أغمض عبد الفتاح عينيه مغالبا انفعالاته التي تموج بإعصار همجي، ولم يترك طويلا للتأمل إذ دعي لمكالمة تليفونية لأول مرة مذ التحق بالعمل، وجد أن المتكلم هو والده ... قال له: فرجت، استعد للسفر، والتفاصيل وقت الغداء!
فرجت حقا! الثروة في الطريق ولن تستعصي مشكلة عن حل طيب. وقال لنفسه ساخرا! إنها نهاية سعيدة جديرة بمنحرف من صلب منحرفين! واستحضر صورة الكون ممثلة في السماء والأرض، قال: خبرني عن الهدف من فضلك وإحسانك!
قسمتي ونصيبي
عم «محسن خليل» العطار، أجزل الله له العطاء فيما يحب ويتمنى عدا الذرية ... دهر طويل مضى دون أن ينجب، مع مجاهدة للنفس لترضى بما وهب الله وبما منع، كان متوسط القامة، ممن يؤمنون بأن الخير في الوسط، وكان بدينا، وعنده أن البدانة للرجل - كما للمرأة - زينة وأبهة، وكان يزهو بأنفه الضخم وشدقيه القويين، وبالحب المتبادل بينه وبين الناس. وحباه الحظ بست «عنباية»، ذات الحسن والنضارة والطيات المتراكمة من اللحم الوردي الناعم، إلى كونها ست بيت ممتازة، يغنى سطح بيتها المكون من دور واحد بالدجاج والإوز والأرانب، ويلهج عشاق مائدتها بطواجنها المعمرة وفطائرها السابحة في السمن البلدي، دنيا مقبلة في كل شيء، ولكنها ضنت بنعمة الإنجاب في عناد تطايرت دونه الحيل ... نشدت شورى الأحبة، ولجأت إلى أهل الله من العارفين والواصلين، وطافت بالأضرحة المباركة، حتى الأطباء زارتهم، ولكن أصدروا فتوى غير مبشرة شملت الزوجين معا «عم محسن» و«ست عنباية»، وقالوا إن الأمل الباقي أضعف من أن يذكر. ووقفت في سماء النعيم الصافية غمامة حزن مترعة بالحسرة لا تريد أن تتزحزح، ولما شارف عم محسن الخامسة والأربعين وست عنباية الأربعين، تلقيا من الله رحمة ... هتفت ست عنباية بعد تدقيق وعناية: «يا ألطاف الله! إني حامل وحق سيدي الكردي!» كان عم محسن أول من طرب وشكر، وتردد الخبر في «الوايلية» على حدود «العباسية» حيث يوجد بيت الأسرة ومحل العطارة. وانقضت الأشهر التسعة في انتظار بهيج، وجاء المخاض يهزج بالأنين السعيد ... ولما تلقت الحكيمة الوليد حملقت فيه مذهولة مبهوتة، وراحت تبسمل وتحوقل ... وهرعت إلى الصالة الشرقية الوثيرة ... فوقفت أمام عم محسن مضطربة، حتى تمتم الرجل خافق القلب: ربنا يلطف بنا، ماذا وراءك؟
همست بعد تردد: مخلوق عجيب يا عم محسن. - كيف؟ - أسفله موحد وأعلاه يتفرع إلى اثنين! - لا! - تعال انظر بنفسك. - وكيف حال الست؟ - بخير، ولكنها غائبة عما حولها!
وذهب في أثرها مضطربا خائب الرجاء، وحملق في المخلوق العجيب ... رأى أسفله موحدا ذا رجلين وبطن واحد، ثم يتفرع بعد ذلك إلى اثنين؛ لكل منهما صدره وعنقه ورأسه ووجهه، وكانا يصرخان معا، وكأن كلا منهما يحتج على وضعه، أو يطالب باستقلاله الكامل وحريته الشرعية. هيمن على الرجل شعور بالارتباك والحيرة والخجل وحدس المتاعب تتجمع فوقه كالسحب المليئة بالغبار، وترددت في داخله العبارة التجارية التقليدية التي يحسم بها الموقف عند فشل صفقة من صفقات العطارة، وهي «يفتح الله». أجل ... ود لو في الإمكان التخلص من هذه العاهة التي لن يذوق معها راحة البال، وقالت الحكيمة وهي مستغرقة في عملها الروتيني: صحة جيدة، كأن كل شيء طبيعي تماما.
فتساءل عم محسن خليل: الاثنان؟
فقالت الحكيمة بحيرة: ليسا توءمين ... هذا وليد واحد!
فجفف الرجل عرق وجهه وجبينه المتصبب من داخله ومن جو الصيف، وتساءل: ولم لا نعتبرهما اثنين؟ - كيف يكونان اثنين على حين أن انفصال جزء عن الجزء الآخر مستحيل! - إنها مشكلة، ليتها لم تكن أصلا!
فقالت الحكيمة بلهجة وعظية: إنه منحة من الله على أي حال، ولا يجوز الاعتراض على حكمته.
Bilinmeyen sayfa