وكيفما كان الأمر فإنني أعود فأقرر أن حافظا - رحمة الله عليه - كان لا يستطيع على فراقي صبرا ولا أستطيع على فراقه صبرا، ومع هذا فإنه ما جمعتنا خلوة إلا جعل يصارحني ببغضه وأباديه بمقته، ويذكرني ما أسلفت من أذاه، وأذكره ما أسلف من الكيد لي، ولا نزال على هذا حتى يبدو ناجذ الفتنة ويهيج هائج الشر، ومع هذا لا توسوس لأينا نفسه بالفرقة وطلب الخلاص من هذا البلاء!
لا أذكر أنه ضمني به مجلس قط سواء كان فيه من نعرف أو من لا نعرف، وكان فيه من نعلي أقدارهم ونجل أخطارهم، أو كان فيه من نتهاون شأنهم، ولا تضمر أنفسنا إلا استحقارهم والزراية عليهم، لا أذكر أنه ضمني به مجلس قط إلا جلا له مداخلي وبذل بين يديه أكره مكارهي، فإذا أعوزته المكاره خلقها خلقا وارتجلها من عفو الخاطر ارتجالا.
ولقد يوغل في الكيد ويمعن في الأذى! فيشرك نفسه معي فيما يرميني به من ألوان التهم، ولو قد صح أكثرها لأفضت بنا كلينا إلى محكمة الجنايات والعياذ بالله، فيقول: لما فعلت أنا وفلان كذا ولما افترقنا كذا وكذا ... وكل هذا ليؤكد على التهمة ويوثق الجريمة، وتراه يضع في هذا الموضع نفسه، ويبلغ منها به ما لا يبلغ أعدى عدوها؛ ليرضي نقمته مني واضطعانه علي ولا أجر الله القائل:
فاقتلوني ومالكا
واقتلوا مالكا معي
انظر يا سيدي كيف يكون غيظي حتى لأكاد أخرج من جلدي، ثم فكر فيما يرمي به لساني منكر القول، مستكره اللفظ نضحا عن نفسي وشفاء لصدري! ثم تدبر بعد هذا ما يعتريني من الألم، وما يلحقني عليه من واخز الندم: ولعنة الله على الغضب وما يفعل الغضب!
ولقد يتوافق رأيانا في رجل، فنذكره بما نحسب فيه من ثقل الظل، أو شدة البخل، أو الكذب والتزيد، أو التنفج وعرض الدعوى، أو غير ذلك مما يكره الناس أن يذكروا به، فيلقاه في سر مني، ويقول له: «إن فلانا يرميك بكيت وذيت فتعال معي أسمعك بأذنك.» ويواريه في غرفة مجاورة أو يدسه من حيث لا أرى خلف ستار أو تحت سرير، ثم يقبل علي فيستدرجني إلى حديثه، وما عسى أن نكون قد أرسلنا من النكات على خلاله تيك، فإذا بلغ من هذا كل ما أراد سل صاحبنا من حيث كان، فطلع علي مغبر الوجه، متكرش الجبين، محمر الحدق، بارز الناب!
وانظر يا رعاك الله أي جهد يجب أن أبذله وقد يعينني حافظ بإنقاذ الموقف - كما يقولون - وصرف الأمر كله إلى النكتة، حتى يسكن غضب الرجل وينفرج غمه وتطيب نفسه، ويشيع البشر في وجهه، على أنني إذا خرجت من ثائر شره على سلم، واطمأننت منه إلى الأمن، فإني لأقضي بقية نهاري وسواد ليلي قلق النفس مقشعر الجلد مما عسى أن كان يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن أعجب العجب وإن شئت قلت: «من بركة العجز» أن هذه الحوادث قد انتهى أكثرها، إذا لم يكن قد انتهى جميعها، إلى استيثاق الصلة، وعقد الإلف بيننا وبين هؤلاء الذين كان يغريهم حافظ بي ويثير حفائظهم علي بما يسمعهم من حديثي فيهم، وتناولي لمكارههم، وقد يزداد هذا الإلف على الأيام حتى يصبح صداقة متينة وودا خالصا!
وأغلب الظن في هذا أننا لم نكن نعرفهم حق المعرفة، ولم نخالطهم حتى نقلب عن يقين حقيقة شأنهم فنسرع إلى الحكم عليهم بما نرى من ظواهرهم أو بما نسمع من خصومهم عنهم، حتى إذا عرفناهم وبلوناهم تجلت لنا فضائلهم ومزاياهم، وإذا ما ذهبنا إليه إنما كان أوهاما في أوهام لم نخرج منها وا حسرتاه إلا بالمناكر والآثام! اللهم اغفر لنا خطايانا وتب علينا واعف عنا، إنك أنت التواب الرحيم!
Bilinmeyen sayfa