بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
الحمد لله الذي لا معقّب لحُكمه ولا رادّ لقضائه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، شهادةً أعدها ليوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم أنبيائه، وعلى آله وصَحبه وخلاصة أصفيائه.
أما بعد، فقد وقفت على رَجَز في ذكر مَن ولى القضاء بالديار المصرية، من نَظم الأديب المشهور، شمس الدين محمد بن دانيال الكحّال، نظمه لقاضي القُضاة بدر الدين أبي عبد الله محمد إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة. سُئلتُ أن أُترجم لمن تَضمنه الرجز المذكور، فأجبت إلى ذلك، وجعلتُهم طبقاتٍ على السنين، منذ فُتحت مصر إلى آخر المائة الثامنة، وذكرت في ترجمة كل واحد منهم ما وقفت عليه، من اسمه ونسْبته ومُنتهى غاية نَسبه، إن احتيج إلى ذلك، وذكر مولده وحاله ومذهبه ونِحْلَتِه، والوقت الذي ولي فيه، والوقت الذي صُرف فيه، والوقت الذي مات فيه، بحسب ما أتصل إلى علمي من ذلك.
اعتمدت في الأول على أخبار القضاة لأبي عُمر الكِنْدي ثم على ذَيله لصاحبه أبي محمد ابن زولاق، ثم على كتاب ابن مُيسِّر، ثم على أخبار مصر لشيخ شيوخنا الحافظ قُطب الدِّين الحلبي، وهو في نحو عشرين مجلدة بيّض منه (المحمدين) في أربعة، واستفدت كثيرًا من ذلك من تاريخ رفيقي الإمام الأوحد المُطلع تَقّي الدين أبي محمد أحمد بن علي بن عبد القادر التميمي. وقد جمع شيخنا العلامة، ذو التصانيف الواسعة، سراج الدين ابن المُلقَّن شيئًا من ذلك، وقفت عليه، فلم يشفِ لي غليلًا.
أنبأنا الحافظ أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سُليمان مُشافهةً عن أبي عمرَ بن أبي عبد الله بن أبي إسحاق الكناني، قال: أنشدنا ابن دانيال لنفسه:
1 / 3
يقول راجي كَرمِ الله العَلِي ... محمدُ بن دانِيَال المَوْصلٍي
من بَعد حَمْدٍ للعلِّي الحاكم ... غامِرنا بالجُودِ والمَراحم
ثم الصلاةُ بعد تَرتيل اسمه ... على النَّبي الهادي أمين حُكمه
وآله وصَحبه العُدول ... شُهودِ حُجَّة الرِّضَى الرَّسول
فإنني ضَمَّنتُ هذا الشعرَا ... أنباء كُل من تولَّى مِصْرا
من سائر القُضاة والحُكَّام ... مذ ملكتْها دولةُ الإسلام
من لدُنِ ابن العاص أغنى عَمْرَا ... من فَتحْها ثم هلُمَّ جرَّا
لكنِّني اخترتُ الكلام الرَّجَزا ... في حَصرهم إذ كان لفظًا مُوجزا
ليَغْتدي عِقدًا من اللآلئ ... يُنْفِسه ذِكْرُ الجَناب العالي
العالمي العامِلي الأوحدى ... بَدْر التَّمام ذي السَّنا محمد
أَعني الكِنَانِيَّ ابن إبراهيما ... السيدَ المُفضَّلَ الكريما
فتى القُضاة وإمام العَصر ... مُفتي الفريقَيْن بأرض مِصر
نظمتُها وسيلةً إليه ... مُعتمدًا دون الورَى عليه
لا زال سِترًا مُسبَلًا علينا ... يَبعثُ فَضل رِفْده إلينا
وها أنا بذكر ذاك مُبتدي ... بحمد ذي الحَمد البديع الصَّمد
أولُ مَن وَلى القَضا للحُكم ... قيسٌ فتَى عديٍّ ابن سَهْم
وآل بعده لكَعبِ عَبْسِ ... ثم لعُثمان بغَير لَبْس
ثم وَلِى سُلّيم نَجْل عِتْر ... وبعده السّائب نجلُ عَمرو
ثم وَلِيه عابسُ المُرادِي ... وبعده ابنُ النَّضر في البلاد
1 / 4
وآل بعده لعبد الرحمن ... ثم إلى مالك نَجل خَولان
ويونس من بعده ولي القضا ... ثم ولي أوس بعزم يُنتضى
ثم تولى الحكم عبد الرحمن ... ثم ولِيَه بعد ذاك عِمران
وبعده صار لعَبد الأعلى ... وابن حديج ذي الفخار الأعلى
ثم لعبد الله ذاك القاضي ... أتى ومن بعدُ إلى عياض
وعاد للقضا بحكم ثاني ... نجل حُجيرة الفتى الخَوْلاني
ثم إلى عياض آل ثانية ... ثم لعبد الله غير وانية
والحضرمي ثم للخيار ... ثم يزيد جاء في الآثار
وآل بعد توبة وخير ... إلى ابن سالم بكل خير
هذا وفي عصر بني العباس ... عاد ابن نعيم ثابت الأساس
1 / 5
وعاد غوث بعد ذاك يحكمُ ... ثم ولى يزيد بعد فاعلموا
وعاد غَوث بعد إبراهيما ... والحضرمي بعده مأموما
ثم لإسماعيل نجل اليَسَع ... ثم تلاه غوث خير تبع
وبعد هذا ولى المُفضَّل ... ثم أبو الطاهر ذاك الأفضل
ثم وليها بعده التجيبي ... والعُمَرِيّ، أيما نَجيب
وبعده البكري وابن البَكّا ... ثم ابن عيسى وهو أزكى نسكا
والأسلمي حاكم الشريعة ... ثم ابنُ عيسى واسمه لَهيعة
ثم لإبراهيم نجل القاري ... ثم لإبراهيم ذي الفخار
ثم لعيسى آلت الأحكام ... وبعده هارون الإمام
ثم ولى الأحكام نجل شداد ... وبعده الحارث خير من جاد
وبعدها ولي دحيم الأنصار ... وصار بها قاضي القضاة بكّار
1 / 6
محمد بن عبدة تولى ... ثم أبو زرعة لما ولَّى
ثم ابن عبدة تولى الحكما ... وكان فيه بالمحل الأسمى
ثم ابن حرب وأبو الذكر حكم ... قبل الكُريزي زمانا في الأمم
والجوهري وهو نعم القاضي ... ومن به قد وقع التراضي
وبعده أحمد وابن أحمدا ... وأحمد ثانية فيها اغتدى
وصرفوه بابن زَبْر فقضى ... من قبل إسماعيل فيما قد مضى
ثم ابن مسلم ونجل حماد ... والسرخسي والصيرفي بإِسناد
وبعد عبد الله نجل زبر ... ولى أبو بكر جميع الأمر
ثم ابن أبي زرعة ونجل بدر ... من قبل عبد الله نجل زبر
ثم ابن بدر بعد عبد الله ... أمسى عليها آمرا وناهي
1 / 7
ثم أبو الذكر تولى والحسن ... وبعده الكشى في ذاك الزمن
ثم تولى حكمها ابن الحداد ... وبعده ابن أخت وليد قد عاد
وبعد ذاك ولد الخطيب ... ولي القضا وولد الخصيب
وبعده محمد قد حكما ... ثم أبو الطاهر فيما علما
وبعد ذاك ولد النعمان ... ونجله في ذلك الزمان
ثم ابنه وصِنوه الحسين ... ولم يشنه في القضاء شَيْن
وبعد ذاك مالك تولى ... ثم أبو العباس فيما يتلى
وقاسم ثم أبو الفتح ولي ... وهو بغير قاسم لم يعزل
وصرفوه بأبي محمد ... قبل أبي علي المسدد
1 / 8
ثم ابن وهب جاءها في الأثر ... ونالها من قبل نجل زكري
ثم أعيد أحمد للحكم ... ثم ابن وهب فاستمع لنظمى
ثم ولي الحكم ابن عبد الحاكم ... ثم أعيد بعده للقاسم
ثم لعبد الحاكم الإمامي ... وقاسم وجه بالأحكام
وبعده ولي القضا نجل أسد ... وبعده أحمد ذو الحكم الأسد
ثم أُعيد ابن أبي كدينه ... لما ارتَضوا سِيرته ودِينه
ثم علىِّ بعده الميسر ... ثم الرصافي الجميل الذكر
وبعده ولي القضا ابن وهب ... وابن أبي كدينة ذو اللُّب
وبعده المليجي في المدينة ... ولي القضا وابن أبي كدينه
1 / 9
ثم وليه بعده اليازوري ... وابن كدينة بغير زور
وبعده العرقي والقضاعي ... ولي القضا حقًا بلا نزاع
ثم جلال الدولة أبو القاسم ... عاد وولَّى وهو غير حاكم
وبعده نجل نباته ولي ... وولد الكحال ذو التفضل
وبعده المليجي والمكرمي ... ثم أبو الطاهر ذو التكرم
وبعده ولي القضا نجل ذكا ... وبعده الحسين وهو ذو ذكا
ثم ابن بدر وأبو الفضل قضى ... قبل الصقلي وأبو الفضل الرضا
وبعده ابن ظافر تولّى ... ثم الحسين ذو المقام الأعلى
ثم أبو الفتح ويوسف ولي ... وكان كل ذا محل أفضل
1 / 10
ثم وليه ولد الميسر ... أغنى سناء الملك رب المفخر
ثم أبو الفخر ونجل جعفرا ... ثم محمد ولي بلا مرا
وبعد هذا ولي الرعيني ... ثم سَنا الملك بغير مَيْن
وبعده نجل عقيل لم يزل ... وابن حسين صار حاكم العمل
وابن سلامة ونجل المقدسي ... فكان فيها ذا محل أنفس
ثم الأعز وأبو الفتح ولي ... وبعده أعيد نجل كامل
وبعد ذاك في زمان الغُزّ ... ذوي الفخار والعلا والعز
وَلِيه عبد الملك بن عيسى ... قبل على الفتى الرئِيسا
ثم ابن عصرون تولى الحكما ... وعاد صدر الدين وهو الأَسْمَى
1 / 11
والسكري وأبو محمد ... قبل ابن عين الدولة الممجد
ثم وليه يوسف السنجاري ... وجاء عز الدين في الآثار
وبعده موهوب أعنى الجزري ... والخونجي ثم العماد الحموي
ثم أعيد يوسف السنجاري ... ثم تلاه التاج ذو الفَخَار
وولى البرهان أعنى الخضرا ... وعاد تاج الدين فيما غبرا
ثم ولى الأحكام محيى الدين ... وابن رزين ذو الحِجَا الرَّزين
وبعد عزله تولاه عُمر ... أعنى العلامى وبالعدل أمَرْ
ثم أعيد ابن رَزين فحكم ... من بعد صدر الدين عدلا في الأمم
ثم الوجيه البَهنسي للقَضا ... عُيّن من بعد التقى إذا قضَى
1 / 12
وعندما استعفى لبعده القاهرة ... عن مصر خص بها أوامره
ثم الشّهاب رفعوا محله ... واستحضروه من قضا المحله
ولم يزل حتى تَوفاه الرًّدَى ... وولى الشام الفتَى ابن أحمدَا
ثم ولي القضا التقى بن خلف ... بعد الوجيه والشهاب المنصرف
وعزلوه عن قضاء القاهرة ... ثم وَلِيَه سيد السناجره
ثم ولي التقي عبد الرحمن ... وابن بدر الدين لما بان
وعاد بدر الدين للشام ... ثم ولي الحكم الفتى العلامي
1 / 13
ولم يزل حتى توفاه القَضَا ... ثم ولي التقي أبو الفتح الرضا
وإذ أتاه نازل الحِمَام ... عاد إليها البدر في التَّمام
بدر منير كامل الأوصاف ... ذو المنهل العذْب النَّمِير الصافي
قاضي القضاة حاكم الحكام ... واسطة العقود في النظام
لا برحت نافذة أحكامه ... وخلدت زاهرة أيامه
ما لاح بدر كامل الإِبْدار ... وما انجلَى الهلال من سِرَار
والحمدُ لله على إنعامه ... وفضل ما سدد من أَحكامه
وأفضل الصلاةِ والسلامِ ... على النبي سيد الأنَام
وآله وصَحْبه وعِتْرته ... وكل من أخلص في مَحبته
آخرها وقد ذيَّل عليها بعضُ أصحابنا إلى عصرنا، فسرد الشافعية على منوال ابن دَانيال، ثم سرد القضاة الثلاثة مذهبًا بعد مذهب إلى عصرنا، وهذا صورة ما نظم: أنشدنا العز أحمد بنُ إبراهيم العسقلاني لنفسه مُكاتبة، قال:
والزرعي والبدر والقزويني ... والعز والبها وعز الدين
أبو البقا البرهان ثم البدر ... وعاد برهان لها وبدر
1 / 14
وبعده ابن الميلق المناوي ... والبدر والعماد والمناوي
وبعد هذا البدر والمناوي ... ثم الزبيري مع المناوي
والصالحي مع جلال الدين ... والصالحي ثم شمس الدين
ثم جلال الدين والإخنائي ... ثم جلال الدين والإخنائي
ثم جلال الدين ثم الشمس ... ثم جلال الدين ثم الشمس
ثم الجلالي ولي الدين ... والعلمي مع شهاب الدين
1 / 15
والهروي مع شهاب الدين ... والعلمي مع شهاب الدين
عين الوجود ثم رأس المحتفي ... ومن به منصبه تشرفا
كما قلد الأعناق منَّا منه ... مواسي القلب الضعيف منه
وأوصل الإِجداء في الإجْدَاب ... واستَعمل الإعْضَاء في الإَغْضاب
دام عُلاه في سما السعود ... ما أمطرت بَوَارق الرُّعُود
1 / 16
قضاة الحنفية
وابن أبي العز معز الدين ... ثم السروجي حُسام الدين
ثم السروجي مع الحريري ... ثم ابن عبد الحق ثم الغوري
والزين والعَلا جمال الدين ... كذلك الهندي صدر الدين
والنجم والصدر كذا ابن منصور ... والجار والصدر هو ابن منصور
1 / 17
والشمس والمجد كذاك العجمي ... والشمس ثم الملطي فاعلمِ
ثم أمين الدين والعديمي ... ونجله الأمين والعديمي
والأدمى وابن العديم فاعلم ... والمقدسي وبالتفهني اختمِ
عينيُّهم ثم التفهني يا فتى ... عينيهم والسعد بعده أتى
1 / 18
قضاة المالكية
والحسنى وابن شكر وابن شأس ... ثم ابن شكر قد تلاه ابن شأس
ثم ابن مخلوف تقي تاج ... ثم السخاوي تلاه التاج
وبعده البرهان بدر وعلم ... أعنى البساطي وبدر وعلم
ثم ابن خلدون مع ابن خير ... بهرام ثم العدني النحريري
والتنسي وابن خلدون ولي ... وابن الجَلال والجمال قد ولي
1 / 19
ثم ابن خلدون مع البساطي ... ثم ابن خلدون مع البساطي
ثم ابن خلدون مع البساطي ... والتنسي هكذا البساطي
ثم ابن خلدون جمال الدين ... ثم البساطي شمس الدين
ثم البساطي المدني الأموي ... ثم الجمال والبساطي المحتوى
1 / 20
قضاة الحنابلة
وابن العماد وقد تلاه ابن عوض ... بعد الغني والحارثي وابن عوض
ثم موفق الدين تلاه الناصر ... ثم ابنه ثم أخوه الآخر
وبعده الحكري والموفق ... سالم ثم ابن مغلي يلحق
ثم محب ثم عز والمحب ... والبدر والناظم نال ما يحب
1 / 21
القضاة على ترتيب المعجم
حرف الألف
ذكر مَن اسمه إبراهيم
إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عَمرو بن حبيب بن سعد بن حبيب بن كليب بن شجنه بن غالب ابن عائذ بن يَيْثَع بن مُليح بن الهوُن بن خزيمة القاريِّ، بتشديد المثناة من تحت. نسبة إلى القارَة القبيلة المعروفة، وهم حلفاء بني زُهرة، ولذلك يقال له الزهري. مصري من أهل المائة الثالثة، كان ممن أخذ عن مالك واللّيث وابن لَهِيعة. روى عنه عثمان بن صالح وسعيد بن كثير بن عُفَير وغيرهما.
قال أبو عمر الكندي: لما مات لَهيعة بن عيسى في ذي القعدة سنة أربع ومائتين، ولاَّه السري بن الحَكَم أميرُ مصر القضاءَ لعشر بقين من ذي القعدة، وجمع له القضاء والقصص.
وذكره ابن يونس في تاريخه فقال: كان صالحًا صَدوقًا، متشددًا، أغل للسّرى في القول، وقال له: تحدّون الزاني وأنتم تزنون! وتقطعون السارق وأنتم تسرقون! وتجلدون في الخمر وأنتم تشربون؟ فلم يزل يرفق به حتى وُلّى. وشدد على الناس وصمم في الحق، فاختصم إليه رجلان في شيء، فأمر بالكتابة على أحدهما بإِنقاذ الحكم، فتشفع المحكوم عليه بابن أبي عون إلى الأمير السري بن الحكم، فأرسل إليه السرى أن يتوقف عن الحكم إلى أن يصطلحا، فإن لم يصطلحا أنفذ الحكم. فجلس إبراهيم في منزله، وامتنع عن القضاء، فركب إليه السرى وسأله الرجوع، فقال لا أعود إلى ذلك المجلس أبدًا، ليس في الحكم شفاعة. فلما
صمم على الامتناع، ولي السرى إبراهيمَ بن الجراح، وذلك في جمادى الأولى سنة خمس ومائتين.
1 / 22