كان من غير المعتاد رؤية أمي في الأسفل عند الحظيرة؛ فهي لم تكن تخرج من المنزل إلا لأداء أمر ما؛ نشر الغسيل أو استخراج ثمار البطاطا من بطن تربة الحديقة. بدت في غير مكانها الصحيح، بساقيها العاريتين المكتنزتين اللتين لم تريا الشمس من قبل، وهي ما تزال مرتدية مريلة المطبخ المبتلة حول بطنها من أثر غسل أطباق طعام العشاء. كان شعرها مربوطا تحت وشاح تنفلت خارجه شعيرات بسيطة. كانت تربط شعرها على هذا النحو في الصباح، قائلة إنها لم يسعها تصفيفه لضيق الوقت، فيظل مربوطا طوال اليوم. كان هذا صحيحا، أيضا، فقد كان الوقت ضيقا بالفعل. في تلك الأيام كان رواقنا الخلفي يعج بأكوام من سلال الدراق والعنب والكمثرى، جرى شراؤها من البلدة، إلى جانب البصل والطماطم والخيار الذي نزرعه في منزلنا، كل ذلك في انتظار أن يتحول إلى جيلي ومربى ومحفوظات أخرى كالمخلل وصوص الفلفل. كانت نار الموقد تظل موقدة طوال النهار، تعلوها أوعية يبقبق فيها الماء المغلي، وفي بعض الأحيان كان الكيس القماشي المستخدم في صنع الجبن يعلق فوق عصا قائمة على كرسيين، وفيه العنب الأزرق يصفي ماءه لنصنع منه الجيلي. كانت تحدد لي مهام معينة، فكنت أجلس إلى الطاولة أقشر ثمار الدراق الذي سبق غمره في الماء الساخن، أو أقطع حبات البصل، فتلتمع عيناي وتدمعان. وبمجرد أن أنتهي من عملي كنت أنطلق إلى خارج المنزل، محاولة أن أختفي من أمام ناظري أمي قبل أن تفكر في المهمة التالية التي ستكلفني بها. كنت أكره المطبخ المعتم الحار في فصل الصيف، والستائر الخضراء والورق الصمغي المخصص لصيد الذباب، والطاولة القديمة المكسوة بالقماش «المزيت» التي لا تتغير، والمرآة المموجة والمشمع ذا الفقاعات. كان التعب والانشغال ينالان من أمي كل منال بحيث لا تقوى على الحديث إلي، ويفتر فؤادها عن أن تحكي لي عن حفل التخرج الراقص الذي أقامته كلية المعلمين. كانت حبات العرق تسيل فوق وجهها، وكانت دائما تحصي عدد الأوعية هامسة وهي تشير إليها بسبابتها، ثم تفرغ بعددها أكوابا من السكر. كنت أرى أن عمل البيت لا ينتهي، كئيب بدرجة استثنائية وممل، وأن العمل خارج المنزل، وفي خدمة أبي، مقدس الأهمية.
وبينما كنت أدفع العربة أمامي وفوقها وعاء المياه متجهة إلى الحظيرة حيث كانت توضع، سمعت أمي تقول: «انتظري ريثما يكبر ليرد قليلا، وعندئذ سيتوفر لك عون حقيقي.»
لم أسمع ما قاله أبي. كنت مسرورة من طريقة وقوفه منصتا، بالاحترام الذي قد ينصت به لبائع أو لشخص غريب، لكن بشيء من الرغبة في متابعة عمله الحقيقي. شعرت أنه لا عمل لأمي في هذا المكان في الأسفل ورغبت أن يراوده نفس الشعور. ماذا كانت تعني بما قالته عن ليرد؟ إن ليرد لم يشكل أدنى عون لأي شخص. أين هو الآن؟ يتأرجح فوق الأرجوحة حتى يصاب بالغثيان، أو يجول في دوائر، أو يحاول التقاط يرقات الفراشات. لم يحدث قط أن مكث معي حتى أفرغ من عملي.
سمعتها تقول: «وحينئذ يمكنني أن أستعين بها أكثر في المنزل.» كانت طريقتها في التحدث عني متناهية الفتور، تنم عن الشعور بالحسرة ودائما تصيبني بالضيق. أضافت قائلة: «لقد انقصم ظهري وهي تعاف شغل المنزل. وكأنني لم أنجب بنتا في هذه الأسرة.»
ذهبت وجلست فوق كيس من أكياس العلف عند زاوية الحظيرة، غير راغبة في الظهور أثناء استمرار هذه المحادثة. كنت أشعر أن أمي ليست أهلا للثقة. كانت أكثر حنانا من أبي ويسهل التحايل عليها، لكن لا يمكن الاعتماد عليها، ولم يكن من الممكن معرفة الأسباب الحقيقية وراء ما تقوله وما تفعله. كانت تحبنا، وتظل حتى وقت متأخر من الليل تحيك لي ثوبا ذا قصة صعبة كنت أرغبه، كي أرتديه عندما يبدأ العام الدراسي، لكنها كانت عدوتي أيضا، كانت تكيد وتتآمر دائما. كانت تتآمر الآن بهدف أن تجعلني أقبع في المنزل لفترة أطول، رغم أنها تعرف أنني أكره ذلك (بل ربما لأنها تعرف أنني أكره ذلك)، وتمنعني من العمل لدى والدي. خطر لي أنها تفعل ذلك لمجرد المعاندة، ولكي تختبر سطوتها. لم يخطر لي أنها ربما كانت تشعر بالوحدة، أو الغيرة. لم أتصور أن يشعر بهذا أي شخص من الكبار، الكبار محظوظون للغاية. جلست أركل كيس العلف بعقبي قدمي في حركة رتيبة، تثير الغبار، ولم أخرج إلا بعد أن ذهبت.
لم أكن أتوقع بأية حال أن يعير أبي أي اهتمام لما قالته. من يتصور أن ليرد يستطيع أن يؤدي عملي؟ هل يستطيع ليرد أن يتذكر وضع القفل أو أن ينظف أوعية السقاية من القاذورات بليفة من السعف مربوطة في نهاية عصا طويلة، أو حتى أن يجر وعاء الماء دون أن يسقطه من فوق العربة؟ بين لي هذا الموقف إلى أي مدى تفتقر أمي أي دراية تذكر بحقيقة الأمور. •••
نسيت أن أخبركم عن طعام الثعالب. ذكرتني به مريلة أبي الملوثة بالدم. كنا نطعم الثعالب لحم الجياد. ففي ذلك الوقت، كان معظم المزارعين لا يزالون يحتفظون بجياد في مزارعهم، وحينما كان يشيخ أي جواد بحيث لا يعود قادرا على العمل، أو تنكسر رجله، أو تتدهور حالته ولا يستعيد عافيته، كما كان يحدث في بعض الأحيان، كان صاحبه يستدعي والدي، فيذهب هو وهنري إلى المزرعة بالشاحنة. كان المعتاد أن يطلقا النار على الجواد ويذبحاه هناك، مقابل مبلغ يدفعانه للمزارع يتراوح بين خمسة دولارات واثني عشر دولارا. لكن عندما يكون لدينا بالفعل كمية كبيرة من اللحم، كانا يأتيان بالجواد حيا، ويستبقيانه لبضعة أيام أو أسابيع في الإسطبل، حتى ينتهي مخزون اللحم الموجود. عقب الحرب، صار الفلاحون يشترون الجرارات الزراعية وبدءوا يستغنون شيئا فشيئا عن الجياد، ومن ثم، كان يحدث في بعض الأحيان أن نحصل على جواد قوي معافى، لا عيب فيه إلا أنه لم تعد هناك حاجة إليه. إذا حدث شيء كهذا في الشتاء، كان من الممكن أن نستبقي الجواد في الإسطبل حتى حلول الربيع؛ لأن العشب يكون موفورا، وإذا سقطت كميات كبيرة من الجليد - لم تكن الجرافة تنجح دائما في إزالة الجليد من طريقنا - كان من الملائم الذهاب إلى البلدة بجواد وزلاجة.
في شتاء العام الذي كنت فيه في الحادية عشرة من عمري كان لدينا جوادان في الإسطبل. لم نكن نعلم اسميهما الأصليين، فأسميناهما ماك وفلورا. كان ماك حصان شغل مسنا، حالك السواد وفاتر الطبع. أما فلورا فكانت فرسا صهباء تستخدم في جر العربات. أخذناهما معا بغرض الذبح. كان ماك بطيئا تسهل السيطرة عليه. أما فلورا فانتابتها نوبات من الذعر العنيف، وراحت تجنح نحو السيارات أو حتى الجياد الأخرى، لكننا أعجبنا بسرعتها وخطواتها الشماء، وما لها من طابع عام يتسم بالنبل والترفع. يوم السبت نزلنا إلى الإسطبل، وما إن فتحنا الباب على عتمته الدافئة العبقة برائحة حيوانية، حتى نفضت فلورا رأسها، وأدارت عينيها، وصهلت في قنوط، وانتابتها حالة عصبية في موضعها. لم يكن من المأمون الدخول إلى حجيرتها، فربما ترفس.
في هذا الشتاء أيضا بدأت أسمع ما هو أكثر بكثير عن الموضوع الذي أثارته أمي حينما كانت تتحدث أمام الحظيرة. لم أعد أشعر بالأمان. كان يبدو أن في عقول كل الأشخاص من حولي تيارا ثابتا من الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع، والتي لا سبيل لإثنائهم عنها. كانت كلمة «بنت» تبدو لي من قبل بريئة خالية من أي مدلول، ككلمة «طفل»؛ لكن الآن تبين لي أنها ليست كذلك. لم تكن صفة «بنت» تنطبق على الحال التي كنت عليها، كما كنت أعتقد، وإنما على الحال التي يجب أن أصبح عليها. كانت تعريفا، دائما تقال بنبرة مؤكدة تنضح بالتوبيخ وخيبة الأمل. كانت أيضا أداة للاستهزاء بي. فقد حدث ذات مرة أن كنا نتعارك أنا وليرد، حينئذ اضطررت لأول مرة على الإطلاق أن أستجمع كل ما أملك من قوة كي أواجهه، ومع ذلك، قبض على ذراعي وشل حركتها لوهلة، شعرت فيها بألم حقيقي. كان هنري يراقب ما يحدث، فضحك قائلا: «أوه ، ها هو ليرد سيريك، يا له من يوم!» كان ليرد يزداد كبرا في الحجم. لكنني كنت أكبر أيضا.
جاءت جدتي لتمكث معنا لبضعة أسابيع، فسمعت أشياء أخرى. «البنت لا ينبغي لها أن تصفق الباب هكذا.» «البنت ينبغي أن تضم ركبتيها معا عندما تجلس.» كان هناك ما هو أسوأ، كنت حينما أطرح بعض الأسئلة يقال لي: «هذا أمر لا شأن للبنات به.» ظللت أصفق الأبواب وأجلس بأخرق طريقة ممكنة، ظنا مني أنني سأستطيع من خلال هذه التصرفات أن أحافظ على حريتي.
Bilinmeyen sayfa