إن الآلام والأفراح لا تكون إلا داخل نفوس أصحابها، وكذلك يكون الحب وتكون الكراهية وكل عاطفة إنسانية أخرى، فماذا يريدنا أصحاب «الأدب العلمي» أن نصنع بهذه العواطف إذا ما هممنا بكتابة الأدب؟ الحق أننا قد تعودنا من أدبائنا أن يكتبوا لنا في الصحف عن السياسة وغير السياسة من شئون، فحسبنا بحكم العادة أن الأدب إنما يكون هكذا معالجة لموضوعات مما يصح أن يدق فيها البحث بعض الشيء فيكون الحاصل علما، لكن ما هكذا الأدب الأصيل الخالق المبدع.
إذا أردنا أن نقيم للنقد الأدبي ميزانا عادلا، فلنبدأ أولا بتصور الأدب تصورا صحيحا. ومهما تكن هذه الصورة الصحيحة، فهي ليست مما يتصل بالعلم بسبب من الأسباب.
الليلة والبارحة
(أرسلت هذه المقالة من واشنطن.) ***
نعم ما أشبه الليلة بالبارحة في كثير جدا من الأشياء ، ما أشبههما في ظواهر الطبيعة وفي مظاهر الفكر سواء بسواء ، ها هي ذي أوراق الخريف قد ملأت الطريق، وكلما أزالها الكانسون صبحا، عادت منها مجموعة أخرى فملأت الطريق من جديد، كما كانت تملؤه في عام سلف وفي عام قبل الذي سلف، والليل والنهار يتعاقبان كما تعاقبا، والفصول تتتابع كما تتابعت، فديوان الطبيعة قصائده من شعر مقفى، السطر منه يقفو سطرا في وزنه ورويه، وهكذا قل في الإنسان وفكره، فجديد الفكر يندثر قديما، ثم يعود القديم فيطفو على سطح الحياة جديدا.
خطر لي هذا الخاطر عندما أخذت أتعقب خيوط النقد الأدبي في أمريكا، لأرى إن كانت هذه الكثرة من أصحاب النقد الأدبي هنا تنطوي في حقيقة أمرها تحت مبدأ واحد عام شامل، يصح أن نسميه بالمدرسة الأمريكية في النقد الأدبي، وليس بالهين أن ترد هذه الأشتات المتفرقة إلى وحدة واحدة، فإنه لما يستوقف النظر حتما هذا العدد الكبير من المجلات الأدبية التي كتبت للخاصة، أو خاصة الخاصة، والتي لا نكاد نسمع عنها شيئا في بلادنا؛ لأنها مجلات محصورة التوزيع، توشك أن تنحصر في مكتبات الجامعات، كأنما المختص يكتب للمختص ولا شأن لهذين بسائر الناس، ولا بد أن أذكر حقيقة هنا قبل نسيانها، وهي أن الكاتب في أمثال هذه المجلات لا يؤجر على ما كتب، وحسبه غنيمة أدبية أن ينتقل مخطوطه إلى مطبوع، ومن أمثال هذه المجلات التي أعنيها «كنين» و«سيواني» و«هدسن» و«بارتزان»، كل مجلة من هذه الطائفة تصدر مترعة بالمقالات المستفيضة الدقيقة العميقة في النقد الأدبي، وأعود فأقول إنه ليس من الهين أن ترد هذه الأشتات إلى وحدة حتى إن كان بينها وحدة.
وإذن فلأبدأ من طرف آخر، لأبدأ من النقاد الذين أصدروا في النقد الأدبي كتبا، فلعل الكتاب يبلور ما تشتته المقالة، وهنا لم ألبث أن عثرت على الأسماء الضخمة في ميدان النقد، فسرت مع هذه الأسماء راجعا خطوة بعد خطوة حتى وجدت ما يصلح أن يكون نقطة ابتداء، وهو كتاب لأحد هؤلاء الأعلام، هو «سبنجارن» والكتاب عنوانه «النقد الجديد» صدر عام 1911م، فهو معدود هنا كالإمام الذي يتبعه التابعون، و«النقد الجديد» متن يرجع إليه إذا ما أشكل الأمر على من أراد أن يكون في منحاه الأدبي تابعا ل «النقد الجديد»، فما هذا «الجديد»؟ «الجديد» عند سبنجارن وتابعيه - وسترى بعد قليل أنهم هم الذين يطبعون الحركة النقدية في أمريكا اليوم بطابعهم - هو باختصار شديد: «أن يكون الأثر الأدبي نفسه موضع الاهتمام والدرس.»
فأنت تعلم أن الناقدين ليسوا في ذلك على كلمة سواء، فإذا ما صدر أثر أدبي، ولنضرب مثلا بكتاب «الأيام» لأديبنا الدكتور طه حسين، كان هنالك بصدوره أربعة أشياء؛ الكتاب الذي صدر، والكاتب الذي أصدره، والمحيط الذي ظهر فيه مكانا وزمانا، والناقد الذي يريد أن يتناوله بالدراسة الأدبية، فأي هذه الأربعة يكون محور الدراسة الأساسي وموضع الاهتمام الأول؟ هل نتناول «الأيام» نحلله ما وسعنا التحليل، ونحلله عبارة عبارة، لنرى خصائص الكلام على صفحاته ما هي بغض النظر عن شخص كاتبه أو زمان كتابته ومكانها؟ وعندئذ لا يكون ثمة فرق كبير عند الدارس بين أن يكون كتاب «الأيام» قد صدر أمس أو منذ ألف عام، أصدره الدكتور طه حسين أو أصدره سواه، نشر في مصر أو في البرازيل؟ هذه مدرسة نقدية، ومدرسة أخرى تقول إن كتاب «الأيام» إن هو إلا عبارة عبر بها أديب عن بعض نفسه، إن هو إلا مشير يشير إلى حقيقة كائنة وراءه أهم منه لأنها الأصل، وأشمل منه لأنها وسعت أكثر منه، وتلك الحقيقة الكامنة وراء الكتاب هي الكاتب الذي كتب، هي الأديب الذي عبر، وإذن فليكن «الرجل» نفسه موضع دراستنا واهتمامنا، وهذه مدرسة نقدية أخرى، ومدرسة ثالثة تريد أن تتعمق الأمور إلى أصولها الأولى، فلئن كان الكتاب فرعا عن أصل هو كاتبه، فالكاتب نفسه فرع على أصل هي ظروفه التي أحاطت به، كيف تستطيع أن تفهم كتاب «الأيام» حق الفهم دون أن تلم مثلا بالأزهر وبالريف المصري، ودون أن تلم بكثير جدا من العلاقات الإنسانية كما وهي قائمة في الأسرة المصرية وغيرها من وحدات المجتمع؟ وتلك مدرسة نقدية ثالثة، وأما المدرسة النقدية الرابعة فهي التي يؤثر الناقد فيها أن يرتد إلى نفسه هو، فلا الكتاب في ذاته، ولا صاحب الكتاب، ولا الظروف التي صدر فيها الكتاب بذات قيمة كبرى بالقياس إلى أثر الكتاب في نفس ناقده؛ إذ بغير هذا الأثر لا يكون ناقد ولا نقد، وإذن فلتكن المقالة النقدية هي تعبير الناقد عن إحساسه هو عندما قرأ الكتاب.
ونعود إلى مدرسة «النقد الجديد» في أمريكا، التي بدأها «سبنجارن» بكتابه هذا، لنقول إن «الجديد» عندها هو أن يكون النقد منصبا على الأثر الأدبي نفسه، منحصرا في النص ذاته، فأمام الناقد ترقيم على صفحة من كتاب، هذا الترقيم هو مجاله الذي لا مجال له سواه، فمهمته - إذن - هي أن يحلل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشرت أمامه على صفحات الكتاب ليرى كيف ركبت أجزاؤها. على الناقد أن يسأل نفسه سؤالا، هو: ما الغاية التي يستهدفها الكاتب، وهل هذه العبارات التي أمامه، هذه الرموز اللفظية التي يقرؤها، تؤدي إلى ذلك الهدف؟ وعملية النقد بعد ذلك النقد هي الإجابة عن هذا السؤال.
يظل «سبنجارن» يعيد في كتابه مرة بعد مرة قوله «النص ولا شيء إلا النص.» «الكلمات المرقومة على الصفحة» هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هي مهمة الناقد، إن الأثر الأدبي لا ينبغي أن يعتمد في تفهمه على شيء سواه، وإذن فلا بد أن تكون كل العناصر كائنة فيه وبين دفتيه؛ فإن اضطرتك كلمة في الكتاب أو عبارة فيه إلى الرجوع إلى شيء في البيئة لتفهم معناها، فلا يزال معنى الكلمة أو العبارة هو الذي يشغلك.
Bilinmeyen sayfa