الحياة البشرية المستقبلة التامة الأجزاء ارتقاء وصحة وفهما، نعم إن قمة مثل حياتنا اليوم لهي ناقصة تافهة ولكنها بالنسبة إلى ما هو دونها تستحق الاعتبار. حسبنا أن تنقص فينا اليوم الجربزة والتلبيس والخداع فتعلو بالنسبة قيمة الحياة، حسبنا أن يتقدم في كل بلد أحد الناس الأقوياء بصلاحهم الجريئين بفكرهم فيضرب إحدى مفزعات الناس ويحطمها، الخيالات والبعبعات والأوهام والخزعبلات. كلما زال شيء من هذه ترتفع بالنسبة قيمة الحياة.
قل لي إذا أيها المحترم ما هو اعتقادك الحقيقي فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي يا صاحب السعادة والعزة ما هي آمالك في أعمالك فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الصحافي الحر ما هي غايتك الكبرى في تسويد الصحف فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الغني ما هو قصدك الأولي في جمع المال فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الإنسان ما هي أسرار قلبك أقل لك ما هي قيمة حياتك. قولي لي أيتها الامرأة ما هي غايتك القصوى في الدنيا أقل لك ما هي قيمة حياتك.
إخواني، أخواتي.
إن قيمة حياتنا اليوم ما نزرعه في القلوب من البر والصلاح، وفي العقول من العلم والحكمة، قيمة الحياة ما يعود إلينا من ثمار الحب الذي نزرعه في صدور الناس. قيمة الحياة ما يأتي به كل منا من الصالحات الباقيات مادية كانت أو عقلية أو روحية. فالغني الذي يقدر حياته بما عنده من المال يرفع من قيمتها إذا بذل من ثروته لنشر المعارف، واستئصال الأمراض، وتخفيف وطأة البؤس والظلم في العالم.
والعالم الذي يقدر حياته بما عنده من العلم يرفع من قيمتها إذا محص علمه من الغش والخداع، من السفاسف والأوهام وبثه في الناس صافيا لوجه الله. والمتقشف الذي يقدر حياته بما عنده من الزهد والتقوى يصنع خيرا إذا كان تقشفه يفيد في الأقل إفادة سلبية فيخفف فينا وطأة زخرف هذه الحياة المدنية. على أن العالم والغني والزاهد قلما تنفع حياتهم وقلما تكون أرفع قيمة من حياة أحقر الناس وأجهلهم إذا كانوا لا يعملون لغير أنفسهم، وشر الحياة حياة لا انعطاف فيها ولا إخلاص ولا حب ولا حماسة.
وأما رجل المستقبل ذاك الذي تتم فيه أجزاء الحياة كلها وتتساوى صحة ونشاطا وفهما ورقيا فسيتمكن - إن شاء الله - من الجمع بين حسنات العالم والغني والمتقشف، بين محاسن العقل والجسد والروح، بين الخيال والحقيقة، بين جمال الشعر وجمال الحكمة وجمال الصحة. مثل هذا الرجل الذي يعيش في الحاضر كما لو كان الحاضر الأبدية كلها فلا يعمل عملا لا يشترك فيه عقله وروحه وقلبه؛ هو يشغل رأس ماله في أسواق الحياة الثلاثة فلا يكون عالما عاجزا لا يحسن التصرف في غير منزلته ولا غنيا جاهلا ولا زاهدا أخبل.
هو الذي يحيي قواه كلها ويرعاها، فيغذي العقل والروح دائما كما يغذي الجسد، هو الذي يروض نفسه للشدائد كما لو كانت من ضروريات الحياة، هو الذي لا يعول في أموره على أحد من الناس. هو الذي لا يحترم في البشر إلا العلم والذكاء والصلاح، هو الذي لا يحابي في سبيل العدل أحدا ولا يخشى في سبيل الحق إنسانا. هو الذي يعيش لنفسه ولربه وللإنسانية في وقت واحد. إن حياة مثل هذا الرجل لكنز من كنوز الدنيا، وقيمتها لا تقدر ولا تحد. (7) هملت وشكسبير
39
يتوقع مني بعض الناس توجيه كلمة إلى أولئك الذين أساءوا فهم خطابي الأخير في الكلية الأميركية، ونشروا على صفحات الجرائد مثالا من تسرعهم في النقد وبطئهم في الافتهام. ولكنني آليت على نفسي ألا أوضح لأحد وألا أجادل وأناقش أحدا؛ فإن الذين يعرفونني ويفهمونني بغنى عن الإيضاح، والذين لا يحبون أن يعرفوني ويفهموني وإن صرفت ما بقي من حياتي شارحا مفسرا موضحا فإنهم لا يقتنعون ولا يفهمون؛ لذلك لا أضيع وقتي فيما لا طائل تحته لا لكم ولا لي، لذلك لا أجادل أحدا ولا أناقش بشرا، بل جعلت مبدأي وخطة حياتي هذه الكلمات الثلاثة «قل كلمتك وامش»، فإننا إذا وقفنا لنسمع المداحين والهجائين الناطقين بالحجارة والناطقين بالأزهار ننصرف عما وجدنا من أجله من بث المبادئ الحرة والتعاليم السديدة في الناس إلى ما يعرقل سعينا ويقعد بهمتنا ويكدر صفاء أفكارنا ويعودنا مقاتلة الناس لا تهذيبهم ولذلك جعلت شعاري: «قل كلمتك وامش.»
هذا هو مبدئي، هذه خطة حياتي الكتابية، وهذه نصيحتي لإخواني الأدباء أجمعين، وبناء على ذلك سأقول كلمة في رواية هذه الليلة كي لا أخرجكم من الموضوع الجميل الذي أنتم فيه. وإنني لا أستحسن - قطعا - الخطابة في المواضيع السياسية والإصلاحية في مثل هذه المواقف الأدبية؛ فإنها تصرف أفكاركم عما جئتم من أجله هذه الليلة وتقطع سلسلة الخيال التي تنقلكم من المكان الذي أنتم فيه إلى مكان الرواية وزمانها، وهذه من شروط الإتقان في التمثيل، فإن الممثل الذي لا ينسيني وأنا جالس في تلك الكرسي أمام هذا المرسح كوني في بيروت وفي الجيل العشرين، الممثل الذي لا ينقلني بمغناطيس صناعته إلى الدانيمارك في هذه الرواية مثلا - لأشاهد هناك مليكها وأميرها ورجالها وأشباحها يقطعون الحياة ويذيبونها - لا يكون قد أحسن أوليات هذا الفن.
Bilinmeyen sayfa