فأجابها: إني أفعل ما في وسعي، إني أنتظر الموت.
وبدا لعينيه أن الظلام يهرول نحوه واعدا بالسلام.
العين والساعة
حدث ذلك في آخر ليلة لي في البيت القديم، أو الليلة التي تم الاتفاق على أنها ستكون الأخيرة، والبيت ذو شخصية منفردة رغم قدمه، وغربته الواضحة في محيط العصر. بات وكأنه أثر من الآثار، وأكد ذلك موقعه المطل على ميدان ولد مع «القاهرة» في عام واحد، نشأنا فيه بحكم الميراث، ثم حال الجفاء بيننا وبينه بحكم تنافر الأجيال، فتطلعنا إلى الأجواء الحديثة الباهرة بعيدا عن الجدران الحجرية المغروسة في الأزقة الضيقة. كنت جالسا في الصالة المعصرانية الواسعة على أريكة طاعنة في السن تقرر الاستغناء عنها تحت منور محكم الإغلاق اتقاء لنزوات الخريف ... وكنت أحتسي قدحا من القرفة رانيا إلى إبريق نحاسي صغير قائم على خوان بين يدي، يبرز ما فيه عود بخور جاوي يحترق على مهل نافثا خيطا من الدخان الطيب وهو يتماوج ويتأود تحت ضوء المصباح في صمت الوداع، واعترى ارتياحي فتور لغير ما سبب، ثم غمرني شجن خفي. شحنت عزيمتي للمقاومة، ولكن الحياة كلها تجمعت أمام عيني في التماعة خاطفة مثل كرة من نور منطلقة بسرعة كونية، سرعان ما انطفأت واهبة ذاتها للمجهول غائصة في جوفه الأبدي.
قلت لنفسي إني على دراية بهذه الألاعيب، وإن الرحيل العارض المقرر غدا يذكرني بالرحيل الأخير عندما يرفع الحادي عقيرته مرددا النشيد الأخير، وجعلت أتسلى عن أحزان الوداع بتخيل المقام الجديد في الشارع العريض تحت أغصان البلح الملتحمة والحياة الجديدة الواعدة بمسرات أنيقة لا حصر لها، وما كادت القرفة تستقر في جوفي حتى وثبت وثبة عملاقة مباغتة انتقلت بها من حال إلى حال، فمن أعماقي تصاعد نداء يدعو بثقة لا حد لها إلى فتح الأبواب وكشف الحجاب وغزو الفضاء واقتناص الرضى والسماح من جنبات الجو المعبق بالبخور. انجابت الهموم والأشجان وخواطر الفناء، وانهمرت سيول مترعة بالنشاط والهيام والطرب ... وانتفض القلب في رقصة رائعة موحية بالإيهام والجذل، وشع نور في الباطن فتجسد في مثال، وقدم كأسا طافحة، وقال بصوت عذب «تلق هدية معجزة» ... توقعت أن سيحدث حدث، وقد حدث. ذابت الصالة في العدم، وحل محلها فناء واسع يترامى حتى يفصل بينه وبين الميدان جدار غليظ أبيض، غطته دوائر وأهلة معشوشبة، وتوسطته بئر، وعلى مبعدة يسيرة منها نخلة فارعة، وتحيرت بين إحساسين ... إحساس يقول لي إنني أرى مشهدا لم تسبق لي رؤيته ... وآخر يقول لي إنه ليس بالغريب، وإنني أراه وأتذكره معا. حركت رأسي بعنف لأحضر إن كنت غائبا، ولكن المشهد ازداد وضوحا وسيطرة، وتمثل لي بين البئر والنخلة بشر! إنه شخصي أنا رغم استخفائي في جبة سوداء وعمامة عالية خضراء، وهذا وجهي رغم لحيته المسترسلة ... حركت رأسي مرة أخرى، ولكن المشهد ازداد وضوحا ويقينا، حتى لون الوقت الأسمر أشار إلى المغيب المغترب، وتمثل أمامي - بين البئر والنخلة - كهل يماثلني في الزي، رأيته يناولني صندوقا صغيرا، ويقول: إنها أيام غير مأمونة، يجب إخفاؤه تحت الأرض حتى تعود إليه في حينه.
فسألته: ألا يحسن أن أطلع عليه قبل إخفائه؟
فقال بحزم: لا ... لا ... قد يحملك ذلك على التسرع في التنفيذ قبل مضي عام، فتهلك! - أعلي أن أنتظر عاما؟ - دون نقصان، ثم أطع ما يمليه عليك.
وصمت لحظة ثم واصل محذرا: إنها أيام غير مأمونة، وقد يتعرض بيتك للتفتيش، فيجب إخفاؤه في الأعماق.
وقام الاثنان بالحفر على كثب من النخلة، ودفنا الصندوق، ثم أهالا عليه التراب، وسويا السطح بعناية، ثم قال الكهل: أتركك للعناية الإلهية ... كن حذرا، إنها أيام غير مأمونة.
وعند ذاك تلاشى المشهد فكأنه لم يكن، رجعت صالة البيت القديم، وما زال في عود البخور بقية، ورحت أفيق من نشوتي بسرعة، وأرتد إلى الواقع بكل كثافته، وغلبني الانفعال والتأثر طويلا. ترى أكان وهما ما رأيت؟ هذا هو التفسير الجاهز، ولكن كيف آخذ به وأنسى المشهد المجسد الذي نفث اليقين بكل أبعاده؟ لقد عشت واقعا ماضيا لا يقل في صلابته عن الواقع الراهن، رأيت نفسي أو أحد جدودي وجانبا من عصر انقضى، لا يجوز أن أشك في ذلك وإلا شككت في عقلي وحواسي، لا أدري بطبيعة الحال كيف حدث ذلك، ولكني أدري أنه حدث ... وثمة سؤال غزاني بعنف: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا حدث في هذه الليلة الأخيرة لي في البيت القديم؟ وفي الحال شعرت بأنني مطالب بعمل شيء ما ... شيء لا مفر منه. وترى هل استخرج «الآخر» الصندوق بعد مضي العام، وصنع ما يشير عليه به، هل نفد صبره فتسرع فهلك؟ هل انقلبت عليه خطته بسبب تلك الأيام غير المأمونة؟! يا لها من رغبة آسرة في المعرفة لا يمكن مقاومتها! وخطر لي خاطر غريب، وهو أن الماضي لم يتمثل لي إلا لأن «الآخر» حيل بينه وبين الصندوق، وأني مدعو لاستخراجه وتنفيذ ما يشير به بعد إهمال طال واستطال أمدا غير معروف. إنه يأمرني بألا أهجر البيت القديم لكي أعمل بكلمة قديمة مجهولة آن لها أن تتحقق ... ومع أن الموقف كله تسربل بغشاء منسوج من الأحلام، متنافر تماما مع العقل، غير أنه هيمن علي بقوة طاغية ... فامتلأ القلب بأشواق التطلع والانتظار وآلامهما الجامعة بين الترقب والعذوبة، ولم أنم من الليل ساعة واحدة، وظل خيالي يجوب أرجاء الزمان الشامل للماضي والحاضر والمستقبل معا، ثملا بخمر الحرية المطلقة، أمست فكرة الرحيل في خبر كان، واستحوذت علي نية التنقيب في الماضي المجهول لعلي أعثر على الكلمة التي طال رقادها، ثم أتأمل ما ينبغي صنعه بعد ذلك. وبالمقارنة بين المشهد البائد والمشهد الماثل لعيني، قدرت أن موقع النخلة القديم يقوم في موضع السلم الصغير الصاعد إلى المنظرة، وعليه فالحفر يجب أن يبدأ على مبعدة يسيرة منه فيما يلي شباك المنظرة، اعترضتني بعد ذلك مشكلة إخبار أخي وأختي بعدولي عن الرحيل بعد أن تم الاتفاق بيننا عليه. وكنا لا نزال في مرحلة التعليم الجامعي، فأنا في السنة النهائية بكلية الحقوق، وأخي الذي يصغرني بعام يدرس الهندسة، وأختي التي تصغرني بعامين تدرس الطب ... احتج كلاهما على عدولي المفاجئ، ولم يجدا له تفسيرا مقنعا، وأصرا في الوقت نفسه على الانتقال وحدهما غير يائسين من التحاقي بهما في وقت قريب، وقبل أن يغادراني ذكراني بما اتفقنا عليه من عرض البيت للبيع للاستفادة من ارتفاع سعر الأراضي، فلم أعارض بكلمة ... هكذا افترقنا لأول مرة في حياتنا، وكنا نؤمن بأنه لن يفرق بيننا إلا الزواج أو الموت، ولم يبق إلا أن أشرع في العمل ... والحق أني تهيبته أن يتمخض عن لا شيء، ولكني كنت مدفوعا بقوة لا تقبل التراجع، وعزمت على الحفر بنفسي ليلا في حذر وكتمان، استعنت بفأس ومجرفة ومقطف، واستغرقني العمل بهمة لا تعرف الكلل ... صبغني التراب وملأ صدري واستقر في أنفي رائحة مترعة بالأسى والزمان الأول. وتواصل العمل حتى غصت في الأعماق مقدار طولي كله، ولا معين لي إلا شعوري الباطني بأني أقترب من الحقيقة ... وضربت الفأس مرة فرجع صوتا جديدا واشيا بجسم جديد، فخفق فؤادي حتى زلزلت جذوره. رأيت الصندوق على ضوء شمعة يطالعني بوجه أغبر لكنه حي، وكأنما يعاتبني على طول تأخري، ويؤنبني على ضياع العديد من السنين، ويعلن استياءه على حبسه كلمة من حقها أن تعرف، من ناحية أخرى تجسد لي حقيقة صلبة لا يدانيها شك ... معجزة مجسدة، صوتا يملأ الأسماع، وانتصارا محققا على الزمن، صعدت به إلى سطح الأرض ثم هرولت إلى الصالة، حملت بين يدي الدليل الذي عبر بي من الحلم إلى الحقيقة هازئا بكافة المسلمات ... نفضت عنه الغبار، وفتحته، فوجدت رسالة مطوية في لفافة من كتان متهرئ، بسطتها برفق وأنشأت أقرأ: يا بني ليحفظك الله تعالى!
Bilinmeyen sayfa