دعا مرة رئيس الولايات المتحدة أصحاب المعادن وسألهم أن يتساهلوا مع عمالهم ولو من باب المجاملة فرفضوا، قام أرباب الدين وكرروا رجاء الرئيس فرفضوا، قامت الصحافة فسألت ورجت والتمست وتهددت وأنذرت والمتمولون على عنادهم مصرون. قامت الأمة من أقاصي الغرب إلى أقاصي الشرق تطلب إقامة الحدود وأصحابنا جبابرة المال أصم من أبي الهول. فما هو استبداد حكومة جورج الثالث بالنسبة إلى هذا العناد والتكبر والطغيان والتجبر؟
يقولون: إن الاعوجاج في الجمهوريات يتقوم بالاقتراع. فنقول لهم: إن كل صوت كبيرا كان صاحبه أو صغيرا يشترى ويباع بالدولار، فأكثر الأميركيين مثلا لا يقترعون إلا لمن يزيد في أصواتهم. وهذه من مظاهر التمدن الحديث التي نود أن لا تدوم. يقولون: إن الحرية الشخصية مطلقة لكل فرد في الحكومات الحرة المستقلة. وما جوابنا لهم إلا أن الجرائم الفظيعة التي تحدث بالعشرات كل يوم في المدن الكبرى ليست إلا بعض نتائج تلك الحرية، فالتسميم والقتل والطلاق التي تزداد حوادثها يوما فيوما كلها من مظاهر التمدن الحديث الموهوم.
أما الإخاء فكلمة لا معنى لها إلا في معجمات اللغة، فالتمدن الحديث يولد في كل فرد عاطفة الكبرياء والأنفة والأثرة والخشونة، ورجال المغرب لا يقتربون من أحد إلا إذا كان لهم منه منفعة شخصية. فأين الألفة وأين الإخاء وأين الضيافة وأين الولاء؟ سفكت دماء الملايين من الناس في الفتن الأوروبية العديدة وما أثمرت هذه الدماء المهدورة ثمارا توازي تلك النفوس البشرية؛ إذ إننا لم نزل - سياسيا وأدبيا واجتماعيا - في الموضع الذي وجد فيه الناس والحكومات قبل الثورات، لم نتقدم إلا في العقول فقط، وما سوى ذلك فلا اعتراض عندي على تدميره.
وقد فات الفيلسوفان اللذان نقلنا عنهما العبارة السابقة أن هذا التمدن الناشئ بين الكنائس والمكاتب والملاهي والمتاحف والقصور والمشيد على المال والتجارة والظلم والاستئثار لا يولد إلا الرذيلة والجهل. ومن الجهل والرذيلة يتألف جيش بربري عرمرم ليست جيوش آتيلا وتيمور لنك وجنكيس خان بالنسبة إليه بشيء. وإذا زحف جيش الجهل والرذيلة على معاقل تمدننا الزاهر الباهي يجعل عاليها سافلها كأن لم تغن بالأمس. وقصارى القول: إن الخطر على تمدننا الكاذب هو من الداخل لا من الخارج، هو من أنفسنا لا من الأعاجم البرابرة.
الفقر وبنوه
التمدن الذي يقضي على الأولاد أن يباكروا بكور الزاجر ليذهبوا إلى المعمل لا إلى المدرسة هو تمدن ناقص الجهاز مختل النظام. والهيئة الاجتماعية التي يحرم فيها ابن الفقير التهذيب هي هيئة فاسدة يعزز فيها صالح أهل السعة وتهمل حقوق بني الفاقة. والحكومة التي تتغاضى عن الآباء الفقراء الذين يشغلون أولادهم في المعامل طمعا بأجورهم الزهيدة هي حكومة معوجة، تحتاج إلى نواب عادلين حكماء منزهين يسنون لها شرائع قويمة وقوانين رادعة، تحتاج إلى رئيس خبير بأمراض الأمة ينبه مجلسيه «أي الشيوخ والنواب» من حين إلى آخر ويحرضهما على سن مثل هذه الشرائع. تحتاج إلى صحافة حرة عادلة مجردة عن المطامع الذاتية لتطالب بها حينما تهمل، لتحتج وتعترض حينما تداس، لتذب عنها حينما يحاول إفسادها ذوو المآرب.
وقد يقال إن الآباء الفقراء وخصوصا المعيلين منهم يحتاجون إلى أجور أولادهم، ولا يكون العيال غالبا إلا بين طبقات الشعب الوسطى وبين بني العيلة والفقر. أجل إن المتكئين على وسائد الريش، المتسربلين بالخز والحرير، الخارجين من بيوتهم في المركبات، السائرين إلى الحدائق في السيارات؛ أولئك يعرفون كيف يقاتل الأعيال وكيف ينقرض النسل وتقتل الأطفال، أولئك يميتون الأنفس في الجنين مع توفر المال لديهم وذوو العيلة يتكاثرون وإن ضاقت بهم الأسباب.
إي والله، إن جاز للإنسان قتل نفس في الجنين فالفقير بهذا الترخص أولى، فالفقر يضاعف بنيه والحكومة لا تنشئ نزلا مجانية في جانب المدارس العمومية؛ ولذلك ينهك الأحداث في المعامل قواهم فتقبض أنفسهم صغارا ويفقدون الحزم والعزم كبارا، ويشبون جهلة أشقياء لا يعرفون من سنن الحياة إلا التمرد والعصيان. أفلا تخاف الحكومة على نفسها من أولئك المستعبدين صغارا الثائرين كبارا، لتكفل لآبائهم إذا معايشهم لتنشل الصبيان من عبودية الأشغال الشاقة، لتنشئ نزلا مجانية في جانب المدارس العمومية فلا تموت إذ ذاك في المعامل الآمال ولا تعدم الأمة في المستقبل أولئك الرجال.
وليس الذنب على الآباء الذين يكرهون أولادهم على العمل عوضا من أن يكرهوهم على العلم، فهناك أحوال ترمي بالناس إلى هوة الفقر وهم لا يعلمون، ولكن التعميم يضلل فرب أناس تؤاتيهم الفرصة ولا يغتنمونها، أو أنهم يرونها بعيدة عنهم فلا يتبعونها، أو أنهم ينظرونها ولا يجدون من يساعدهم على الظفر بها. كم من فقير لا يستطيع المحامي أن يبرئه في محكمة العدل، وكم من محاويج جلبوا على أنفسهم الفاقة وما يليها من البؤس واليأس والشقاء والبلاء. نعم، الفقر يولد الجهل والرذيلة والأمراض، الفقر يوجد البغض والحسد والخصومات، الفقر يقتل المحبة والرجاء والآمال ويذهب بالأبوة وعزة النفس والجمال. هذا إذا استثنينا أفرادا ينجحون على رغم أنف الفاقة المحدقة بهم، وأكثر هؤلاء هم من الحكماء والعلماء والفلاسفة والشعراء.
أناس خصوا في البدء بنصيب وافر من العقل فعاشوا راضين بأفكارهم وعلومهم وتصوراتهم، وفقر الفيلسوف هو غير فقر الجاهل هو غير الفقر الذي يبعد الصبيان عن العلم والنور ويرميهم بين الألوف من أمثالهم في المعامل، هو غير الفقر الذي يضل النفس ويضعف العقل ويعمي القلب، هو غير الفقر الذي يشوه الخلق والخلق ويذهب بالآمال ويغير طبائع الرجال. نعم إن مثل هذه الفقر لحليف الجهل وأليف القذارة ورسول الفوضى، ولكن ما هو يا ترى سبب الفقر؟ هي مسألة أقدم من يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الذي خدع حماه ليكثر غنمه فيجر من ذلك مغنما، نعم هي مسألة قديمة ولكنها تظل جديدة؛ لأنها لا تحل ما زالت الأحكام في أيدي ذوي المآرب والأغراض الذاتية، لا تحل ما زال من يستطيعون حلها بعيدين عن مجالس الأمم التي تسن فيها الشرائع والقوانين. لا شك أن كتابات تولستوي تسر الملايين وتسليهم - إذا لم نقل تفيدهم وتهذبهم أيضا - ومن جملة المعجبين بهذا الرجل العظيم كثيرون من النواب والموظفين في روسيا.
Bilinmeyen sayfa