حين فرغ ابن رشد من كتابه «فصل المقال» كان بذلك قد فرغ من رحلته الأولى، التي بدأها بالنظر فيما خلفه القدماء من فلسفة ومنطق، لينتهي إلى أن الشريعة تؤيده وتحث عليه؛ لأنه بمثابة النظر في الموجودات المصنوعة، نظرا يدل على صانعها. فانتقل بعد ذلك إلى رحلته الثانية المضادة في اتجاهها لاتجاه الرحلة الأولى؛ إذ هي تبدأ هذه المرة من النظر في الشريعة نظرا يدل آخر الأمر على أنه هو ما كان النظر العقلي قد تأدى إليه، وكانت هذه الرحلة الثانية هي موضوع كتابه «مناهج الأدلة في عقائد الملة».
بدأه بإشارة سريعة إلى عمله في المرحلة الأولى، ليبين للقارئ أنه إنما يستأنف بجهده الحالي جهدا سابقا، فقال: «لما كنا قد بينا، قبل هذا، في قول أفردناه (يشير بذلك إلى «فصل المقال») مطابقة الحكمة للشرع وأثر الشريعة بها، قلنا هناك إن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وأن الظاهر منها فرض الجمهور، وأن المؤول فرض العلماء.»
17
وبهذه الإشارة السريعة لخص ابن رشد نتيجة من أهم النتائج التي قدمها في كتابه الأول، وهي قسمة الناس إلى جمهور وعلماء. أما الجمهور فلا يجوز له مجاوزة الشرع في ظاهر نصوصه، وأما العلماء فهم وحدهم الذين لهم حق تأويل ذلك الظاهر بمعان مجازية مضمرة فيه، ولكن لا يحل لهؤلاء العلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، لماذا؟ لأن التأويل يوصل إليه بالقياس البرهاني، على حين أن مدى ما يمكن للجمهور بلوغه هو القياس الخطابي، فإذا أنت حدثت الجمهور بما لا يفهمونه، أحدثت لهم اضطرابا وحيرة بغير جدوى.
كان الهدف الرئيسي أمام ابن رشد من «مناهج الأدلة» هو البحث «عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها.»
18
وذلك لأن طوائف أخرى من رجال الفكر في عصره، تأولوا ظاهر الشرع بمعان من عندهم، وقدموها للناس على أن تلك التأويلات هي عقائد الإسلام. ولما كانت تأويلات الطوائف المختلفة متباينة متنافرا بعضها مع بعض، أخذت كل طائفة تقذف ما عداها بأنها إما مبتدعة، وإما كافرة مستباحة الدم والمال.
ويعين ابن رشد الطوائف التي يريد مناقشتها من أجل تفنيدها، لكي يتقدم هو بعد ذلك بما يراه في طريقة النظر إلى العقائد، بحيث يتبين صلتها بالتفكير العقلي، فيقول: «وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة: الطائفة التي تسمى بالأشعرية، وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة، والتي تسمى بالمعتزلة، والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي تسمى بالحشوية.»
19 (ولم يذكر الصوفية بين الطوائف، مع أنه تناولها بالمناقشة أيضا).
ويجمل ابن رشد اتهامه للطوائف الأربعة جميعا، قبل أن يبدأ في القول المفصل، فيقول: «كل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى، التي قصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع. وإذا تؤملت جميعها، وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة.»
Bilinmeyen sayfa