بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(مُقَدّمَة)
الْحَمد لله الَّذِي نوع لهَذِهِ الْأمة أَسبَاب الْخيرَات ووسع لَهُم أَبْوَاب المثوبات والبركات وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على نبيه الَّذِي بَين للْمُؤْمِنين سبل الطَّاعَات وَحسن زِيَارَة الصَّالِحين فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَمَات وعَلى صحابته وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان على مر الدهور وكر الْأَزْمَان وَبعد
فَيَقُول الْفَقِير إِلَى لطف ربه الْخَفي وبره الوفي عبد الرحمن الْعِمَادِيّ الْحَنَفِيّ
إِن زِيَارَة الصَّالِحين من أقرب القربات وَهِي لاستمطار سحائب البركات من الْأُمُور المجربات وَقد أمرنَا بالتعرض
1 / 55
للنفحات وَلَا شكّ أَن مواطنهم من أكبر مظنات إِجَابَة الدَّعْوَات
ثمَّ لما كَانَ من أعظم مزارات الشَّام الموصوفة مزارات داريا
1 / 56
الْكُبْرَى الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة جمعت هَذِه النبذة فِي شَأْنهَا تعريفا بِعظم قدر سكانها وتشريفا للأسماع بِذكر من دفن بمكانها وسميتها الرَّوْضَة الريا فِيمَن دفن بداريا عَسى أَن أمنح بلمحة من سنا أنوار لمحاتهم وأنفح بنفحة من شذى أسرار نفحاتهم وَمَا ذَلِك على الله بعزيز وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
فَأَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاء الطَّرِيق قَالَ القَاضِي ابْن خلكان فِي وفيات الْأَعْيَان فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان
1 / 57
داريا ياؤها مُشَدّدَة وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا داراني من شواذ النّسَب وَهِي قَرْيَة فِي نَاحيَة يُقَال لَهَا وَادي الْعَجم من نواحي دمشق
انْتهى
قلت إِنَّمَا كَانَ من شواذ النّسَب لِأَنَّهَا على غير قِيَاس إِذْ الْقيَاس أَن تحذف الْألف الْأَخِيرَة لوقوعها سادسة كَمَا قَالُوا قبعثري نِسْبَة إِلَى قبعثرى ثمَّ تحذف الْيَاء الأولى وتقلب الثَّانِيَة واوا كَمَا قَالُوا قصوي نِسْبَة إِلَى قصي فَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَيْهَا داروي
وداريا وَزنهَا فعليا وَمثلهَا من الصِّيَغ المسموعة مرحيا وبرديا
حَكَاهُمَا سِيبَوَيْهٍ
1 / 58
وَهِي مُشْتَقَّة من الدَّار وَالْيَاء للتأنيث وَإِنَّمَا زيدت هَذِه الزَّوَائِد دلَالَة على التكثير
وَزِيَادَة المبنى تدل على زِيَادَة الْمَعْنى
وَذَلِكَ كَمَا قيل إِنَّهَا كَانَت فِي الأَصْل مجمعا لدور آل جَفْنَة الغسانيين ومنازلهم
قلت وَآل غَسَّان هم مُلُوك الشَّام الَّذين يَقُول فيهم حسان بن ثَابت ﵁ من جملَة مَا لَهُ فيهم من المدائح الحسان
1 / 59
(أَوْلَاد جَفْنَة حول قبر ابيهم ... قبر ابْن مَارِيَة الْكَرِيم الْمفضل)
(يغشون حَتَّى مَا تهر كلابهم ... لايسألون عَن السوَاد الْمقبل)
(بيض الْوُجُوه كَرِيمَة أحسابهم ... شم الأنوف من الطّراز الأول)
(يسقون من ورد البريص عَلَيْهِم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل)
1 / 60
وَمِنْهُم جبلة بن الْأَيْهَم الَّذِي وَفد نهر دمشق مُسلما على عمر ﵁ فِي خِلَافَته بِخمْس مائَة فَارس عَلَيْهِم الديباج وَالذَّهَب وعَلى رَأسه التَّاج وقرطا مَارِيَة المشهوران ثمَّ وطئ الْفَزارِيّ إزَاره فِي الطّواف فَلَطَمَهُ
1 / 61
فَقَالَ لَهُ عمر ﵁ إِمَّا أَن ترضه أَو تقيده فَلم يرض الْفَزارِيّ إِلَّا أَن يُقَيِّدهُ بلطمة مثلهَا
فَقَالَ أتقيد مني وَأَنا ملك
فَقَالَ عمر ﵁ أَنْتُمَا فِي حكم الْإِسْلَام سَوَاء
فَقَالَ أمهلني ثَلَاثَة أَيَّام فأمهله فَخرج لَيْلًا إِلَى قَيْصر فملكه فِي بِلَاده وَتَنصر
ثمَّ إِن عمر ﵁ أرسل صحابيا إِلَى قَيْصر فَاجْتمع بجبلة فَرَأى عِنْده من الخدم والحشم والجواهر وأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة مَا أذهله فَسَأَلَ عَن عمر وَعَن تِلْكَ الديار ثمَّ تأوه وَأنْشد
(تنصرت الْأَشْرَاف من أجل لطمة ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَو صبرت لَهَا ضَرَر)
(تكنفني فِيهَا لجاج ونخوة ... وبعت بهَا الْعين الصَّحِيحَة بالعور)
(فيا لَيْت أُمِّي لم تلدني وليتني ... رجعت إِلَى القَوْل الَّذِي قَالَه عمر)
1 / 62
(وَيَا لَيْتَني أرعى الْمَخَاض بقفرة ... وَكنت أَسِيرًا فِي ربيعَة أَو مُضر)
ثمَّ قَالَ جبلة للرسول إِن ضمنت لي على عمر ثَلَاثَة أَشْيَاء رجعت إِلَى الْإِسْلَام
أَن يغْفر لي مَا سلف
وَأَن يزوجني بنته
وَأَن يَجْعَلنِي ولي عَهده من بعده
فَقَالَ لَهُ أما الثنتان فَنعم وَأما الثَّالِثَة فَلَا
فَرجع الرَّسُول وَأخْبر عمر ﵁ فَقَالَ لَهُ ليتك ضمنت الثَّالِثَة ﴿وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء﴾ الْبَقَرَة ٢٤٧
وقصته مَشْهُورَة وَهِي بِطُولِهَا فِي الْكتب مسطورة
وَقَالَ الإِمَام النَّوَوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء
1 / 63
واللغات
داريا الْقرْيَة الْمَشْهُورَة تَحت دمشق على دون ثَلَاثَة أَمْيَال
هِيَ بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء كَانَ فضلاء السّلف يسكنونها وَمِمَّنْ سكنها من الصَّحَابَة ﵃
(بِلَال الْمُؤَذّن)
﵁
وَبهَا قبران مشهوران يقصدان للزيارة لسيدين جليلين أبي مُسلم الْخَولَانِيّ وَأبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي ﵄ انْتهى
1 / 64
ولنبدأ بِذكر مَنَاقِب الإِمَام الشريف الذَّات صَاحب المناقب والكرامات التَّابِعِيّ الْجَلِيل أبي مُسلم الْخَولَانِيّ ﵁
فَنَقُول قَالَ الْحَافِظ الْكَبِير الْمُفَسّر الإِمَام ابْن كثير نزل أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ بداريا من غربي دمشق بعد أَن ارتحل من الْيمن إِلَى الْمَدِينَة فَوجدَ النَّبِي ﷺ قد قبض ذَلِك الْعَام فَرَأى أَبَا بكر وَعمر ﵄ وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة رَضِي الله
1 / 65
عَنْهُم
وَكَانَ لَا يسْبقهُ أحد إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع بِدِمَشْق من داريا فِي أَوْقَات الصَّلَوَات الْخمس وَلَا سِيمَا وَقت الصُّبْح
وَكَانَ ملازما للْجِهَاد فِي كل سنة يَغْزُو بِلَاد الرّوم مَعَ أَصْحَاب لَهُ خَاصَّة
وَله أَحْوَال وكرامات كَثِيرَة وقبره مَشْهُور بداريا
وَكَانَ مقَامه بهَا إِذا قفل من غَزْو الرّوم
روى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر عَنهُ أمرا غَرِيبا وشأنا عجيبا بِسَنَدِهِ
1 / 66
من طَرِيق إِسْحَاق بن نجيح الْمَلْطِي عَن الإِمَام الْمُجْتَهد الْأَوْزَاعِيّ التَّابِعِيّ الْجَلِيل ﵁ قَالَ
أَتَى أَبَا مُسلم الْخَولَانِيّ نفر من قومه يَعْنِي الخولانيين من الْيمن فَقَالُوا يَا أَبَا مُسلم أما تشتاق إِلَى الْحَج
1 / 67
فَقَالَ بلَى لَو أصبت لي أصحابا
فَقَالُوا نَحن أَصْحَابك
فَقَالَ لَسْتُم لي بأصحاب
إِنَّمَا أَصْحَابِي قوم لَا يردون الزَّاد وَلَا المزاد
فَقَالُوا سُبْحَانَ الله كَيفَ يُسَافر قوم بِلَا زَاد وَلَا مزاد
فَقَالَ لَهُم أَلا ترَوْنَ إِلَى الطير تَغْدُو وَتَروح بِلَا زَاد وَلَا مزاد وَالله يرزقها
قَالَ فَقَالُوا إِنَّا نسافر مَعَك
قَالَ تهيؤوا على بركَة الله تَعَالَى
قَالَ فَغَدوْا من دمشق لَيْسَ مَعَهم زَاد وَلَا مزاد فَلَمَّا أَتَوا إِلَى الْمنزل فَقَالُوا يَا أَبَا مُسلم طَعَام لنا وعلف لدوابنا
قَالَ فَقَالَ لَهُم نعم
1 / 68
فَتنحّى غير بعيد فَتَيَمم مَسْجِد أَحْجَار فصلى رَكْعَتَيْنِ فِي ذَلِك الْمَسْجِد ثمَّ جثا على رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ
إلهي قد تعلم مَا أخرجني من منزلي وَإِنَّمَا خرجت إيثارا لَك على من سواك وَقد رَأَيْت الْبَخِيل من ولد آدم تنزل بِهِ الْعِصَابَة من النَّاس فيوسعهم قرى وَأَنت الْكَرِيم الْغَنِيّ اللَّطِيف الرَّزَّاق وَإِنَّا أضيافك وزوارك فأطعمنا واسقنا وأعلف دوابنا
قَالَ فَأتي بسفرة فمدت بَين أَيّدهُم وَجِيء بِجَفْنَة من ثريد تبخر وَجِيء بقلتين من مَاء وَجِيء بالعلف لَا يدرى من يَأْتِي بذلك فَلم تزل تِلْكَ حَالهم مُنْذُ خَرجُوا من عِنْد أهلهم حَتَّى رجعُوا
لَا يتكلفون زادا وَلَا مزادا
1 / 69
قَالَ ابْن كثير
فَهَذِهِ حَال ولي من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى من هَذِه الْأمة تنزل عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه كل يَوْم مائدة مرَّتَيْنِ مَعَ مَا يُضَاف إِلَيْهَا من المَاء والعلف لدواب أَصْحَابه
وَهَذَا اعتناء عَظِيم بِهَذَا الرجل الْكَبِير الْقدر وَقد شبه فِي تِلْكَ الْمَائِدَة بِعِيسَى ﵊ كَمَا شبه فِي كَرَامَة أُخْرَى بإبراهيم الْخَلِيل وَفِي كَرَامَة أُخْرَى بِنوح ومُوسَى عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَكم لَهُ كَرَامَة عَظِيمَة وبركة جسيمة وَإِنَّمَا نَالَ ذَلِك ببركة مُتَابَعَته لنبينا الْكَرِيم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
روى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ من طَرِيق أبي النَّضر عَن سُلَيْمَان بن
1 / 70
الْمُغيرَة
أَن أَبَا مُسلم الْخَولَانِيّ جَاءَ إِلَى دجلة وَهِي ترمي بالخشب لشدَّة مرها فَمشى على المَاء وَتَبعهُ أَصْحَابه ثمَّ الْتفت إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ هَل تَفْقِدُونَ من مَتَاعكُمْ شَيْئا فندعو الله أَن يردهُ
قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا إِسْنَاد صَحِيح
وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر أَنه غزا أَرض الرّوم فَمروا بنهر وَقَالَ لأَصْحَابه أجيزوا بِسم الله وَمر بَين أَيْديهم فَمروا خَلفه على المَاء فَلم يبلغ من الدَّوَابّ إِلَّا إِلَى الركب
1 / 71
قَالَ فَلَمَّا جازوا قَالَ للنَّاس من ذهب لَهُ شَيْء فَأَنا ضَامِن لَهُ
قَالَ فَألْقى بَعضهم مخلاة عمدا فَلَمَّا جازوا قَالَ الرجل مخلاتي يَا أَبَا مُسلم وَقعت فِي النَّهر
فَقَالَ لَهُ اتبعني فَإِذا المخلاة تعلّقت بِبَعْض أَشجَار النَّهر قَالَ خُذْهَا
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق أُخْرَى
وَلابْن عَسَاكِر عَن حميد بن هِلَال الْعَدوي قَالَ حَدثنِي ابْن عمي قَالَ
خرجت مَعَ أبي مُسلم الْخَولَانِيّ فِي جَيش فأتينا على نهر عجاج مُنكر فَقُلْنَا لأهل الْقرْيَة أَيْن المخاضة فَقَالُوا مَا كَانَت هَهُنَا مخاضة قطّ وَلَكِن المخاضة أَسْفَل مِنْكُم على لَيْلَتَيْنِ
فَقَالَ أَبُو مُسلم اللَّهُمَّ أجزت بني إِسْرَائِيل الْبَحْر وَإِنَّا عِبَادك
1 / 72
فِي سَبِيلك فأجزنا هَذَا النَّهر الْيَوْم
ثمَّ قَالَ اعبروا بِسم الله
قَالَ ابْن عمي
وَأَنا على فرس فَقلت لأقذفنه أول النَّاس خلف أبي مُسلم قَالَ فوَاللَّه مَا بلغ المَاء بطُون الْخَيل حَتَّى عبر النَّاس كلهم
ثمَّ وقف فَقَالَ يَا معشر الْمُسلمين هَل ذهب لأحدكم شَيْء فأدعوا الله تَعَالَى يردهُ
قَالَ ابْن كثير
وَهَذِه مشابة لمعجزة نوح ﵇ فِي مسيره من فَوق السَّفِينَة وبمعجزة مُوسَى ﵇ فِي فلق الْبَحْر وَهَذِه فِيهَا مَا هُوَ أعجب من جِهَة مَسِيرهمْ على متن المَاء من غير
1 / 73
حَائِل وَمن جِهَة أَنه مَاء جَار فالمسير عَلَيْهِ أعجب من السّير على المَاء القار فَهَذَا خارق والخارق لَا فرق بَين أَن يكون فِي بَحر أَو نهر بل كَونه فِي نهر عجاج كالبرق الخاطف وَلم يصل إِلَى بطُون الْخَيل أعظم وأعجب
وَلَا شكّ أَن كرامات الْأَوْلِيَاء من جنس معجزات أَنْبِيَائهمْ فَمن طعن على الكرامات فقد طعن على المعجزات
وروى الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي الْحِلْية والحافظ ابْن عَسَاكِر وَالْإِمَام ابْن الزملكاني والحافظ ابْن.
1 / 74