقل فيها ولا إدراك.
في كل إنسان جذوة من الخير لا تخمدها رماد الغواية والضلال مهما تكاثفت فوقها، في كل إنسان شيء من الحب والحقيقة مهما أوغل في المنكرات ونكب عن السراط المستقيم. وإن أنا صافحت مجرما فإنني أصافح تلك الجذوة الكامنة تحت رماد شقائه وذاك القليل من الحب الراقد تحت بلائه، إنني أصافح الشقي الباغي ؛ لأنه ساعة يقف أمامي لمن الصالحين ولو إلى حين. ولا يهمني - إذ ذاك - ما كان من ماضيه ولا ما سيكون من مستقبله، لا، فإنه لا يصدني عن مصافحته سيئة أتاها أو جناية اقترفها أو عار أحاق به، ساعة أخذ يده بيدي تتصل كهربائية جسمي بجسمه وتؤهله لمصافحتي في تلك الآونة. •••
خير الكتب وأنفسها كتاب لا يتركني بعد أن أطالعه في الحال التي ألفتها، كتاب يحرك في عاطفة شريفة جديدة، أو قصدا كبيرا جديدا، أو فكرا ساميا جديدا، كتاب يزحزحني من مكاني أو يدفعني لأزحزح من هم حولي، كتاب يفيقني من سباتي العميق، أو ينهض بي من حمأة الخمول، أو يهديني إلى طريقة أحل بها عقدة من عقد الحياة، ولكن مثل هذا الكتاب - على كثرة ما تصدره المطابع الحرة اليوم من القصص والروايات - أصبح كالامرأة الفاضلة التي ينشدها سيدنا سليمان. •••
كليمبروتوس اليوناني رمى بنفسه في البحر بعد أن انتهى من قراءة كتاب أفلاطون في خلود النفس، وفي فعلته هذه الخارقة ثناء عظيم على المؤلف وعلى القارئ معا؛ إذ لو لم يقنع كليمبروتوس بحجة أفلاطون لما كان فادى بحياته ليبرهن عن إيمانه، ولو لم يعتقد أفلاطون بما كتبه لما استطاع أن يفحم كليمبروتوس. فمثل كتابه هذا يزحزح حقا ولكنه يزحزح جدا، يزحزح القارئ دفعة واحدة عن هذا العالم، فهو إذا لا ينفع كثيرا.
ومن حظنا أنه لم يترجم إلى اللغة العربية. على أنني وإن كنت أشك في صحة عقل كليمبروتوس لا أشك قط في شجاعته التي حملته على أن يعمل بما اعتقده صحيحا، فما قولك بالمسيحيين والمسلمين واليهود، الذي يعتقدون - أو في الأقل يقولون - بالخلود، ويبكون أمواتهم كما لو كانت أنفسهم أيضا للدود؟ فإن كنا في اعتقادنا صادقين، إن كنا واثقين كأفلاطون وكليمبروتوس أن النفس لا تموت؛ ينبغي أن نفرح في الأقل ساعة تطلق من أسر الجسد. على أنني لا أسألكم أن تفرحوا ولا أسالكم أن ترموا بأنفسكم في البحر لتبرهنوا عن إيمانكم العجيب، ولكن لا تصمون الأحياء ساعة الموت بالعويل والنحيب . •••
الحكيم لا يخشى الموت لعلمه بأن الموت بعيد عن الإنسان ما زال حيا، ومتى مات الإنسان يصبح بعيدا عن الموت.
خير الإحسان وأجمله ما جاد به القلب والعقل معا، وما بقي ففيه الكذب والادعاء، جد علي بشيء من القوت فآكله وبعد قليل أصبح كما كنت قبل إحسانك، ففتاتك لا تغير في نفسي شيئا. ولكن هات منك فكرا ساميا جميلا فيتحلل في القلب والدماغ ويخالط النفس مني فترثه عني الأجيال. في كل قوة أدبية - أي: عقلية روحية - شيء من الخير الخالص النقي، وإذا كان فيك يا أخي شيء من هذه القوة الأدبية فهذا الخير يصدر عنك إن شئت أو لم تشأ وينفعني أنا إن شئت أو لم أشأ. •••
لما حدد «ديكار» المادة أهمل ذكر القوة والحركة اللتين هما من مزاياها، وخصصها بمزية التمدد فقط، أما الحركة التي روقبت فيها فعزيت إلى قوة خارج المادة ومستقلة - أي: إلى الله - ولكننا اليوم نتلقن في المدارس مبدأ أمسى من أوليات الطبيعيات وهو أن القوة والحركة والتمدد كلها من مميزات المادة، وأن في كل جسم جامد أو آلي قوة كامنة تستحيل حركة ميكانيكية، وأن الحركة الدائمة هي من طبيعة المادة، وأن الأجسام مؤلفة من جواهر هي أبدا متحركة، ولكن قد يعود العلماء بعد البحث الطويل إلى غلطة «ديكار» ومتى عرفوا ما هو الأثير واكتشفوا سرا واحدا من أسراره يصححون - لا شك - تعاليمهم الطبيعية.
إن سيئات مشاهير الناس كحسناتهم من حيث إن الغلو يكون غالبا مصدر الاثنين، وإن ما يقوله فيهم المقربون المدلسون لأخبث مما يقوله الحسد المبغوضون. لما مات الهر كروب صاحب معامل المدافع الشهيرة أشاع أصحابه أنه كان يكره الحرب كرها شديدا، فيا لها من إهانة يلحقها المدلسون بالأموات! وماذا تنفع الناس عاطفة كروب المكربة وقد استخدم ثروته العظيمة في استنباط أدوات الحرب واصطناع موادها؟ أما إذا كانت المدرعات والمدافع تصنع لقتل القتال لا لإحيائه فيكون الفضل في إبطال الحروب لبضاعة الهر كروب. •••
من الناس من يعجب ببعض أبطال التاريخ ليحذو حذوهم في السيئات لا في الحسنات، فينتحل - لحماقته - من شذوذهم الأعذار، ويتخذ من عيوبهم مثالا لعيوبه. •••
Bilinmeyen sayfa