كل سبب من أسبابنا أضحى غريبا، وما لم يستغرب بعد فهو ولا مراء في طريق الاستغراب اللهم خلا اللغة، فلغتنا ما برحت العربية التي تحدث بها الجاهليون من آلاف السنين!
إذن، أبات علينا لكي يتسق أمرنا ويستقيم منطقنا، لغتنا، كما ينضي الثوب الخليق، ونتخذ للساننا لغة غربية تستطيع أن تحيا مع هذا العيش الجديد؟
لست - علم الله - أمازح ولا أعابث، فإن المقام من الجسد الذي لا يحتمل العبث ولا المزاح!
هناك علوم تستوعب جميع سبل الحياة، وهناك فنون منها ما يتصل بصلب العيش، ومنها ما يسعى للتسلية والترفيه والتنعيم، وهناك آلات وعدد، وهناك مصنوعات لا يملكها عدو، وهناك ما لا يحصى من المستحدثات التي أصبح لا غنى عنها للناس، أستغفر الله، فإنما أعني المتحضرين من الناس، لا غنى لهم عنها في قضاء لباناتهم وتناول جميع أسبابهم.
وهذه العلوم والفنون وهذه الآلات والعدد، وهذه المستحدثات التي لا غنى عنها لأحد، هذه كلها أصبح طلبها والتفقه فيها وتجويدها كما يجودها أهلها هو همنا وشغل نفوسنا ومرامنا الأقصى ، ومثلنا الأعلى فكيف لنا بها ولغتنا لا تحيط بها، بل لا تكاد تلم منها بكثير ولا بقليل؟
لقد كانت لغتنا لغة العلوم والفنون التي جاءت بها حضارتنا عفى على اللغة كما أتى على تلك العلوم والفنون، ونحن الآن إنما نطلبه علوما جديدة، وفنونا حديثة، ومبتكرات طريفة ولكل منها في الإفرنجية اسم، ولكل منها تعبير يؤديه في غير عسر ولا التواء، فكيف لنا بهذا كله ولغتنا كما عرفت في هذا التقلص والانقباض؟
لا بد لنا من تناول العلم والفن، ومن تناول وسائل الرقي والقوة والعظمة جميعا، وتناول هذا في لغة ضرب من المحال، وتناوله في لغة قاصرة من معضل الأشكال!
وهنا تتصدع الآراء وتفترق الطرق؛ فقوم منا يذهبون إلى أخذ العلوم والفنون وسائر حاجات الحضارة في لغاها، وتناولها في أسمائها المعروفة ومصطلحاتها المقسومة في تلك اللغى حرصا على سلامة العلوم والفنون، واختصارا للزمن وتوثيقا للصلات بيننا وبين ينابيع الحضارة في بلاد الغربيين، وأرفق هؤلاء من يقولون بالتعريب في كل شيء حتى فيما له تعبير عربي قديم!
ويخالف هؤلاء آخرون إلى وجوب تناول كل شيء بالعربية الصميمة لا أثر فيها لأي استعجام، مهما يكن المعني مما لا عهد للعربية به في يوم من الأيام.
ينبغي أن يكون كل شيء عربيا مخلصا، فإذا كان بين أصحاب هذا الرأي مسرف في المرونة والترخص رضي بأن يصار إلى التعريب إذا عيت وسائل العربية جميعا بإصابة المعني المطلوب، وهيهات أن تعيا في ظن الكثيرين.
Bilinmeyen sayfa