بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌ تسليما.
أما بعد، إن كلمة التوحيد كانت ولا تزال إلى أبد الآبدين في السمو والمقام العالي، الذي تتضاءل أمامه سهام المناوئين لها وترجع إليهم خاسئة، ولكنها سنة الله أن ينقسم الناس إلى فريقين: فريق هدي إلى الاعتقاد الصحيح في هذه الكلمة الطيبة وارتفع إلى مقامها العالي، ومن ثم أخذ يذب وينافح عنها، كل فرد على حسب ما آتاه الله من علم وأسباب؛ وفريق ضل في مفاوز الشرك والبدع المهلكة، وأخذ يوجه من سفله حيث دركات الهوى، سهامًا خبيثة إلى الفريق الآخر، راغبًا أن يطفئ نور هذه الكلمة الطيبة بظلام جهله، ولكن هيهات أن يتم له ذلك، فإنه سبحانه قضى ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة:٢١]
ونحن في هذا الكتاب في صدد عرض مشهد من مشاهد هذه الحرب الضروس التي بدات بنزول آدم إلى الأرض وتنتهي بنهاية الدنيا، حيث الفريق الول أثر جهاده وصبره في الدنيا، على أذى الفريق
1 / 3
الآخر له. وفارس هذا المشهد هو الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، مفتي الديار النجدية، ﵀، وهو من الأخفياء الذين لا يعرف عند كثير من طلبة العلم فضلًا عن العامة، خاصة هنا في مصر.
وفيه، يقطع بسيف علمه خيوط العنكبوت من الضلالات والشبهات الواهية التي نسجها البوصيري في بردته المشهورة، عند العامة، خاصة هنا في مصر، حيث يجد أرباب الصوفية والدجالين سوقًا نافقًا لنشر بضاعتهم الكاسدة من أمثال هذه البردة.
والجهاد بسيف الكلمة والبيان سلاح قوي يرد الله به كيد الأعداء، وهو السلاح الماضي إلى يوم القيامة لأهل الحق: الطائفة المنصورة، أصحاب الحديث والأثر، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال بحديث النبي ﷺ ليس له سلاح غيره.
وصاحب البردة: البوصيري، وُلِد ببلاد المغرب مما يعطي إيحاءً عن اتصاله بدولة العبيديين المسماة بدولة الفاطميين، هذه الدولة التي تعد فجوة في دول الإسلام، ولم يعتبرها الحافظ ابن كثير من دول الخلافة الإسلامية.
وقد كان البوصيري شاعرًا من الشعراء، ولم يكن من أهل العلم الشرعي، لذلك ضلت به المفاوز فانتسب إلى الطريقة الشاذلية الصوفية المنسوبة إلى أبي الحسن الشاذلي المغربي، وله أوراد مبتدعة تحتوي على توسلات بدعية شركية، وغلو في النبي ﷺ شأن كل الطرق الصوفية،
1 / 4
وعلى منوالها جاءت البردة، ومن هذا التأريخ الموجز، نفهم من أين نبع الغلو والانحراف في هذه البردة؟ وقد رويت في سبب تأليف البردة قصة وهمية خرافية لا نعلم لها سندًا ولا خطامًا.
وينبغي على المسلم الواعي أن لا يقبل حديثا أو أثرًا أو قصةً أو خبرًا إلا بالتبين من صحة نسبته إلى قائله، ولا يتأتى هذا إلا بالنظر في إسناده لمعرفة حال رواته من ناحية الاحتجاج بهم من عدمه، فإن كان ليس من أهل النظر في الأسانيد، فليرجع إلى المختصين في علم الحديث من أهل السنة فيسألهم إعمالًا لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] . وينبغي على طالب النجاة والسلامة أن يتحرى علماء السنة، ولا يغامر بدينه مع علماء الفرق المبتدعة من الصوفية وغيرهم، كما قال ابن سيرين- ﵀: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"١.
وكما قال عبد الله ابن المبارك ﵀: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"٢.
وقد أجاد الشيخ أبو بطين- ﵀ في تفنيد شبهات الخصم،
_________
"١" أثر صحيح: أخرجه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه"١/١٤"، والترمذي في آخر الشمائل المحمدية"٣٩٧"،والدارمي في سننه [٤٢٤]، والخطيب في الكفاية في علوم الرواية"١/١٢٢".
"٢"أثر صحيح: أخرجه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه "١/١٥"، قال: حدثني محمد ابن عبد الله بن قهزاد سمعت عبدان بن عثمان سمعت عبد الله بن المبارك به.
1 / 5
وبيان جهله في بعض المواضع، وذلك بالحجة والبرهان، وبالرجوع إلى الأصول الصافية المتلقاة من سلفنا الصالح. والمحور الذي تدور عليه البردة هو الغلو الشديد في رسولنا الكريم ﷺ ورفعه فوق مرتبة البشرية، ودعاؤه والاستغاثة به، مما هو مناقض للتوحيد الذي ظل الرسول ﷺ طوال فترة بعثته يعلمه لأصحابه، ويسد كل الأبواب التي قد تخدشه.
وألفت النظر أيضًا إلى أن شأن البوصيري هو شأن سائر الشعراء الذين وصفهم الله في كتابه: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعر:٢٢٤-٢٢٧] .
وبالنظر إلى حال بعض الصحابة الذين اشتغلوا بالشعر أمثال: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة ندرك مدى البون الشاسع بين الذين يوظفون علمهم بالشعر في نصرة التوحيد والسنة، وبين الذين يهيمون في أودية البدع والغلو.
ولقد نافح حسان بن ثابت ﵁ بشعره كثيرًا عن الرسول ﷺ ولم يثبت عنه أبدًا أنه قد غلا في الرسول ﷺ لا في حياته ولا بعد موته، وقد وصفه في أشعاره بجميل الأوصاف وأظهر سجاياه بأعذب الألفاظ بغير غلو، ودون أن يرفعه إلى مرتبة الإلهية، ودون أن يتوسل به في دعائه أو
1 / 6
يستغيث به، أو يسمه بسمات الربوبية، كما فعل البوصيري في هذه البردة، وعلى المصر على اعتماد الغلو والشرك في وصفه للرسول ﷺ، أن يأتينا بسلفه من الصحابة الذين حذو حذوه ويأتينا بطرف من أشعارهم، ولن يجد، وها هي أشعار حسان بن ثابت في الصحيحين وغيرهما، لا تجد فيها عوجًا عن سبيل الاعتدال، ولا غلوًا.
وعلى الله قصد السبيل، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
كتبه
خالد بن محمد فهمي بن عثمان
القاهرة-مصر
يوم الاثنين الخامس عشر من ربيع الأول ١٤٢٣هـ.
1 / 7
ترجمة موجزة للمصنف
١- اسمه ونسبه:
هو العلامة: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس وكنيته: أبو عبد الرحمن، ولقبه: أبو بطين، بضم الباء وفتح الطاء، وهو تصغير "بطن" من عائذ من عبيدة من قحطان القبيلة المشهورة.
٢-مولده:
ولد في بلدة"روضة سدير" من قرى سدير، وذلك في "٢٠"من ذي القعدة عام ١١٩٤هـ.
٣- نشأته:
نشأ-﵀ في أسرة ذات علم وفضل ودين، ووالد جده: الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان، كان من أهل العلم بالفقه، وألف فيه كتابًا سماه: المجموع فيما هو كثير الوقوع. وقد قرأ أبو بطين- ﵀ على والده القرآن وحفظه، مما كان له أثر طيب في تلقيه العلوم الشرعية بعد.
٤- طلبه للعلم وشيوخه:
بعد حفظه للقرآن، قرأ على عالم "روضة سدير" في وقته: الشيخ: محمد الدوسيري، ولازمه في الأصول والفروع والحديث. ثم ارتحل إلى
1 / 8
"شقراء" عاصمة إقليم الوشم وقرأ على قاضيها الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الحصين في التفسير والحديث والفقه وأصوله وأصول الدين حتى برع في ذلك كله، وهو أكثر مشايخه نفعًا له. ثم انتقل إلى الدرعية في نجد، حيث كان انتعاش العلم بوجود الإمام: محمد بن عبد الوهاب- ﵀ ومنهم الشيخ: عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وكذا الشيخ العلامة: أحمد بن حسن بن رشيد العفالقي الأحسائي الذي أجاز أبا بطين في جميع مروياته. ثم لما تولى القضاء في الطائف في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز الكبير، طلب علم النحو على السيد حسين الجعفري.
٥- مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: لقب الشيخ- ﵀ بـ"مفتي الديار النجدية" وهذا لقب عالي لا يحصل عليه إلا العلماء الأفذاذ. وممن أثنى عليه: المجدد الثاني للدعوة السلفية في نجد: الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وذلك في بعض مراسلاته العلمية معه، وطلب منه أن يكتب ردًا على من غلط في معنى"لا إله إلا الله".
وكذا أثنى عليه مجموعة من تلامذته ثناءً عظيمًا مما يدل على علو مكانته العلمية، ونذكر شيئًا من هذا الثناء وهو قول تلميذه ابن حميد صاحب السحب الوابلة ومفتي الحنابلة في الحرم المكي في زمانه عند ترجمته للشيخ: "عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين فقيه الديار
1 / 9
النجدية في القرن الثالث عشر بلا منازع ... وقال: وبموته فقد التحقيق في مذهب الإمام أحمد فقد كان فيه آية....
٦- وفاته:
توفي- ﵀ في آخر شهر ذي القعدة عام ١٣٢٦هـ، ﵀ رحمة واسعة، ونفعنا بعلمه*.
_________
* قمت بتلخيص ترجمة الشيخ- ﵀ من الدراسة التي قام بها الشيخ: علي بن محمد بن عبد الله بن عجلان، حول حياة الشيخ وآثاره وجهوده في نشر عقيدة السلف، والذي ألحق معه رسالة الرد على البردة. وهي النسخة التي اعتمدناها وقمنا بتحقيقها.
1 / 10
الرد على البردة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وعليه اعتمادي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليمًا.
أما بعد فإني لما كتبت كلمات يسيرة على الأبيات التي في البردة وزيادة البغدادي١ المتضمنة للغلو في النبي ﷺ وبينت بعض ما اشتملت
_________
"١" هو داود بن سليمان البغدادي النقشبندي الخالدي الشافعي ابن جرجيس، ولد ببغداد وتوفي بها، فنسب إليها. كان من المناوئين للدعوة السلفية المباركة، وكتب بعض الكتب ينصر فيها مظاهر الشرك من دعاء الأموات الغائبين والنذر لهم والذبح لهم، ويدعي زورًا وبهتانًا أن هذا ليس بشرك.
وللمصنف العلامة: أبي بطين- ﵀ وغيره من علماء التوحيد ردود عليه منها: " الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين"، و"تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس"، و"دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث"؛ وثلاثتهم لأبي بطين- ﵀ إلا أن الأخير منهم لم يخص به ابن جرجيس وحده، بل كان ردًا عامًا عليه وعلى أمثاله من أصحاب البدع ومثيري الشبهات حول التوحيد خاصة. وكذلك رد الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه: " كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب بن جرجيس"، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في: "منهاج التقديس والتأسيس في كشف شبهات داود بن سليمان ابن جرجيس".
1 / 11
عليه من الباطل، وجد١ ورقة فيها اعتراض على ما كتبته وهو اعتراض ظاهر البطلان ولكن لغلبة الجهل قد يحصل تلبيس على الجهال. فطلب مني بعض الإخوان تعقب اعتراضات هذا المبطل وبيان فسادها فأجبته لما رأيته من تمكن الحهل في قلوب أكثر الناس خاصة في التوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله وبه أرسل جميع الرسل وأنزل جميع الكتب وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من ذلك أني ذكرت أن ما تضمنته هذه الأبيات وهي قوله:
يا أكرم الخلق مالي من ... ألوذ٢ به سواك
إلى قوله:
فإن من جودك٣ الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وقوله
إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم
وما قبل هذه الأبيات وما بعدها ذكرت أن هذا يشابه غلو النصارى في المسيح ﵇.
_________
"١" هكذا بالمطبوعة، والظاهر أن الصواب: "وجدتُ".
"٢" قال الفيومي في" المصباح المنير" "ص ٢١٤" "مادة: لوذ": "لاذ الرجل بالجبل يلوذ لِواذًا بكسر اللام، وحُكيَ التثليث، وهو الالتجاء، ولاذ بالقوم، وهي المداناة" أهـ.
"٣" قال الفيومي في"المصباح المنير" "ص ٤٤" "مادة: جود": "جاد بالمال: بذله، وجاد بنفسه: سمح بها عند الموت" أهـ. ويقصد هذا الناظم أن الدنيا هي شيء بذله النبي ﷺ وفاضت بها يده؛ وهذا ضلال مبين، لم يقل به حتى المشركون الأوائل الذين كانوا لا يدَّعون لأصنامهم وأوثانهم أنها تخلق أو ترزق، بل كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق وحده وهو الرازق وحده، وإنما هذه الأوثان وسيلة تقربهم إلى الله بزعمهم.
1 / 12
قال المعترض:
"حاشاه من ذلك.. إلخ" فنقول: مقتضى هذه الأبيات علم الغيب للنبي ﷺ وأن الدنيا والآخرة من جُودِه وتضمنت الاستغاثة به ﷺ من أعظم الشدائد ورجائه لكشفها وهو الأخذ بيده في الآخرة وإنقاذه من عذاب الله، وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية التي ادعتها النصارى في المسيح ﵇ وإن لم يقل هؤلاء إن محمدًا هو الله أو ابن الله ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه ﷺ بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" ١ والإطراء هو: المبالغة في المدح حتى يؤول الأمر إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية.
وقول المعترض:
إن مراد الناظم من هذه الأبيات طلب الشفاعة.
فنقول:
أولًا: هذه الألفاظ من هذه الأبيات صريحة في الاسثغاثة بالنبي ﷺ كقوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك
أي وإلا فأنا هالك والنبي ﷺ يقول في دعائه: "لا ملجأ منك إلا إليك" ٢.
_________
"١" صحيح: صحيح البخاري" ٣٤٤٥، ٦٨٣٠" من حديث عمر بن الخطاب ﵁.
"٢" صحيح: صحيح البخاري "٢٤٧، ٦٣١١، ٧٤٨٨" وصحيح مسلم"٢٧١٠" من حديث البراء بن عازب، وهو حديث دعاء قبل النوم.
1 / 13
وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعًا لي..إلخ. أي هلكت، وأي لفظٍ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ وعَطْف الشفاعة على ما قبلها بحرف أو في قوله: أو شافعًا لي صريح في مغايرة ما بعد أو لما قبلها وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة. فإن لم يكن بالشفاعة.. وقول المعترض يحتمل أن العطف للتفسير، وهذا من جهله فإن عطف التفسير إنما يكون بالواو لا بغيرها من حروف العطف ذكره ابن هشام وغيره.
ومحل عطف التفسير إذا عطف لفظ على لفظ معناهما واحد مع اختلاف اللفظ، كما ذكره من قول الشاعر:
وألفى قولها كذبًا ومينًا.... والمين هو الكذب، وأما قول الناظم:
"ومنقذي من عذاب الله والألم ... أو شافعاُ لي" ... إلخ"
فمعنى الإنقاذ غير معنى الشفاعة، قال الله تعالى عن صاحب يس: ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ﴾ [يّس: ٢٣]
ولم يقل أحد من المفسرين إن عطف الإنقاذ على الشفاعة من عطف التفسير بل فسّروا الإنقاذ بالنصر والمظاهرة بالفعل وفسّروا الشفاعة بالمعاونة بالجاه وهذا ظاهر.
ولكن لأجل تخبيط هذا الجاهل الأحمق أوجب بيان جهله وغلطه.
1 / 14
ومن كلام ابن القيم ﵀ على هذه الآية قال بعد كلام سبق: "فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته دائمًا. وإذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما تنقذني بها١ من ذلك الضر ولا من الجاه والمكانة عنده ما تشفع لي إليه لأتخلص من ذلك الضر فأي وجه تستحق العبادة إني إذًا لفي ضلال مبين إن عبدت من دون الله من هذا شأنه".انتهى.
ونقول أيضًا: إنه إذا خوطب الرسول أو غيره من الأموات والغائبين بلفظ من ألفاظ الاستغاثة أو طلب منه حاجة نحو قول: أغثني أو أنقذني أو خذ بيدي أو اقض حاجتي أو أنت حسبي ونحو ذلك، يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك. فهذا شرك العرب الذين بُعث إليهم النبي ﷺ كما وضحه الله سبحانه في كتابه في مواضع مخبرًا عنهم أنهم يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣] ﴿هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه﴾ ِ [يونس: ١٨] ولم يقولوا: إن آلهتهم تحدث شيئًا أو تدبر أمرًا من دون الله.
قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:٣١]
، الشرك في الألوهية إذا اعترفتم بالربوبية. ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّه﴾ [المؤمنون:٨٤-٨٥] والآيات في هذا كثيرة، يحتج سبحانه عليهم بإقرارهم بتوحيد
_________
"١" هكذا بالمطبوعة، ولعل الصواب: "به".
1 / 15
الربوبية على بطلان شركهم في توحيد الألوهية كما قال سبحانه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦]
فسر إيمانهم في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية وهو أنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض ومن ينزل المطر وينبت النبات ونحوه قالوا الله، ومع ذلك يعبدون غيره.
وفسر إيمانهم بإخلاصهم الدعاء لله في الشدائد، كما في قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: ٦٥] . ونحو ذلك من الآيات، ويشركون في الرخاء بدعاء غيره فهذه نصوص القرآن صريحة في أنهم يعترفون لله بتوحيد الربوبية اعترافًا جازمًا وأنهم ما أرادوا من آلهتهم إلا الشفاعة عند الله، وأما من ظن أن مدعوه ومسئوله يحدث شيئًا من دون الله ويدبر أمرًا من دون الله فهذا شرك في توحيد الربوبية والألوهية معًا، ولم يدّعِ ذلك أحد من المشركين اللذين بعث الله إليهم محمدًا ﷺ، وإنما أرادوا من آلهتهم الشفاعة إلى الله الذي بيده النفع والضر لجاههم ومنزلتهم عنده كما أخبر الله عنهم بذلك.
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ﵀ ورضي عنه عن رجلين تناظرا فقال أحدهما"لابد من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر عليه إلا بذلك، فأجاب ﵀ إلى أن قال: "وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم"
1 / 16
يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار لكن الشفاعة لمن يأذن الله قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ﴾ [السجدة: من الآية٤] وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ [الأنعام: ٥١] .
وقال: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ٢٢-٢٣] .
وقال: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الاسراء٥٦-٥٧] .
قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون المسيح وعُزَيرًا والملائكة والأنبياء فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقال تعالى: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:٨٠]
فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر فمن جعل الملائكة وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل: أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات وسد الفاقات فهو كافر بإجماع
1 / 17
المسلمين إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحُجَّاب الذين يكونون بين الملك وبين رعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك من الطالب فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلاّ قُتِل، وهؤلاء شبّهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أندادًا وفي القرآن من الرد على هؤلاء مالا تتسع له هذه الفتوى فإن هذا دين المشركين عبّاد الأوثان كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة: ٣١] .
وقد بين هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به حيث لا يخاف أحد غير الله ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه، قال تعالى: ﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: ٤٤] .
وقال: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [التوبة:١٨]
وقال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:١٧٥] .
وقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور:٥٢] . فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية فلله
1 / 18
وحده". انتهى ملخصًا، وقال ﵀ في الرسالة السَنية بعد كلام سبق: (فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده، أو يقول إذا ذبح شاه: "باسم سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنا في حسبك أو أنت حسبي ونحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتِل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لُيعبد وحده لا يجعل معه إلهٌ آخر والذين يُجعلون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر، والمسيح، وعُزَيْر، والملائكة، واللات، والعزى، ومناة، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وتنبت النبات وتنزل المطر وإنما كانوا يعبدونهم أو تماثيلهم أو قبورهم يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ فبعث الله الرسل تنهى أن يُدعى أحدٌ من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة."انتهى.
فليتأمل مريد نجاة نفسه ما ذكره شيخ الإسلام ﵀ يتبين له حقيقة الشرك الذي أرسل الله الرسل من أولهم إلى آخرهم ينهون عنه وأنه الذي يسميه بعض الناس في هذه الأزمنة تشفعًا وتوسلًا وبعض الضُلاّل يُسميه مجازًا يعني بذلك أن استغاثتهم بالمقبورين والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات على سبيل المجاز وأن الله هو المقصود في الحقيقة وهذا معنى قول المشركين: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾
1 / 19
﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ لأنهم لم يكونوا يعتقدون أن آلهتهم تدير شيئًا من دون الله وإنما يستجلبون النفع ويستدفعون الضر بجعلها وسائط بينهم وبين الله الذي بيده الضر والنفع ولهذا يخلصون لله الدعاء في الشدائد باعتقادهم أن آلهتهم لا تغني عنهم شيئًا من دون الله، وأنها لا تضر ولا تنفع وقد لَبَّسَ الشيطانُ على كثير من الناس خاصةً ممن ينتسب إلى طلب العلم بأن السكوت عن الكلام في هذا الباب هو الدين والورع فتولَّد من ذلك الإعراض عن الاعتناء بهذا الأمر الذي هو أصل الدين حتى صار جاهلًا به ثم آل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحسان الشرك والنفرة من ذكر التوحيد ولم يدر هذا المتورع الورع الشيطاني أن أفرض العلوم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته ومعرفة حقه على عباده الذي خلق الجن والإنس لأجله وهو توحيد الألوهية الذي أرسل به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب قال سبحانه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: ١٩]، وقال: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [هود: ١٤] أي واعلموا أن لا إله إلا هو وقال: ﴿هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [إبراهيم: ٥٢] فبين سبحانه أن من الحكمة في إنزال القرآن ليعلم الناس بما فيه من الحجج والبراهين أنه هو المستحق للألوهية وحده ففرض على عباده العلم لأنه الإله وحده وأخبر أنه ضمن كتابه من الأدلة والبراهين ما يدل على ذلك فتعيَّن على كل مكلف معرفة لا إله إلا الله الذي هو أصل الأصول وأوجب العلوم.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله
1 / 20
دخل الجنة" ١ فرتب دخول الجنة على العلم بأن لا إله إلا الله وهذا يبين معنى أحاديث أُخر كقوله ﷺ: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" ٢ "ومن قال لا إله إلا الله صدقًا من قلبه دخل الجنة" ٣ وغير ذلك من الأحاديث. وأن المراد من هذه الأحاديث ونحوها العلم بأن لا إله إلا الله وهذه الأمور التي انتشرت في أكثر الأمصار من الاستغاثة بالمقبورين في تفريج الكربات وسؤالهم قضاء الحاجات والتقرب إليهم بالنذور والذبائح وغير ذلك من أنواع القربات ومن لم يعرف أن هذا تأُّلُهٌ لغير الله وشرك عظيم تنفيه لا إله إلا الله فهو لم يعلم أن لا إله إلا الله حقيقة العلم.
وزعم المعترض أننا بإنكارنا ما تضمنته الأبيات المشار إليها من الغلو فيه ﷺ متنقصون لجنابه صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من قوله مثل قول النصارى لما قال النبي ﷺ: "إن عيسى عبد لله مربوب" قالوا إنه.
_________
"١" صحيح: صحيح مسلم "٢٦" من خديث عثمان ﵁.
"٢" حسن: أخرجه أحمد في "مسنده" "٥/٢٣٣"، وأبو داود والحاكم في "المستدرك" "١/٥٠٣، ٦٧٨"، وفي "معرفة علوم الحديث" "ص ٧٦"، والبزار في "مسنده" "٢٦٢٦"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "٩٤، ٩٢٣٧"، و"الاعتقاد" " ص ٣٧". كلهم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل مرفوعًا. وحسَّنه العلامة الألباني ﵀ في "أحكام الجنائز" "ص ٤٨".
"٣" صحيح: أخرجه أحمد في "مسنده" "٤/١٦"، والطيالسي من طريق هشام الدستوائي عن يحي بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن رفاعة الجهني مرفوعًا بلفظ: "لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه ثم يُسدد إلا سلك في الجنة". وهذا إسناد حسن. وقد أخرجه أبو يعلي في "مسنده" "٣٢٢٨" بلفظ قريب منه بإسناد صحيح من حديث أنس. ومعناه ثابت في صحيح البخاري من حديث معاذ ﵁.
1 / 21
يسب المسيح وأمه ووشوا به عند النجاشي وهذا ما يلقيه الشيطان على ألسنة المشركين قديمًا وحديثًا، إذا قال الموحدون إن آلهتكم باطلة وأنها لا تستحق شيئًا من العبادة اشمأزوا من ذلك وَزَعموا أن من سَلَبهم ذلك فقد هضم مراتبهم وتنقَّصهم، وهم قد هضموا جانب الإلهية غاية الهضم وتَنقَّصوه لهم نصيب من قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزمر:٤٥] ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا﴾ [غافر: ١٢] .
لقد أحسن القائل ﵀ وهو ابن القيم:
قالوا تنقّصتم رسول الله ... واعجبًا لهذا البغي والعدوان١
٢أنتم تنصتم إله العرش ... والقرآن والمبعوث بالقرآن٣
_________
"١" في نسخة النونية المطبوعة: "البهتان" بدلًا من "العدوان".
"٢" من الواضح أن المصنف ﵀ كان يختار أبياتًا معينة من القصيدة، حيث أن هناك تسعة أبيات قبل بداية هذا البيت وهي:
عزلوه أن يحتج قط بقوله ... في العلم بالله عظيم الشان
عزلوا كلام الله ثم رسوله ... عن ذاك عزلًا ليس ذا كتمان
جعلوا حقيقته وظاهره ... هو الكفر الصريح البين البطلان
قالوا وظاهره هو التشبيه و... التمثيل حاشا ظاهر القرآن
من قال في الرحمن مادلت ... عليه حقيقة الأخبار والفرقان
فهو المشبه والممثل والمجسم ... عابد الأوثان لا الرحمن
تالله قد مسخت عقولكم ... فليس وراء هذا قط من نقصان
ورميتم حزب رسول الله وجنده ... بمصابكم يافرقة البهتان
وجعلتم التنقيص عين وفاقه ... إذا لم يوافق ذاك رأي فلان
أنتم تنصتم إله العرش ... .. .. .. .. .. ..
قال صاحب توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم"٢/٣٤٩): "معنى كلامه في هذه الأبيات أن أهل التعطيل رموا أهل التوحيد لما جردوا التوحيد والمتابعة وأفردوا الله تعالى بجميع أنواع العبادة خوفًا ورجاءً وتوكلًا وخشية وقالوا: لا يجوز صرف العبادة ولا شيء منها لملك مقرب ولا نبي مرسل وقدموا أقوال الرسول على غيره فلأجل ذلك رموهم بتنقيص الرسول، والمعطلة مع ذلك قد تنقصوا الله تعالى ورسوله وكتابه، أما تنقصهم الله تعالى فإنهم سلبوه صفات كماله ونزهوه عن الكلام والفوقية وجعلوا ذلك تشبيهًا وتجسيمًا وأما تنقصهم الرسول فإنهم عزلوه أن يحتج بقوله في العلم، وأما تنقصهم القرآن فإنه عندهم لا يفيد اليقين إذ هو أدلة لفظية عارضتها العقلية بزعمهم وأن القرآن لا يُحكم عند الاختلاف، وإنما يرجع إلى العقول والمنطق، وأما أهل الإثبات فإنهم حكموا الرسول ﷺ وما جاء به في الدقِّ والجُّلِّ"أهـ.
"٣" هناك خمسة وثلاثون بيتًا لم يذكرها المصنف بين هذا البيت والذي يليه، يمكنك أن ترجع إليها في الأصل أو في شرح قصيدة ابن القيم المسماة: "توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم" "٢/٣٤٥-٣٤٩" "فصل: في بهت أهل الشرك والتعطيل في رميهم أهل التوحيد والإثيات بتنقيص رسول الله".
1 / 22