70

وتنهدت رادوبيس من قلب مقروح، وقالت لنفسها: وا أسفاه! إني أتناسى العالم، ولكنه يأبى أن ينساني أو أن يدعني في طمأنينة بعد أن تطهرت من الماضي وأوشابه .. رباه! .. أحقا أن الكهنة يتهمون قصرها بابتلاع أموالهم المغتصبة؟ .. أحقا أنهم يسلقون حبها بألسنة من لهب؟ لقد انكمشت في قصرها راضية، وانقطعت صلاتها بالناس جميعا. وغاب عنها وجه الدنيا، فلم يدر لها بحسبان أن يجري اسمها بالسخط على ألسنة قوم أشداء، وأن يتخذوا منها سلما يرتقون عليه إلى لمز حبيبها المعبود، وهي ما تظن أن الملكة تبالغ، وإن تنوعت الدوافع التي تسوقها إلى الكلام؛ فقد ترامى إليها في زمن مضى أن الكهنة يشفقون من استرداد فرعون لأراضيهم، وقد سمعت بأذنيها في عيد النيل قوما من أولئك المشفقين يهتفون باسم خنوم حتب، فلا شك أن وراء العالم الهادئ الجميل الذي تعيش فيه عالما صاخبا تغلي مراجله بالأحزان والأحقاد .. وتكدرت نفسها بعد صفاء دام أشهرا طوالا لم تذق مثلها في حياتها جميعا، وأحست بأضلعها تحنو على حبيبها وتدر عطفا وحبا، وذكرت في غمرات حزنها الطارئ ما قال آني يوما من أن الحرس الفرعوني هو القوة الوحيدة التي يعتد بها الملك، فتساءلت في هلع: لماذا لا تجند الجنود؟ لماذا لا يعبئ معبودها جيشا عرمرما؟

وقضت سحابة نهارها في مخدعها كئيبة، ولم تذهب كعادتها إلى الحجرة الصيفية لتجلس أمام المثال بنامون؛ لأنها لم تكن تطيق الاجتماع بإنسان، ولا القعود بلا حراك أمام عيني الشاب المنهومتين .. فلبثت وحدها حتى الأصيل، ولم تذق للراحة طعما حتى رأت حبيبها المعبود يلج باب مخدعها، يرفل في ثيابه الفضفاضة، فتنهدت من أعماق قلبها، وفتحت له ذراعيها وضمها إلى صدره العريض كما يفعل كل مرة، وطبع على وجهها قبلة اللقاء السعيد، ثم جلس إلى جانبها على الديوان الوثير، وكانت نفسه تفيض بذكريات جميلة أثارها في قلبه مشهد النيل الذي حمل سفينته منذ حين قليل، فقال لها: أين الصيف الجميل؟ .. أين لياليه الساهرة؛ إذ تشق بنا السفينة جبهته المتجمدة الدكناء، وإذ نسلم في المقصورة أنفسنا للنسيم والهوى، ونستمع لعزف العازفات، ونشاهد بأعين حالمة رقص الراقصات؟

ولم تكن تستطيع أن تجاريه في تذكره، ولكنها لم ترض أن يحس بالعزلة في عاطفة أو فكر، فقالت: مهلا يا حبيبي، ليس الجمال في الصيف ولا في الشتاء، ولكنه في حبنا، وستجد الشتاء دفئا حنونا ما دام وقوده.

فضحك ضحكته العظيمة التي يضطرب لها وجهه وجسمه، وقال: ما أجمل حديثك! .. إنه أشهى إلى قلبي من مجد الدنيا جميعا .. ولكن ماذا تقولين في الصيد والقنص؟ .. سنذهب مع الغد إلى سفح الجبل، ونعدو في أعقاب الغزلان، ونلهو حتى نشبع نفوسنا المنهومة.

فقالت وقد غلبها الشرود: لتكن مشيئتك يا حبيبي.

فحدجها بنظرة فاحصة، وأدرك لتوه أن لسانها يحادثه وقلبها يتيه بعيدا، فقال: رادوبيس .. أقسم لك بالنسر الذي ألف بين قلبينا أن فكرا يسلبني اليوم عقلك.

فنظرت إليه بعنين حزينتين وأعياها القول، فقال وقد بدا عليه الاهتمام: صدق حدسي فعيناك لا تكذباني، ولكن ماذا تمسكين عني؟

فتنهدت من أعماق قلبها، وعبثت يمناها بعباءته وهي لا تدري، ثم قالت بصوت خافت: إني أعجب لحياتنا؛ فلشد ما ننسى ما حولنا كأننا نعيش في عالم قفر غير معمور. - نعم ما نصنع يا حبيبتي! فماذا أفدنا من العالم غير الضجيج الفارغ والمجد الكاذب، ولبثنا ضالين حتى هدانا الحب، فما لك تتذمرين؟

فتنهدت مرة أخرى وقالت بحزن: ماذا ينفعنا النوم إذا كان من حولنا أيقاظا لا يغمض لهم جفن؟

وقطب جبينه، والتمعت عيناه بنور خاطف، وأدرك بقلبه وساوسها، فسألها بقلق: ما الذي يحزنك يا رادوبيس؟ .. صارحيني بأفكارك؛ فحسبنا ما أضعنا في غير حديث الحب.

Bilinmeyen sayfa