ومع ذلك فإننا غير مدركين لأنفسنا بغير هذا السر الذي هو أكثر ما يكون إشكالا، وتتناول عقدة حالنا رداتها وطياتها في هوة الخطيئة الأصلية، وذلك بحيث إن الإنسان يكون أكثر استغلاقا بغير هذا السر من استغلاق هذا السر على الإنسان.
يعني هذا «أن الإنسان مستغلق بغير هذا السر المستغلق»، ولم الذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه الكتاب المقدس؟ أليس من التهور أن يعتقد احتياج الكتاب المقدس إلى دعامة، وأنه يمكن هذه الآراء الفلسفية أن تمنحه إياها؟
وما يكون جواب مسيو بسكال لرجل يقول له: «أعرف أن سر الخطيئة الأصلية هو موضوع إيماني لا عقلي، وأدرك جيدا ما الإنسان بغير هذا السر، وأراه يأتي إلى العالم كالحيوانات الأخرى، وأرى أن طلق الأمهات أشد ألما بنسبة لطافتهن، وأن مما يحدث أحيانا كون النساء وأنثى الحيوانات يمتن حين الوضع، وأنه يوجد في بعض الأحيان من الأولاد من هم سيئو التركيب، فيعيشون عاطلين من حاسة أو حاستين، خالين من قوة الإدراك، وأن من هم أحسن تركيبا يكونون أشد الناس أهواء، وأن الحب نفسه متساو لدى جميع الناس، وأنهم محتاجون إليه كاحتياجهم إلى الحواس الخمس، وأن الله أعطانا هذه الأنانية حفظا لوجودنا، وأنه أعطانا الدين لتنظيم هذه الأنانية، وأن أفكارنا تكون صائبة أو خاطئة، وغامضة أو جلية، على حسب ما تكون أعضاؤنا متينة أو منحلة، وعلى حسب ما نكون هواة، وأننا تابعون تماما للهواء الذي يحيط بنا والأقوات التي نتناولها، وأنه لا تناقض في جميع هذا. وليس الإنسان لغزا كما تصورونه، كيما يجد لذة في حله، ويظهر أن الإنسان في مكانه ضمن الطبيعة، فهو أرقى من الحيوانات التي يشابهها بالأعضاء، وهو دون موجودات أخرى يشابهها بالفكر على ما يحتمل، وهو - لجميع ما نرى - مزيج من الخير والشر ومن اللذة والألم، وهو مجهز بميول كيما يسير وبعقل كيما يسيطر على أفعاله، فلو كان الإنسان كاملا لبدا إلها، وليست هذه المتناقضات - كما تسمونها - غير عناصر ضرورية، تدخل في تركيب الإنسان الذي هو كما يجب أن يكون.» (4)
ولنتتبع حركاتنا، ولنلاحظ أنفسنا، ولنر هل نجد الأوصاف الحية لهاتين الطبيعتين؟
وهل توجد المتناقضات التي هي بهذا المقدار في إنسان بسيط؟
يبلغ هذا الازدواج في الإنسان من الوضوح ما وجد من رأي معه أننا كنا ذوي نفسين؛ وذلك لما لاح لهم من أن الإنسان البسيط قاصر عن مثل هذه المنوعات المفاجئة بهذا المقدار، قاصر عن زهو مفرط في فؤاد واه.
ليست عزائمنا المنوعة متناقضات في الطبيعة مطلقا، وليس الإنسان موجودا بسيطا مطلقا، فهو مؤلف من أعضاء لا حصر لها، فإذا ما فسد أحد هذه الأعضاء قليلا غير جميع انطباعات الدماغ بحكم الضرورة، وكانت للحيوان أفكار جديدة وعزائم جديدة، ومما هو صحيح كثيرا أننا خامدون عن غم تارة منتفخون عن زهو تارة أخرى، وهذا ما يجب أن يكون عند وجودنا في أحوال متباينة، فالحيوان الذي يلمسه صاحبه برفق ويغذيه والحيوان الذي يذبح ببطء ومهارة تشريحا له يشعران بإحساسات مختلفة لا ريب، ولكن ما فينا من فروق هو من القلة ما يكون من المتناقض معه عدم وجوده.
وكان يمكن للمجانين الذين قالوا: إننا كنا ذوي نفسين أن يقدموا إلينا ثلاثين نفسا أو أربعين نفسا لذات السبب؛ وذلك لأن الإنسان الذي يساوره ألم كبير يكون عنده من مختلف الأفكار حيال عين الشيء ما يبلغ ثلاثين أو أربعين في الغالب، وهذا ما يجب أن يكون عنده بحكم الضرورة، وذلك وفق ما يلوح له هذا الشيء على وجوه مختلفة.
وهذا الازدواج المزعوم في الإنسان هو أمر محال بمقدار ما هو خاص بما بعد الطبيعة، وهذا ما يغريني على القول بأن الكلب الذي يعض والذي يلامس برقة هو مضاعف، وأن الدجاجة التي تعنى بصغارها ثم تترك هذه الصغار حتى درجة الإنكار هي مضاعفة، وأن المرأة التي تعرض أشياء مختلفة معا هي مضاعفة، وأن الشجرة التي كانت كاسية تارة وعارية تارة أخرى هي مضاعفة، أجل، إنني أسلم بأن الإنسان مستغلق، ولكن بقية الطبيعة مستغلقة أيضا، فلا توجد تناقضات ظاهرة في الإنسان أكثر مما في جميع البقية. (5)
عدم الرهان على وجود الله يعني رهانا على عدم وجوده، وأي الأمرين تتناول إذن؟ ولنزن الربح والخسر ماثلين إلى اعتقاد وجود الله، فإذا ربحتم ربحتم كل شيء وإذا خسرتم لم تخسروا شيئا؛ ولذا فراهنوا على وجوده من غير تردد، أجل، لا بد من الربح، ولكن قد أربح كثيرا على ما يحتمل، والآن، بما أنه يوجد مثل هذه المخاطرة في الربح والخسر فإنه عندما لا يكون لديكم غير حياتين تكسبونهما في مقابل واحدة، يمكنكم أن تكسبوا أيضا.
Bilinmeyen sayfa