فعطف صاحبه رأسه نحو النهر، فرأى سفينة عجيبة، لا بالكبيرة ولا بالصغيرة، خضراء اللون كأنها جزيرة معشوشبة تطفو على سطح الماء، تبدو مقصورتها على البعد متعالية، وإن قصرت العين عن رؤية ما بداخلها، ولاح في أعلى صاريها شراع متموج عظيم، وانتظمت جانبيها حركة مجاديف بديعة تنبعث من مئات الأيدي .. فاستولت الحيرة على الرجل، وقال: عسى أن تكون لموسر من أهل بيجة.
وأصغى إلى حوارهما رجل قريب، فحدجهما بنظرة إنكار، وقال لهما: أراهن أيها السيدان أنكما ضيفان.
فضحك الرجلان معا. وقال ثانيهما: صدقت يا سيدي المحترم؛ فنحن من طيبة واثنان من الآلاف التي ناداها العيد المجيد فلبت هارعة إلى العاصمة من جميع البلدان .. هل تكون هذه السفينة الجميلة لكبير من رجالكم البارزين؟
فابتسم الرجل ابتسامة غامضة، وقال وهو يشير لهما بإصبعه محذرا: طبتما نفسا أيها السيدان الكريمان، ليست هذه السفينة لرجل من رجالنا، ولكنها امرأة .. أجل هي سفينة غانية حسناء يعرفها حق المعرفة جميع أهل آبو وجزيرتيها بيجة وبيلاق. - ومن عسى أن تكون هذه الحسناء؟ - رادوبيس .. رادوبيس الفاتنة، ملكة النفوس والأهواء جميعا.
وأشار الرجل بيده نحو جزيرة بيجة، واستدرك: وهي تقيم هناك في قصرها الأبيض الساحر .. هدف العشاق والمعجبين، حيث يستبقون إلى نيل عطفها، واستدرار رحمتها .. وعسى أن يسعفكم الحظ برؤيتها، صانت الأرباب قلبيكما عن التلف.
واتجهت أنظار الرجلين وسواهما من الواقفين إلى السفينة مرة أخرى، وقد بدا على الوجوه الاهتمام الشديد. وكانت السفينة تدنو من الشاطئ، رويدا رويدا، والزوارق توسع لها طريقها على عجل، وكلما عبرت ذراعا اختفت شيئا فشيئا وراء الهضبة المقام عليها معبد النيل، ومضى يغيب عن الأبصار مقدمها ثم مقصورتها، فلما أن اطمأنت إلى المرفأ لم يكن يرى منها سوى أعلى صاريها وقمة شراعها المتموج، كأنه علم الحب يظل القلوب والنفوس.
ومضت فترة وجيزة، ثم رئي أربعة من النوبيين قادمين من الشاطئ يوسعون في البحر المتلاطم طريقا، يسير في أثرهم أربعة آخرون يحملون على الأكتاف هودجا جميلا فاخرا، لا يحوزه إلا الأمراء والنبلاء، جلست فيه غادة حسناء، تستند في طراءة إلى وسادة، وتتكئ على نمرقة، بساعد بض، وتمسك في يمناها بمروحة من ريش النعام، تلوح في عينيها الجميلتين نظرة ناعسة حالمة، تصوبها إلى الأفق البعيد في كبرياء سامية، تقتحم الخلق أجمعين.
وكان الركب الصغير يسير على مهل، ترمقه العيون من كل صوب، حتى بلغ الصف الأول من المشاهدين، وهناك مالت المرأة إلى الأمام قليلا بجيد كالغزال، ونثرت من فمها الوردي كلمات تاقت نفوس إلى سماعها، فتوقف العبيد عن السير، ولزموا أماكنهم كأنهم تماثيل من البرنز، وارتدت المرأة إلى جلستها الأولى، واستغرقت فيما كانت فيه من الأحلام، ولبثت تنتظر الموكب الفرعوني الذي لا شك جاءت لمشاهدته.
وكان ما يرى منها نصفها الأعلى، فاستطاع المجدودون أن يشاهدوا شعرها الأسود الحالك السواد، ينتظم على رأسها الصغير في أسلاك من الحرير اللامع، ويهبط على كتفيها في هالة من الليل كأنه تاج إلهي، ينبلج في وسطه وجه مشرق مستدير، عانقت فيه أشعة خدين كالورد اليانع، وفما رقيقا مفترا كأنه زهرة من الياسمين في الشمس في خاتم من القرنفل، وعينين دعجاوين صافيتين ناعستين، تلوح فيهما نظرة يعرفها الحب معرفة المخلوق لخالقه، فما رئي وجه قبل هذا اختاره الجمال سكنا ومسقرا.
وقد فتن الناس منظرها كافة، وحرك قلوب الشيوخ الفانية، فصوبت إليها من جميع الجهات نظرات نارية، لو عثرت في طريقها بصوان لأذابته، ورمقتها أعين النساء شزرا ومقتا، وسرى الهمس بين المحيطين بها، وانتقل الحوار من فم إلى فم. - يا لها من امرأة فاتنة! - رادوبيس .. يسمونها ربة الجزيرة! - هذا جمال قهار، لا يمكن أن يعصاه قلب. - هو اليأس لمن يرى. - صدقت، فما وقعت عليها عيناي حتى قامت في نفسي ثورة جامحة، ونؤت بأعباء ظلم فادح، وأحسست بتمرد شيطاني، وصدت نفسي عما بين يدي، وغلبني على أمري الخذلان والخزي الأبدي. - هذا أمر محزن .. لكأني بها صورة للسعادة حقيقة بالعبادة. - هي شر وبيل! - نحن أضعف من أن نحتمل مثل هذا الحسن القاهر. - ألا رحمة للعاشقين! - ألا تعلم أن عشاقها هم صفوة رجال المملكة؟ - حقا؟ - إن حبها فرض على علية القوم، كأنه واجب وطني. - لقد شيد المعمار النابغة هني قصرها الأبيض. - وأثثه بآيات منف وطيبة آني حاكم جزيرة بيجة. - مرحى .. مرحى! - وصنع تماثيله، ونحت جدرانه، المثال النابغة هنفر. - نعم، وأهدى تحفه الثمينة القائد طاهو، رئيس الحرس الفرعوني. - إذا كان جميع هؤلاء يتنافسون في حبها فمن السعيد الذي تستخلصه لنفسها؟ - سل عن السعيد في هذه المدينة الشقية. - لا أظن أن هذه المرأة تعشق أبدا. - من أدراك؟ .. عسى أن تعشق عبدا أو حيوانا. - كلا .. إن جمالها هو القوة الجبارة .. وما حاجة القوة إلى الحب؟ - انظر إلى نظرة عينيها الرفيعة القاسية .. إنها لم تذق الحب بعد.
Bilinmeyen sayfa