على أننا إذا سلمنا بخلو هذا القول من التناقض، فلسنا نسلم بصوابه، ونعجب غاية العجب أن يقال للناقد: «تذوق الأدب تذوقك الطعام والشراب، ثم اكتب!» ماذا تكتب يا سيدي في تفضيل الكمثرى أو البرتقال، إذا أقمت المفاضلة على أساس الذوق وحده؟!
كلا، لسنا نرى هذا الرأي، و«نصر» على أن يقوم النقد على تدليل عقلي، نصر على أن يكون النقد «علما»، ولا نوافق الدكتور مندور في رأيه الذي أثبته في صفحة (2): «والنقد ليس علما ولا يمكن أن يكون علما، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم.» فها هنا كذلك ينظر إلى الجنة بعين وإلى النار بعين؛ فلست أدري يا سيدي ما العلم وما روحه؟!
تعريف العلم هو منهج البحث، ولست أعلم للعلم تعريفا غير هذا، فلتكن مادتك ما شئت لها أن تكون، لتكن أفلاك السماء أو أحجار الأرض، لتكن ماء أو هواء، لتكن ذهبا أو نحاسا، لتكن أدبا أو تاريخا، ف «هي علم» إذا اصطنعت في بحثها «منهجا»؛ ليس العلم «حقائق» بعينها، بل هو «ترتيب منهجي» لما شئت من حقائق، فإذا علمنا أن الدكتور مندور تحمل عناء كتابه ليبين للناس قواعد «النقد المنهجي» علمنا كذلك أنه أراد للنقد أن يكون علما - رضي أو كره - ولو جعلنا النقد منهجيا يا سيدي الدكتور - كما أردت له أنت أن يكون - إذن لجعلناه علما، وإذن لصددنا عنه رجالا أدعياء يستخفون حمله وإن حمله لثقيل.
وإنه لتعجبني في هذا الصدد عبارة ساقها الأستاذ المؤلف نقلا عن لنسون (ص6) تأييدا لرأيه، والواقع أنها أقرب إلى تأييد الرأي الذي أدعو إليه، في ختام العبارة المذكورة يطالبنا لنسون بعدم الخلط بين المعرفة والإحساس، وهو في ذلك مصيب؛ فلنا أن نتذوق القطعة الأدبية، لكن هذا التذوق لا يكون معرفة ؛ وبالتالي لا يجعل الناقد ناقدا، وإنما تبدأ عملية النقد الفني بعد أن تنتهي مرحلة التذوق، فالتذوق يأتي أولا، ثم يعقبه تحليل - إذا أمكن - للعناصر الموضوعية التي أثارت هذا التذوق، وهذا التحليل الموضوعي هو المعرفة، وهو النقد بأدق معناه، ولو وقفت عند مرحلة الذوق لما نطقت بكلمة واحدة، بل لما كنت شيئا على الإطلاق بالنسبة إلى سواك، وماذا عسى أن يقول لغيره المستدفئ بضوء الشمس في برد الشتاء؟!
وننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى أريد أن أجادل فيها الكاتب أعنف الجدل، وهي هذا الرأي العجيب الذي يقوله في مواضع كثيرة وبصور مختلفة، من أن «الشعر لا يحتاج إلى معرفة كبيرة بالحياة ونظر فيها، بل ربما كان الجهل بها أكثر مواتاة له، وكثيرا ما يكون أجوده أشده سذاجة» (ص7)، وهو يكرر مثل هذا الرأي في صفحة 22 وفي صفحة 96. أية حياة تريد يا سيدي، هذه التي لا يحتاج الشعر إلى معرفة كبيرة بها؟ ما دمت لم تعمد إلى تحديد، فأنت بالطبع إنما تريد الكلمة على إطلاقها؛ فليس - في رأيك - بالشاعر حاجة إلى معرفة حياة أحد من الناس ولا إلى معرفة بأحاسيسه هو وخواطره؛ لأن هذه الأحاسيس وهذه الخواطر هي الجزء الأكبر من حياته، بل ليس بالشاعر حاجة إلى معرفة الحيوان والنبات من حيث هي أحياء، وسواء لديه أكانت هذه حية أو جامدة، فماذا تريده أن يكتب إذن؟ وبماذا تريده أن يتغنى؟ ثم ماذا تعني ب «السذاجة» التي هي في الشعر علامة على أجود الشعر؟ لو كنت تريد بها تعبيرا عن عواطف الحياة الريفية أو البدائية، فنحن نوافقك، لكنا نذكرك بما لا بد أنت عالم به، وهو أن الحياة الريفية حياة، والحياة البدائية حياة كذلك. أتعلم يا سيدي أن الشاعر الإنجليزي وردزورث لم يصدق في شعره «الساذج» إلا عن اطلاع واسع أغرى بعض المؤرخين أن يقول عنه إنه أوسع الناس اطلاعا في عصره؟ وها هنا أيضا أشفق مرة أخرى على أوساط القراء في بلدنا من مثل هذا الرأي؛ فمعظم «شعرائنا» إنما يلتمسون قرض «الشعر » لخلاء رءوسهم، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة مثل الدكتور محمد مندور فأوصاهم بالزيادة فيما هم فيه من جهل وخلاء؟
2
رد الدكتور محمد مندور
تفضل الدكتور زكي نجيب محمود بأن خص كتابي «النقد المنهجي عند العرب» بمقال ضاف عميق.
لقد أوضح الدكتور في مقاله موضوع الكتاب، وعرض لطائفة كبيرة من المسائل التي استوقفت نظره، بل تكرم فقال في أكثر من موضع إنها قد أثارت إعجابه، إما للفكرة التي تحتويها أو للروح التي ترقد تحتها أو للقدرة على صياغتها في لفظ واضح مركز.
على أن هذه الروح الكريمة التي أملت على الكاتب تقريظه، لم تمنعه - كما يقتضي الواجب وكما تقتضي الرسالة الجامعية التي ينهض بها في تنشئة الأجيال الصاعدة - نعم لم تمنعه هذه الروح الكريمة، ولا منعته صداقته للمؤلف من أن يتناول بالمناقشة الصارمة مسألتين تعتبران من أمهات المسائل التي عالجناها في كتابنا. وهاتان المسألتان هما: (1)
Bilinmeyen sayfa