وأخيرا، فإذا كانت الأمم المتحاربة الآن تحسب حسابا كبيرا لما يدعونه الطابور الخامس، فليس عندي أي شك في أن الهلع والذعر في مثل هذه الأوقات، هما أخر هذا الطابور وأنفذ وأفتك.
الهلع والذعر، هما من أفتك الآلات في يد العدو، بل لعلهما أفتك من كل ما تطوله يده من عدة وسلاح، ولا غرو علي إذا دعوتهما من الآن بالطابور السادس.
فعلينا أن ندرع بالصبر والاحتمال، ولا ندع للجزع إلى أنفسنا السبيل، وأن نستبقي الرشد مهما يجشمنا من جهد، فهذه هي وسيلة النجاة والتخفيف من ويلات هذه الحياة.
أسأل الله - تعالى - أن يثبت قلوبنا، ويشد متوننا ويكشف عنا هذا البلاء، ويهون علينا مواقع الأرزاء، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
هل يكتب لفرنسا العظيمة بعث جديد
لم يجر قلمي قط طوال حياتي بكلمة واحدة في شأن من الشئون الخارجية، اللهم إلا ما كان سوقا لعبرة، أو ضربا لمثل من أحداث الزمن الغابر، على أن كارثة فرنسا بهذه السرعة قد رجتني كما رجت الناس جميعا، وكيف لا ترجني وترج غيري، والعالم كله - أعني قواصيه وأدانيه - إذا ذكر في أية رقعة منه «العالم» تمثل الغرب، وإذا ذكر الغرب حضرت على الفور فرنسا، ففرنسا هي لب العالم الحديث وجوهره، وهي روحه ومصاصه، هي مثابة العلم وموطن الحضارة، وهي منبع الفن وهي حصن الحرية والمساواة.
اللهم إن من شأن هذا، بل من شأن بعض هذا أن يبعث الذهن مع التفكير والتدبير، ففرنسا تسلم السلاح بهذه السرعة العجيبة، ولا يزال لها من حليفتها العظيمة عدة أية عدة ومدد أي مدد؟ ومن ذا الذي يلقي السلاح بين يدي العدو، ويحكمه في عنق الدولة كل هذا التحكيم؟ هم كبار القواد الذين شابت نواصيهم في خوض المعامع، وقضوا العمر تحت ظلال السيوف!
لقد فكرت برغمي كما فكر الناس، ولقد قدرت كما قدر الناس، فخرج لي من هذا التفكير ما يهول من الاحتمال وما يروع.
وأرجو ألا تتعجل فتظن أن هذا الذي يهول ويروع هو اندحار فرنسا عسكريا، فإن الاندحار العسكري مما يجري على الأمم جميعا، وهو مع ذلك إذا حط من هيبتها، أو تنقص من مالها، أو قبض من سلطانها سنين، طالت أو قصرت فإنها مستردة هيبتها، متعوضة عن مالها، باسطة سلطانها، مهما تكن قد أنزلت بها تلك الحرب من خسارة ودمار، وهذه المثل كثيرة منها الحاضر للأذهان، ومنها ما لا يزال ماثلا للأعيان، ففرنسا التي ضربت الضربة القاصمة في سنة 1870 وسلخ من إيالاتها ما سلخ، وفرض عليها من الغرم ما فرض، قد ظهرت على ضاربها في سنة 1918، وضربته الضربة القاضية، وفرضت عليه ما فرضت من ذخيرة ومال، وضربت عليه ما ضربت من سوء حال بل مهانة وإذلال، لا يقدر انبعاثه بعدها أجيالا إثر أجيال، ومع هذا لم تمض بضع وعشرون سنة حتى صنع بها هذا المغلوب ما شهدنا، وليس يعلم إلا الله تعالى كيف يكون المصير!
وكيفما كان الأمر، فإن انهزام فرنسا بمثل هذه السرعة حربيا إذ هو هال وراع، فإن مما يعزى فيه أن هذه سنة الحروب في طول الزمان:
Bilinmeyen sayfa