لست أسوق هذا الحديث درسا في الأخلاق فأشرح مزايا الصدق ومحاسنه وأورد مقابح الكذب ومآثمه، فذلك أمر مفروغ منه من الأزمان الطوال.
وإنما أريد أن أتحدث في هذا حديثا يسيرا لعله يجدي فيما قصدت إليه بإنشاء هذا المقال.
وبعد، فأنت خبير بأن من يأخذ نفسه بفضيلة الصدق ويطبع عليها لسانه، تراه يتأثم من مقارفة الكثير من الرذائل، ويتحرج من إتيان ما يعيب الرجل المربئ: ذلك لأنه يخشى إن هو سئل الوقوع بين أمرين خيرهما شر وأحلاهما مر، وهما التورط في الكذب، وقد علم أنه رذيلة الرذائل، وإما الصدق الذي يكشف من أمره ما لا يجب أن يصله الناس به، ويعهدوه عليه.
أما من راض نفسه على الكذب، وأسلم زمام لسانه لهذه الرذيلة فهذا، ولا ريب من وطن نفسه على مقارفة ما يشاء من المقابح، ومعاطاة كل ما يلذه من المآثم، مستمدا الخلاص من الكذب، وهو في ظنه لا ينضب معينه ولا ينفد مدده غافلا على أن جعل الكذب كما قيل قصير، وأنه بحسب المرء أن تحصى عيه كذبة ثم كذبة؛ ليتمثل دائما للناس كذابا لا يصدق أبدا ولو صدق، ولا ينطق الحق مطلقا وإن نطق!
وهذا من الجهة الفردية، أما من جهة المجموع فالأمر أجل وأخطر، وأرجو أن تستحضر في ذهنك الآن قضية مسلمة سهلة واضحة، وهي أن نظام الجماعات كله قائم على صحة النقل، وفرض صحته سواء أكان المتحدث مترجما عما في نفسه أو راويا عن غيره، على هذا يدور نظام الجماعات في كل زمان وفي كل مكان، إذ إن الأصل أن يصدق المتكلم، كما أن الأصل أن يصدق السامع، وعلى هذا الأساس تجري المعاملات بين الناس في مختلف الأسباب، وكذلك ينتظم شأن الجماعة، ويقوم التعاون بين الأفراد على الاضطلاع بأعباء الحياة، بحيث تنتظم منها وحدة يكون الأفراد منها بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان.
ولنقدر أن جماعة شاع فيها الكذب، وقل فيها الصدق ومطابقة الأخبار للواقع، فإن مما يلزم هذا ويتبعه فورا أن يسود التكذيب الجماعة، فلا يصدق أحد أحدا أو لا يكاد يصدقه ويركن إليه قوله.
فلعمري، ماذا يكون شأن الجماعة في هذه الحال؟ وكيف ينهض الناس بالأعمال المشتركة، وكيف يتم التعاون بين الأفراد، والحياة الاجتماعية، كما تعرف، إنما هي تعامل وتبادل وتقارض، ومدار هذا كله الثقة العامة، فإذا فقدت هذه الثقة والعياذ بالله انهدم كيان الجماعة، وأصبح بنيانها الشاهق أنقاضا على أنقاض!
هذا والكذب على قبحه قد يساغ في بعض المواطن إذا دعت إليه ضرورة، والضرورات - كما قالوا - تبيح المحظورات، وشأنه في هذا شأن غيره، فإن الضرر الكثير لا يخلو من نفع قليل، والشر الكبير لا يخلو من خير صغير، بل لقد يكون الكذب محمودا في بعض الأحيان.
ومن المواضع التي يسوغ فيها الكذب، الكذب على الصغير، إذا لم يكن من ذلك بد لتسكين ثورة نفسه والترفيه عنه، وإدخال السرور عليه، ومن تلك المواضع الكذب للإصلاح بين الزوجين أو بين الصديقين، على ألا ينجم عن ذلك ضر.
ومن المواضع التي يحمد فيها الكذب، بل التي ينبغي فيها اتخاذه وتعمده والإلحاح فيه، الكذب في مكايد الحروب وخدعها، فإن الصدق في هذا حيث يستغله العدو ويسلك منه إلى الظفر مما يلحق بالخيانة والإجرام، على أن من الناس من لا يأذنون لألسنتهم بالكذب مهما يكن الأمر، ولقد يعوذون في مثل هذه المقامات بالتوريات، وقد قيل: في المعاريض مندوحة.
Bilinmeyen sayfa