بين المعالم والطلول الخضع
يا ويح النفس! والله لكم أخشى أن تكون الروح قد مازجت المادة حتى فسدت عنصرا؛ فهي لم تكد تهبط من أبعد الذري لتمس عالم المادة حتى علقت به وهو بعد لا يأتلف إلا من الخسيس الكثيف الذي يندر أن يكون سبيلا إلى الكمال (ذات الأجرع هي المادة الأرضية الكثيفة أي البدن)، نعم، لم تكد تهبط الروح، وتدب في مادة الجسد حتى علقت بها هذه المادة الجثمانية وأحلتها بين أجزائها وطي ثناياها، بين معالم الجسد وأطلاله الخربة المتداعية، بين عظامه وغضاريفه ولحمه وشحمه، التي تخضع للفناء وتئول للبطلان وتنقلب إلى الدثور، ولكن لعلها قد دبت بين أجزاء الجسد الفانية لا لتجري مجراها، ولكن لتستخدمها في تحصيل المعارف والفضائل:
تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى
بمدامع تهمي ولم تتقطع
لقد حم القضاء ووقعت الواقعة؛ فقد حان للروح حين فراقها وجاء أجلها، وها هي ذي قد فصلت عن رفيقها وخلفته وراءها رمادا وترابا، فهي إذا ما ألقت بنظرها إلى هذه الأوصال المفككة، وإلى هذا البيت المعمور، وقد دب فيه الخراب والدمار، عظم عليها الوجد وجل في عينها الخطب، وقد تتزاحم أمامها ذكريات الماضي أيام كانت تنعم بزمالة هذا البدن المحطوم في شتى ألوان النعيم، فتتفجع وتتوجع وتحزن وتأسى، فإن كانت روحا خيرة فاضلة كانت فجيعتها أن افتقدت أداة الخير والفضيلة إذ افتقدت الجسد، وإن كانت روحا شريرة خبيثة مستهترة كانت حسرتها أن سلبت وسيلة اللذة والمتاع، ألا وهي الجسد كذلك:
وتظل ساجعة على الدمن التي
درست بتكرار الرياح الأربع
ولا تحسبن الروح بعد فراقها للجسد قد غفلت عنه وأنسيته بل إنها تتردد إليه الحين بعد الحين، فتقف بإزائه باكية نادبة، وقد أبت قريحة الشاعر الفيلسوف إلا أن تصور الروح، وقد جاءت تنشد أطلال الجسد فتجد منه بقية باقية يهيج منظرها ما كان كامنا فيها من شجون، وإنما تعظم الحسرة إذا بقيت من منازل الأحباب آثارها لما تثيره في النفس من ألم وحنين، أما تلك الرياح الأربع التي ما فتئت تهب على مادة الجسد حتى درستها درسا، فيغلب أن تكون الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي لا تنفك تعتور الصخور الصلدة حتى تفتتها هشيما تذروه الرياح هنا وهناك، فتنطمس المعالم الأولى انطماسا تشوه بعده وتتنكر، ولست بحاجة إلى أن ألاحظ لك يا صديقي أن في هذا البيت تصريحا من الفيلسوف بخلود الروح بعد الموت؛ فهي باقية خالدة تروح وتغدو، ويستحيل عليها التحلل والفناء:
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها
قفص عن الأوج الفسيح المربع
Bilinmeyen sayfa