ما أنزل الله بها من سلطان ، وفي تلك الإشارة ما ينبهنا إلى وجوب التمييز بين ضربين من اللغة، أو ضربين من استخدامها، فاللغة قد تكون مزودة بقوة من الله وقد لا تكون، وإذا نحن أدركنا الفارق بين الحالتين عرفنا أنه هو الفارق بين الحق والباطل. وماذا يكون الحق في استخدام اللغة إلا أن تكون أداة توصلنا إلى ما وراءها من حقائق الوجود الخارجي، فانظر إلى النقلة الكبرى التي نتعلمها إذا نحن قرأنا كتاب الله قراءة نقفز بها إلى آفاق العمل والتطبيق.
ولقد كنا نتحدث عن «العلم» باعتباره أبرز ملمح من ملامح العصر، حين يصب أكثر اهتمامه إلى دراسة ظواهر العالم، من ضوء وصوت وكهرباء إلى نبات وحيوان وإنسان. ولي الآن أن أضيف إلى ما قلته أن المسلم لم يكن في عصرنا هو المتفكر في خلق السماوات والأرض، بل ترك ذلك لغير المسلمين، وكان ذلك للسبب الذي أسلفناه، وهو أن المسلم قد اكتفى بتلاوة الآية الكريمة، ولم يعقب على تلك التلاوة بالتنفيذ، وكان أن ظفر بالعلم المطلوب، أو بشيء منه، قوم كانوا وكأنهم اتبعوا مضمون الآية دون تلاوتها.
ماذا في الإسلام يمنع أن يكون المسلمون هم الذين أقاموا حضارة عصرنا هذا بكل مقوماته الأساسية؟ وأين هو الشيطان الذي وسوس لنا بأن الحياة الروحية تتحقق بالتلاوة مجردة عن التنفيذ، وأما عمليات الكشف العلمي نفسها فمتروكة لأولئك الماديين الملاعين؟ الحياة الروحية في أسمى درجاتها وأكملها هي في تلاوة القرآن الكريم والانطلاق إلى آفاق الدنيا تنفيذا لأوامره.
سلني مرة أخرى: ألا يكفينا الإسلام ويغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟ أجبك مرة أخرى: نعم إسلامنا يكفينا إذا نحن عشنا به حياة المسلمين، وهي حياة لا ترفض شيئا من دعائم الحضارة الراهنة، بل هي تضيف كل تلك الدعائم إلى ما عندها موروثا عن السابقين.
الدين والتدين وعلم الدين
شاءت لي المصادفات منذ وقت قريب، أن أسمع من عالمين من علماء الدين، قد يكونان مختلفين في كثير جدا من جوانب الحياة وأوضاعها، لكنهما بغير شك يتفقان في أنهما من ذوي الفضل والعلم ورفعة المقاصد. أقول إن المصادفة قد شاءت لي أن أسمع منهما كلاما يفرقان به بين «الدين » من جهة و«التدين» من جهة أخرى، وكان الذي يقصدان إليه من هذه التفرقة، هو أنه إذا كان التدين واجبا على كل مسلم على السواء، فالدين هو من شأن علمائه وحدهم، دون سائر المؤمنين به. ويترتب على ذلك أن تكون الكلمة فيما يجوز وما لا يجوز من أمور الدين، مقصورة على العلماء، وواجب العامة بعد ذلك هو السمع والطاعة. وكان مما سمعته من العالمين الفاضلين في سياق الحديث مع كل منهما (وكان الحديث مقروءا في إحدى الحالتين، ومسموعا مباشرة في الحالة الأخرى) تأكيدهما بأن الدين علم، وأما «التدين» فهو وحده الجانب المتروك لكل مؤمن في انفراده.
ولم يكن العالمان الفاضلان على صواب - كل الصواب - فيما ذهبا إليه؛ فليس الأمر مقصورا على طرفين: دين في ناحية، وتدين في ناحية أخرى، بل هو ثلاثي الأطراف: فهنالك «الدين» أولا، وهنالك من يتدين به ثانيا، ثم هناك «العلم» الذي يقام عليه ثالثا، وقبل أن أتناول هذه الفكرة بالشرح الذي يوضحها، أقول إنه لو كان الفرق بين الرأيين فرقا شكليا فقط، لما تعرضت له هنا، وحاولت عرضه؛ لأنني - والله يعلم - ما فعلت ذلك إلا بعد تردد طويل، لكنه فرق يجاوز مجرد الشكل إلى صميم الموضوع، مما قد يترتب عليه غموض فيما يجب على المؤمن العلم به، وما ليس له وجوب. وعلى أية حال، فتحديد الفواصل بين المعاني المختلفة في مثل هذا المجال الحيوي الهام، إنما هو من أوجب الواجبات على من يستطيع بذل المحاولات الواعية في سبيل ذلك التحديد، وأحسبني ممن يستطيعون.
والحقيقة الأولى:
التي أقدمها لتكون هي الركيزة التي نقيم عليها تفكيرنا، هي أن حقائق الواقع في ذاتها ليست هي العلم، وإنما هي ما يقام عليه العلم، فانظر إلى هذه الأمثلة المختلفة التي أسوقها بين يديك، وتدبرها مليا، قبل أن ننتقل إلى موضوعنا الذي أردنا الحديث فيه: إذا رأيت شجرة يستظل بها عابر سبيل، فهنالك ثلاثة أطراف متميز بعضها من بعض، ولكنها كذلك موصولة بعضها ببعض؛ فهنالك الأمر الواقع الذي هو الشجرة، ثم هنالك من شاء له حظه أن ينعم بها فيستريح، وهنالك فوق ذلك «علم» أقيم على هذه الشجرة وأمثالها، وهو علم النبات. فإذا قال لك قائل في هذه الحالة: الشجرة علم، فماذا أنت قائل له إلا أن تصححه بقولك: إن الشجرة ذاتها ليست هي العلم، وإنما هي وأمثالها، موضوع طرح للبحث العلمي، وأقيم عليه علم يسمونه علم النبات. وواضح أن الشجرة والعلم المقام عليها يختلفان عن طرف ثالث، هو عابر الطريق الذي التمس راحته في ظلها.
خذ مثلا ثانيا: «اللغة» - ولتكن لغتنا العربية - فهي كذلك حقيقة من حقائق الواقع الفعلي؛ إذ هنالك أمة تتكلمها وتكتبها، وهنالك كتب كتبت بها تعد بالملايين. وهنا في حالة اللغة - كما رأينا في مثال الشجرة - نستطيع أن نميز بين ثلاثة أطراف، منفصلة ومتصلة في آن واحد، فهنالك «اللغة» واقعا من الواقع، نسمعها بآذاننا، ونكتبها بأقلامنا، ونقرؤها بأبصارنا، ثم هنالك «علم» (أو علوم) تقام على تلك اللغة، كعلم النحو وعلم الاشتقاق، وغيرهما. وقد كان يمكن أن تقوم اللغة ولا تقوم علومها، مما يقطع بأن اللغة ذاتها شيء، وعلومها شيء آخر. وهنالك إلى جانب اللغة وعلومها طرف ثالث، هو من يستخدمون تلك اللغة كلاما وكتابة.
Bilinmeyen sayfa