والعلم يرفع كل من لم يرفع
فإذا كانت قد نفضت عن نفسها ما كان لحقها من غفلة ورقاد، إذن فقد تجردت من قيود المادة وأصفادها وغدت عنصرا عقليا صرفا لا تشوبه شائبة من كدورة أو نقص، مبرأة عن حاجات البدن التي تجذبها إلى أسفل، واتصلت بالعالم الروحاني المجرد، فأحست بالنشوة والسعادة وغردت سرورا لما ظفرت به بذلك الاتصال، ولعلك هنا تحتج على الفيلسوف وتعترض حديثه، فما لهذه الأرواح قد صعدت إلى العالم الأقدس ولم تلبث حول أجسادها محومة باكية راثية إلفها الحبيب، فهو يجيبك إنما ترتفع إلى هذه الذروة الشاهقة السامية، تلكم الأرواح التي كسبت من العلم قدرا محمودا وحظا موفورا، وإن العلم لجد كفيل أن يرفع إلى حالق ما من شأنه أن يكون في الحضيض الأخس فضلا عما يكون له بطبيعته اتصال وقربي بالعالم الأشرف الرفيع.
فلأي شيء أهبطت من شامخ
عال إلى قعر الحضيض الأوضع
ولكن قف! أأنت محدثي يا صاح فيم هذا العناء كله إن كان مصير الروح في نهاية أمرها أن تعود إلى حيث بدأت السير؟ فلقد زعمت لي أنها هبطت من عل فحلت بالبدن حينا من الدهر ثم أخذت سبيلها آخر الشوط إلى مستقرها الذي صدرت عنه وفاضت منه! ما هي الحكمة الباعثة للنفس أن تهبط من ذراها هاوية إلى الدرك الأسفل؟!
إن كان أهبطها الإله لحكمة
طويت عن الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لا شك ضربة لازب
لتكون سامعة لما لم تسمع
هكذا تساءل صاحبي في دهشة وعجب، قال: إن كان الله جل وعلا قد أهبطها لحكمة خفيت عن بصائرنا، واستعصت على إدراكنا، بل طويت عمن بلغ منا من الحكمة أروعها وأبعدها غورا، فلا ريب في أن الله تعالى إنما ضرب الهبوط على النفس ضربا وألزمها به إلزاما لعلها في هذا العالم الأرضي توفق إلى اكتساب المعرفة، واستيفاء أسباب الكمال؛ إذ كانت في أول أمرها جاهلة ساذجة غافلة، فأهبطها لتسمع ما لم تكن قد سمعت به من العلوم والأخلاق، وسبيلها إلى ذلك هي الحواس والعقل:
Bilinmeyen sayfa