قلت: في الكلمات التي تكمن تحت كلمات.
قال: ما تعني؟
قلت: أعني شيئا كالذي قرأته ذات يوم من زمن بعيد، لكاتب إنجليزي، يروي عن خادمة له في مسكنه في الريف، فيقول إنها كانت تراسل رجلا مجهولا لها، سمعت عنوانه مما تذيعه نوادي هواة التراسل، ولبثت تبادله خطابا بخطاب مدة طويلة، وفاجأت مخدومها ذات صباح بأنها تريد السفر إلى لندن لتقضي يومين؛ إذ جاءتها دعوة ممن يراسلها ليلتقيا هناك، وقدمت للكاتب ذلك الخطاب الذي حمل لها الدعوة، فقرأه الكاتب، وقطب جبينه عند موضع منه، ثم سأل وكأنه يوجه السؤال إلى نفسه: لماذا أقحم هذه الكلمة إقحاما هنا؟ فقالت الخادمة: أية كلمة يا سيدي؟ أجابها: قوله عن نفسه «أنا مسيحي»، فماذا دعاه إلى ذكر ذلك؟ سألته الخادمة في شيء من الدهشة؟ وماذا لو قالها؟ أجابها الكاتب: أنا لا أقولها عن نفسي في خطاب ويقيني أنك كذلك لا تقولينها. قالت: لست أرى في ذكرها بأسا، فأجابها: بل فيها البأس كل البأس؛ لأنها كلمة زائدة واحذري يا ابنتي من أمثال هذه الكلمات التي تشعرين أنها جاءت مقحمة في السياق بغير داع؛ لأنها تنبئ بأن تحتها كلمات حذفت عن عمد، لكن الفتاة ألحت في طلب الإذن بالسفر، وسافرت إلى لندن، وكان مراسلها قد حدد لها مكان وقوفه انتظارا لقدومها تحت الساعة في محطة بادنجتن، وستكون في عروة سترته وردة حمراء، وذهبت الفتاة إلى المكان المحدد في الموعد المحدد، فلما أن أصبح الرجل ذو الوردة الحمراء، الواقف تحت الساعة، في مرأى بصرها، وجدته أبعد ما يكون إنسانا عما كانت قد تصورت، لونا وعمرا وصورة وجه، فلم تكمل طريقها إليه، وعادت إلى مخدومها في الريف، وما إن التقت عيناهما حتى قالت في لعثمة الخجل: نعم يا سيدي كانت الكلمة التي في خطابه تخفي تحتها كلمات.
أبراج بلا نوافذ
إذا كانت الذاكرة أمينة فيما تمدني به من قراءات الماضي البعيد، فأذكر أنني قرأت لحافظ إبراهيم - وربما كان ذلك في كتابه «ليالي سطيح» - قوله عن المصري: «المصري والمصري كشعبتي المقراض، لا تلتقيان على شيء إلا افترقتا.» ولم أكن حين قرأت ذلك فيما أذكر قد جاوزت الخامسة عشرة من عمري، وأعجبتني العبارة بإيقاع لفظها، وصدقتها، ومن ذا الذي في مثل تلك السن المراهقة، كان في وسعه أن يتشكك في أي شيء مطبوع في كتاب؟ لا سيما إذا كان مؤلف الكتاب تحيط به هالات من النور، وإذا كان ذلك المراهق القارئ قد نشأ نشأة تخيفه من أصحاب السلطان، كائنا ما كان نوع السلطة التي يتسلطون بها على الناس، ومنها سلطان الشهرة لمن كانت أسماؤهم تملأ القلوب والأسماع.
قرأت تلك العبارة، وأعجبتني، فصدقتها، ثم ذهبت من الحياة أعوام وجاءت أعوام، وأراد لي الله خيرا؛ إذ هيأ لي ظروفا أرهفت عندي حاسة النقد، فأصبحت حاسة قادرة على النظر إلى الأمور من شتى جوانبها، وعندئذ عادت إلى ذاكرتي تلك العبارة القديمة، محمولة مع غيرها في تيار الذكريات، وفجأة وقفت عندها: أحقا يكون المصري مع المصري الآخر، كشعبتي المقراض، لا تكادان تتلاقيان تحت ضغطة الأصابع، حتى يعودا ليفترقا من جديد؟ كلا، كلا لقد أخطأ صاحب هذا القول من وجهين: أولهما هو أن الصورة التي اختارها ليدل بها على امتناع روح التعاون بين أبناء مصر، إنما هي صورة تدل على عكس ما أراد؛ وذلك لأن شعبتي المقراض حين تفترقان بعد إذ تلاقتا، تكونان قد فرغتا من أداء ما تلاقتا لأدائه، أي أن التعاون بينهما يكون قد تم وأنجز ما أريد له أن ينجزه. وأما الوجه الثاني لخطأ ذلك القول، فهو أهم وأخطر؛ لأنه زعم يكذبه تاريخ مصر، منذ أول خطوة له على الطريق وإلى عدة قرون توالت بعد ذلك على امتداد الزمن، وتكفيك نظرة سريعة إلى منجزات الحضارة المصرية، لترى أن كثيرا جدا من تلك المنجزات هو من ذوات الجسامة والضخامة مما يستحيل على فرد واحد، أو عدد قليل من الأفراد، أن يؤديه بل لا بد له من جماعات كبيرة تتعاون على إنجازه كالأهرامات والمسلات وأعمدة الهياكل، وإقامة الجسور أيام الفيضان وغير ذلك، فكيف جاز لمصر أن تصنع كل هذا، إذا كان المصري بطبيعته لا يتعاون مع زميله المصري على إنتاج مشترك؟
ولم يكن ذلك التعاون - كما يبدو في منتجاتهم الضخمة المتروكة لنا - مقصورا على عصور الحضارة الفرعونية من تاريخنا، بل نراه ظاهرا كذلك فيما تركته العصور التالية، فحتى المصنوعات الخشبية أو النحاسية أو غيرهما، هي في معظمها مما كان يستحيل إنجازه بغير تعاون وثيق بين العاملين. ولقد حدثني خبير في الفنون - إبداعا، ونقدا، وتاريخا - عن مزاج موروث عند الفنان المصري، منذ عهود أسلافه القدماء، في أن يستخدم الوحدات الضخمة في عمله كلما أمكن ذلك، وأذكر أنه في حديثه ذاك، قد ساق شاهدا جامع السلطان حسن بالقاهرة، قائلا: إن أحجاره في ضخامتها، تعيد إلى الذاكرة أحجار الأهرامات، فالمبدأ واحد في الحالتين، ولا ينفيه أن تكون أحجار الأهرامات أكبر حجما من أحجار المسجد المذكور.
فكرة التعاون بين المصري والمصري، هي - إذن - فكرة أصيلة في ثقافته ، التي نشأ عليها ودامت معه قرونا، حتى لقد تبلغ بنا أحيانا حد الإسراف، بحيث تنطمس معالم الفرد المستقل بشخصيته المتميزة مما قد يعاب علينا، بل وقد نعيبه نحن على أنفسنا حين نراه قد جاوز الحدود، فأخفى غير العامل في زحمة العاملين.
وربما كان المصري - بانصهاره في مجتمعه - قد شذ عما كان سائدا في شعوب أخرى، حيث كانت الفردية المستقلة بذاتها عن سائر الناس، هي الصورة المثلى، قبل أن يجيء عصرنا هذا الذي نعيش فيه، فتجيء معه صورة أخرى، لا نرى في الفرد الواحد من أفراد الناس، إلا محورا لعلاقات متشابكة تربطه بغيره من الأحياء والأشياء، وأصبحت تلك الفردية المستقلة وحدها، والتي لعبت بخيال السابقين، ضربا من ضروب المحال.
نعم، كان المصري لا يعرف الحياة إلا تعاونا مع آخرين، من أبناء أسرته، وقريته، وأمته، حينما كان الإنسان في شعوب أخرى، على وهم بأنه يستطيع أن يستقل بذاته معزولا عن سائر الأفراد، وكأنه جزيرة قائمة وحدها، يفصلها الماء عما سواها من جميع أقطارها وهو وهم تراه منعكسا في تصورات الفلاسفة والأدباء على تعاقب العصور «قبل عصرنا» وفي مختلف الشعوب، بل وكان من هؤلاء من هو عربي في بلد غير مصر.
Bilinmeyen sayfa