وأعجب العجب في هذا الصدد أن نفتح «منهج البحث في الأدب واللغة» للانسون، وهو الذي يوصينا به الدكتور مندور لنهتدي سواء السبيل، فنرى الرجل يفتتح بحثه قائلا: «فالنقد التأثري نقد مشروع لا غبار عليه، ما ظل في حدود مدلوله، ولكن موضع الخطر هو أنه لا يقف قط عند تلك الحدود، فالرجل الذي يصف ما يشعر به عندما يقرأ كتابا مكتفيا بتقرير الأثر الذي تخلفه تلك القراءة في نفسه، يقدم بلا ريب للتاريخ الأدبي وثيقة قيمة ... ولكن مثل هذا الناقد قلما يمسك عن أن يزج بأحكام تاريخية خلال وصفه لأثر الكتاب في نفسه، أو أن يتخذ من ذلك الأثر وصفا لحقيقة الكتاب الذي يقرؤه ... ولذا كان من أهم وظائف المنهج أن يطارد هذا النقد التأثري.»
كلا، أيها القارئ الكريم، لسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان، أن تقرأ وتتذوق ثم تسكت، فلا تكون شيئا بالنسبة إلينا، ولسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان أن تقرأ وتتذوق ثم تكلمنا لتثير فينا أثرا مثل الذي تأثرت به، وعندئذ تكون أديبا من المرتبة الثانية؛ فليس هنالك فرق جوهري في طبيعة الموقف بين تأثر الأديب الأصلي بالطبيعة مباشرة فيكتب، وبين أن تتأثر أنت بالأثر الأدبي فتكتب، وفضله عليك هو أنه أسبق منك إلى إدراك الجمال في الطبيعة، لكن كليكما مع ذلك أديب يتأثر فينشئ ليحدث في القارئ أثرا شبيها بأثره.
أما إذا أصررت على أن تكون ناقدا، فلا مندوحة لك عن خطوة بعد قراءة التذوق، خطوة هي وحدها التي تجعلك ناقدا، وهي أن تسأل نفسك ماذا في هذه القصيدة من العوامل الموضوعية التي أثارت في نفسي هذا الشعور أو ذاك؟ وقد ينتهي بك البحث - مثلا - إلى أن اختيار الشاعر للبحر الطويل جاء موفقا لأنه يناسب موضوعه فأحدث ما أراد أن يحدثه من أثر في نفس القارئ أو السامع، أو إلى أن كثرة الراءات في هذا البيت جعلته جميلا، وكثرة السينات والصادات في ذاك ... لكن هذه وأشباهها قواعد عامة، فكأنك تقول: كل بيت يصف خرير الماء وتكثر فيه الراءات فهو جميل في هذا الجانب منه، وكل بيت يصف الحرب بالسيوف وتكثر فيه السينات والصادات فهو جميل كذلك في هذا الجانب منه، وهكذا. أنت هنا لا تنقل إلينا عناصر تجتمع فتكون موقفا فريدا لا يتكرر، بل تحدثنا عن قواعد عامة تتكرر في كل حالة شبيهة بالحالة التي أنت بصدد تحليلها وما دمت في مجال التعميم فأنت عالم وإذن فالنقد علم، ثم يقتضيك المنطق - أي العقل - ألا تناقض ما تقوله في موضع، بما تقوله في موضع آخر، فلا تقل مثلا في موضع ما: إن البحر الطويل يناسب التعبير عن الحزن لأنه بطيء والحزين بطيء الحركات والكلمات. ثم تناقض ذلك في موضع آخر وتزعم لنا أن البحر الطويل لا يناسب الحزن، وإن كان هذا هكذا فأنت تصدر فيما نقول عن عقل، إنك حين تنقد، عالم لا فنان، يبني كلامه على عقل - أي يخلصه من تناقض أجزائه - لا على الذوق الذي يتأثر بهذا الفرد الجزئي أو ذاك وكفى.
ولأنك في نقدك عالم يبني قوله على العقل، أمكن أن نناقشك الحساب فيما تقول، فنعترف لك بصدق قولك أو ندعي عليك الكذب، ولا يكون كذب أو صدق إلا فيما يصور شيئا موضوعيا بعيدا عن ذوقك الخاص وشعورك الخاص، بل يستحيل استحالة قاطعة أن تفيدني شيئا على الإطلاق بكلامك، إذا أردت أن تنقل إلي هذا الذوق الخاص وهذا الشعور الخاص؛ لأنه خاص بك مصبوب في أعصابك.
لست إذن أوافق أديبينا الكريمين؛ الدكتور مندور في كتابه «النقد المنهجي عند العرب»، والأستاذ علي أدهم في كتابه «على هامش الأدب والنقد» فيما ذهبا إليه من أن النقد فن ومرده للذوق، وأصر - كما قلت - على أن يكون علما، مرجعه إلى العقل، على شرط أن تفهم هذه الألفاظ بما حددت لها من معان.
اللحظة المسحورة
هي تلك التي يلقطها الفنان من مجرى الزمن، فيخطها على الورق لفظا ورسما، أو يثبتها على الحجر نحتا ونقشا، فذلك هو الفن بأدق معناه.
الفن الأصيل الصحيح هو أن تثبت حالة من حالات الوجود بتفصيلاتها التي تجعلها فردا فريدا بين سائر الحالات، بحيث تعرف كيف تتخير لها من تفصيلاتها ما يخلع عليها بين سائر أخواتها ذلك التفرد الذي لا يشاركها فيه شريك آخر على امتداد الزمن واتساع الكون وتعدد الكائنات.
فمن سر الحياة هذا التفرد العجيب بين الأحياء، بحيث يستحيل على فردين أن يتشابها إلى حد التطابق الكامل؛ فالأم تعرف رضيعها بين ألف آخرين؛ لأنه مهما اشتدت أوجه الشبه بينه وبين هؤلاء الآخرين، فله من الخصائص ما يميزه عند النظرة التي تدفعها الفطرة السليمة إلى الوقوف عند جوانب التباين والاختلاف.
قد ترى جماعة الطير أو البقر، فيتشابه عليك أفرادها، حتى لتظن ألا اختلاف بين تلك الأفراد، وتظل كذلك ما دمت لا ترى في نفسك الدافع الذي يحفزك إلى تدقيق النظر فيما بين الأفراد من فروق، فإذا ما نشأ في نفسك ذلك الدافع لسبب ما، ألفيت لكل عصفور خصائصه الفذة، ولكل بقرة مميزاتها الفريدة، ويكون رسم العصفور أو البقرة فنا أو لا يكون، بمقدار توفيقك في إبراز المميزات التي قد جعلت ما رسمته واحدا لا شريك له بين سائر الطير والبقر.
Bilinmeyen sayfa