فالموسرون يحبون الصيف؛ لأنهم يشدون فيه الرحال إلى أوروبا ليصيبوا من اللهو واللذة إلى منتهى الجهد، ويبلغوا الصبا أو التصابي غاية الأثر، فإذا صرفهم عن الشخوص إلى الغرب صارف، فهناك المتسع في قصور الرمل، والتقلب في المتع على سيف البحر - البلاج.
وأما ثلاثة أرباع الموسرين وأنصافهم، وأعني جمهرة الموظفين فيحبون الصيف؛ لأنهم يتحررون فيه من كد العمل، ويخرجون فيه بالإجازات السنوية إلى الغرب أو إلى الثغور المصرية ليصيبوا ما يصيب الموسرون، فمن لم يستطع هذا ولا هذا فحسبه الراحة والدعة، وهيهات أن تضيق به الدنيا وفي الضواحي سعة، وطلاب العلم وسائر التلاميذ، ففي الصيف عتقهم من رق المذاكرة والدرس، وإطلاقهم من إسار الجسم وإسار النفس.
هذا ما كان من أمر الموسرين وأشباه الموسرين، والوجه في إيثارهم للصيف وتعجلهم لمقدمه طوال العام، أما المقترون البائسون فلعل حبهم للصيف أشد وإيثارهم له أعظم، فقد علمت - حفظك الله - أن برد الشتاء يحتاج إلى التدثر وتلفيف عامة الجسم بمختلف الثياب، وقد لا يغني منها إلا المتين الصفيق، كما يحتاج إلى اتخاذ الفراش وإثقال الغطاء، والتماس وسائل الدفء خلاصا من حدة البرد وتفاديا من أذى الضر.
ثم إن البرد كما تعلم، يفتح اللهاة ويهيج الشهوة إلى الطعام ويسرع بالهضم، وتدعو الطبيعة فيه إلى موالاة الأكل تحريكا للدم، وبعثا للحرارة في الجسم، وكيف للمعسر إذا واتى نفسه بكل هذا بمواتاة الولد، وسد جوعهم ونهمهم ومطاوعة شرههم وقرمهم؛ إلى ما يقتضي من النفقة في الثوب والرداء، والفرش والغطاء والقدة والاصطلاء؟
أما الصيف وحبذا وقدة الحر في الصيف، فهي كما تعلم أيضا مما يسد اللهاة، ويقبض شهوة الطعام ويفتر الجسم ويخذل المعدة، ويأبى عليها الحركة إلا بقدر يسير، فهي في هضم الطعام محتاجه إلى الزمن الطويل، فإذا زاد الطعام في المقدار أو أكثر فيه الدسم أثقلها وأبهظها، وأغناها بالوجبة الواحدة في اليوم الأطول.
وأما الرداء فخيره أخفه وأشفه، وأما المنام فعلى جلدة السطح أو بين يدي الباب، وإلا ففي عذاري الطرق متسع للجميع.
أصدقت الآن أن الصيف أحب إلى الفقراء أيضا، وآثر عندهم لرفقه في أبواب المعيشة بهم، وتخفيفه في وجوه النفقات عنهم، ولا تظن أن وقدة الحر ترهقهم كما ترهقك، وأن شدة القيظ تبلغ منهم بعض ما تبلغ منك، فإنه لا يصنع بك هذا إلا تعود الترف وإرسال النفس في فنون النعيم، وحسبك أن تتفضل بزيارة شارعنا في منتصف الساعة الثالثة بعد ظهر يوم حلقت حرارته إلى السادسة والأربعين؛ لترى هذا الذي يحمل على رأسه هرما من البرتقال أو الموز أو التفاح ، وهذا الذي يدفع بين يديه قطارا من «الشمام» أو «العجور» أو «الخيار»، وذاك الذي يقود برذونا يجر عربة بترول، وهو لا يفتأ يلهبه بالسوط ليتحرك؛ لأن هذا البغل إنما يضيق بالحر ويتخاذل به بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صاحبه، حبذا لو جزت بشارعنا في تلك الساعة وسمعت من حناجرهم ذلك الصريخ؛ لتشفق على النوام من سكان الأرض والأيقاظ من سكان المريخ، ولجزمت من أن واحدا من هؤلاء لو كان يستشعر قيظا أو يحس حرا، ما استطاع دفعا ولا استطاع جرا، ولكان جهده نفثا وصياحه لهثا! آمنت بالله المعين!
مصايف
على أن الله الذي قدر الأرزاق على بعض عباده قد مد لهم أسبابا من المتاع والسلوى والتفرج من كد الأيام، وإن للمعسرين من أهل القاهرة وغيرها من كبريات المدن لمصايف جميلة لا يكلفهم غشيانها من النفقة جليلا، بل إن شاءوا لا يجشمهم فتيلا، وحسبك أن تسلك في ساعة الغروب من أيام الصيف هذه «الكباري» التي تصل بين القاهرة؛ لترى أفاريزها تموج موجا بالواقفين المطلعين على النيل المتنسمين نسيمه العليل، وأكثرهم الشباب وأكثرهم هؤلاء تجدهم!
Chacun avec sa chacune
Bilinmeyen sayfa