الوقت منتصف النهار، هو مرهق، عطشان، جوعان، يمضي إلى الأمام، لن يشرب، لو قليلا من الماء؛ لأن التجربة علمته أن شرب الماء على الجوع يصيبه بالتواء في أمعائه، حدث له ذلك عدة مرات.
الماء موجود في الأمكنة حوله، ولو أن المطر قل هطوله في الأيام الثلاثة الأخيرة، برك الماء لم تجف، الخويرات الصغيرة ما زالت تحتضن بعضا من الماء، تجري الخويرات عند هطول المطر تجاه بحيرة التماسيح، وهي بحيرة صغيرة غير موضحة في الأطلس لا يعرفها الجغرافيون، لكن الخريطة التفصيلية للمنطقة المقفولة التي سرقها من دار الوثائق القومية تبين البحيرة، تعطي أدق التفاصيل عنها؛ عمقها، مساحتها، العدد التقريبي للتماسيح التي تسكنها، أصلها، فصلها. التماسيح هي ما يميز هذه البحيرة عن غيرها، التماسيح الأكثر شراسة في القارة كلها، آكلة لحوم البشر، تسببت هذه التماسيح قبل عشرين عاما في إبادة قرية بأكملها حينما زحفت في جماعات جائعة نحو القرية تختطف الأطفال، والنساء، والشباب أيضا، تسعة وتسعون تمساحا.
كان هذا سببا ذكرته الحكومة المركزية في الشرق في تعليلها لنقل مائة قرية من الدغل الشمالي والأوسط تخوم المدن الحضرية في الشرق. لو أن الهدف الأساسي من الترحيل بالتأكيد لم تقله الحكومة وتتهم كل من يشير إليه بالتحريض وإثارة الفتن وموالاة الدول المعادية بل الخيانة العظمى، كان سبب الترحيل يتمحور حول مسح الدغليين، تضييع هويتهم الثقافية والعرقية ودمجهم في ثقافة الأغلبية الحاكمة في الشرق، بل كما يؤكد بعض الدغليين الذين نالوا قدرا من الثقافة تجنيدهم لحماية ثقافة الشرقيين وتبنيها والدفاع عنها ومحاربة ثقافتهم الخاصة، بدعوى أنها ثقافة وثنية قديمة بائدة، ما برم بجيل غير صنم شيده الشيطان على شط النهر العجوز، غير أن كثيرا من القبائل قاومت الترحيل واعتصمت بالدغل والأحراش.
يحمل على ظهره سريره الجوال، ناموسيته وبعض الملابس، بعض الأطعمة المعلبة والمجففة، زودته به أمه ، أمه التومة، اسمها قبل التهجير أنجو دورنا، هاجرت وهي صغيرة مع أسرتها من أواسط الدغل الأوسط، الآن تنكر أصولها، جدتها كما هو مؤكد لكبار المهجرين من قبيلة الكا، يحمل ضمن أمتعته كاميرا كوداك حديثة، غالية الثمن، لديها قدرة على التقاط صور الأشياء وتسجيل أصواتها من على بعد سحيق، تستطيع العمل في كل الظروف؛ تحت الماء، عند العاصفة، تحت درجة حرارة عالية، عند درجة رطوبة عالية، بالليل، بالنهار، تعمل وحدها ببرمجة بسيطة سهلة.
تستطيع أيضا.
كانت خفيفة الوزن صغيرة الحجم، إذا أضيف إلى الحمل سلاحه الشخصي وهو مسدس صغير ماركة النجمة، سيزن الحمل ثلاثين كيلو جراما فقط، أي نصف وزنه هو بالتمام، حدد هذا الوزن سابقا بصورة علمية مدروسة، أخذت في الاعتبار المسافة، نوعية التربة، وعورة المسالك، حالة الطقس.
فوق ذلك كله وزنه الشخصي واعتبارات الضرورة.
هو رجل شجاع ثري جدا من أسرة متجذرة في المال، متجذرة في الترحال والمغامرة، يكفي أن جده الأكبر تيه تيه أكله دب في أحراش التبت، كيف؟!
لا أحد ...
كان يمشي متوغلا في أحراش الغابة، عبر تربتها الصخرية الحمراء على أشواك السنت، النخيل المتسلق، أشواك الأيفوربيا المتوحشة، حذاؤه الكولمان الجيد سيقيه لدغات الثعابين السامة والعناكب والقراد وأيضا السحالي؛ ذات الحذاء الذي سيخوض به برك الماء الراكدة، حقول الطين الحمراء، سيجد نفسه في مواجهة أرض فضاء شاسعة، ذلك لأول مرة منذ أن أطلق ساقيه للمسافة. عندما تسلق ضفة الخور الترابية العالية، رأى على البعد مبنى تحيط به أشجار عالية خضراء، جلس على حجر، أخذ يتفحص تفاصيل الخريطة، هي تشمل أدق خصائص المكان؛ علاماته، قناطير التراب، ضفة الخور العالية، وقف عليها قبل قليل، وجد المبنى، كتب في تفسيره: مستر ومسز جيني، البدائيان.
Bilinmeyen sayfa