وهوى بفمه فقبل رأسها، والتفت إلى تمثالي والديه، وانحنى لهما، ثم ذهب.
ووجد سوفخاتب ينتظر في الردهة الخارجية، جامدا كتمثال أخنى عليه القدم؛ فلما رأى مولاه دبت فيه الحياة وتبعه في سكون، وفسر خروجه على هواه، فقال: سيبث ظهور مولاي روح الحماس في قلوبهم الباسلة.
فلم يجبه الملك. وهبطا الأدراج معا إلى ممر الأعمدة الطويل الذي يصل ما بين الحديقة والفناء، وأرسل في طلب طاهو، وانتظر صامتا. وفي تلك اللحظة نزعت نفسه إلى الناحية الجنوبية الشرقية، إلى بيجة .. وتنهد من أعماق قلبه، لقد ودع كل شيء إلا أحب الأشياء إليه، فهل تحم النهاية قبل أن يلقي نظرة على وجه رادوبيس ويسمع صوتها لآخر مرة؟ .. وأحس قلبه بحنين أليم وحزن شديد، وصحا من غفوة همومه على صوت طاهو يحييه، فاندفع بقوة لا تقهر إلى سؤاله عن طريق بيجة قائلا: هل النيل آمن؟
فأجابه القائد قائلا، وكان ممتقع الوجه شديد الشحوب: كلا يا مولاي. لقد حاولوا أن يهاجمونا من الخلف بالقوارب المسلحة، ولكن أسطولنا الصغير ردهم بغير عناء، ولن يؤخذ القصر من هذه الناحية أبدا.
ولم يكن القصر الذي يهم الملك؛ لذلك أحنى رأسه، وقد أظلمت عيناه. سيموت قبل أن يلقي نظرة وداع على الوجه الذي باع الدنيا ومجدها من أجله. ترى ماذا تفعل رادوبيس في هذه الساعة المفجعة .. هل بلغها ما أصاب آمالها من الانهيار، أم أنها ما تزال تتيه في وديان السعادة، وتنتظر عودته بفارغ الصبر؟!
ولم يكن الوقت يسمح له بالاستسلام إلى أحزانه، فطوى آلامه في صدره، وقال لطاهو آمرا: مر جنودك أن تخلي الأسوار، وتكف عن القتال، وتعود إلى ثكناتها.
فاستولت الدهشة على طاهو، ولم يصدق سوفخاتب أذنيه فقال بانزعاج: ولكن الشعب يقتحم الباب توا!
ولبث طاهو واقفا لا يبدي حراكا، فصاح الملك بصوت كالرعد دوى دويا مخيفا في ممر الأعمدة: اصدع بما أمرت.
وذهب طاهو ذاهلا ينفذ أمر مولاه، وتقدم فرعون بخطى ثابتة نحو فناء القصر، فالتقى عند نهاية الممر بفرقة العجلات المصطفة، وقد رآه الضباط والجنود، فسلوا أسيافهم وأدوا التحية، فنادى الملك قائد الفرقة وقال له: عد بفرقتك إلى الثكنات ولا تبرحها حتى تأتيك أوامر أخرى.
فأدى القائد التحية وجرى نحو فرقته، ونادى في الجند بصوت شديد، فتحركت العجلات بسرعة وانتظام إلى ثكناتها في الجناح الجنوبي من القصر. وكان سوفخاتب ترتعد أوصاله، ولا تكاد تحمله قدماه الضعيفتان، وقد أدرك ما يريده مولاه، ولكنه لم يستطع أن ينطق بكلمة.
Bilinmeyen sayfa